حديث الأسبوع

اللعبة الكبرى

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

توارت الأخبار المفزعة المرتبطة باستمرار انتشار وباء كورونا اللعين إلى الخلف، ولم تعد تحتل صدارة الاهتمام فى مختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية. وخفتت أصوات العلماء والمنظمات الدولية التى كانت تجتهد فى التسويق إلى الأخطار الحقيقية والكبيرة المحدقة بحياة الأفراد والجماعات من جراء هذا الفيروس الصغير اللعين. ولم تعد الجائحة أحاديث الخاصة والعامة فى مجالسهم. وفجأة تخلى الفيروس عن شراسته المخيفة ولم يعد يصيب إلا أعدادا قليلة، وتراجعت قدرته الخارقة على التوالد والتناسل، حيث كان فى كل مرة يخرج إلى الوجود فى شكل متغير جديد يحير العلماء قبل الأشخاص العاديين والبسطاء. وتخلت كثير من الدول عن مجمل التدابير الاحترازية المشددة التى كانت قد اتخذتها لمواجهة تداعيات الوباء، واقترب كثير منها من العودة إلى الحياة الطبيعية والمعتادة. ومهم أن نلاحظ أن القوى العظمى كانت تنتظر هذا التراجع والتوارى غير المفهوم لحد الآن لتملأ الساحة بحرب رقعتها قطر بلد، ولكن ساحتها الحقيقية تطال خريطة العالم بأسره.

وفجأة، وبسرعة فائقة تغيرت الأوضاع فى العالم من مواجهة عدو يفتك بأرواح البشرية، واجتهد العالم مجتمعا فى البحث عن أسلحة دمار علمية وطبية للتصدى له، ووضع حد لخطورته على حياة الأشخاص والجماعات، إلى اشتعال حرب مباغتة فى أوكرانيا بين قوتين عالميتين تقبضان بأنفاس النظام العالمى السائد.


عاش العالم خلال السنين الماضية حروب فتك حقيقية لم تكن محظوظة لتنال من القوى العظمى ما حظيت به الحرب الحالية. حروبا أبيدت فيها أرواح الملايين من المدنيين الأبرياء العزل، أطفالا وشيوخا ونساء، ووجد الملايين من مدنيين آخرين أنفسهم مضطرين إلى مغادرة قسرية لمنازلهم وأوطانهم، وإلى اللجوء فى ملاجئ ومَنافٍ تنعدم فيها أبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة، وألقى آلاف آخرون بأنفسهم فى أعماق البحار والمحيطات هربا من الخطر الذى كان يلاحقهم. وقصفت طائرات عسكرية ملايين المدنيين، ودُكت البنايات فوق رءوسهم لمبررات مختلفة ومتباينة. وزحفت مدرعات وطائرات وصواريخ وجيوش على دول، وأسقطت أنظمة ونصبت أنظمة أخرى موالية لها، وواصل الاحتلال فى مناطق أخرى من العالم تقتيل الأطفال والشيوخ وصادر الممتلكات، وداس قرارات صادرة عن الأمم المتحدة. كل هذا ولم يحرك أحد ساكنا، سواء من القوى العظمى أو من الصغار الذين لا يجرؤون عن الكلام فى حضرة الكبار. لكن حينما تعلق الأمر بحالة معينة ترتبط بصلب المصالح المتداخلة بين القوى العظمى قامت الدنيا ولم تقعد، وأضحى العالم بأسره على شفا حرب عالمية ثالثة قد تكون، فى حالة نشوبها لا قدر الله، الجرعة الرابعة والأخيرة فى جسد النظام العالمى وفى روح الحياة الإنسانية جمعاء.
هكذا هو النظام العالمى الجديد، حيث تتسابق القوى العظمى فيما بينها فى البناء والتشييد، وتتزاحم فى مسارات الاختراعات والاكتشافات التى يقال إن الهدف منها تحسين وتجويد الحياة البشرية فوق البسيطة، لكنها فى لحظة معينة، قد تكون مفاجئة، كما هو الحال عليه اليوم، تنقلب نحو الهدم والدمار والتقتيل، وهكذا يصبح العمران مقابلا للخراب، وتصبح الحياة مرادفة للموت، ويتحول التاريخ إلى لحظات أو أزمنة عابرة بدون سياق ولا نسق مفهوم ومقبول، وبدون اتعاظ من طرف هذه القوى التى قد تكون تعتقد أنها تصنع التاريخ، ولكنها فى حقيقتها قد تكون بصدد اقتراف جريمة نهاية التاريخ الإنسانى.


مهم أن نلتفت إلى بعض الأحداث التى طفت من جديد إلى السطح فى إطار التداعيات المترتبة عن الحرب التى تدور رحاها فى الميدان العسكرى وفى الاقتصاد والثقافة والرياضة وفى غيرها من مجالات ومظاهر الحياة. فالتوظيف العسكرى للمجالات غير العسكرية يصبح متاحا وشرعيا حينما تقدر القوى العظمى ذلك فى خدمة أجندتها وحساباتها السياسية والعسكرية، ويصير محرما وممنوعا حينما يكون الأمر عكس ذلك. فمهم أن ننصت إلى نائب فى البرلمان الإسبانى (شخص يمثل أمة) يجهر تحت قبة البرلمان بترحيبه باللاجئين الأوكرانيين الهاربين من العدوان العسكرى العنيف الذى يشنه الرئيس بوتين ضد أوكرانيا، فهؤلاء، حسب ممثل الأمة الإسبانية (هم نساء وأطفال وكبار سن يجب أن يرحب بهم فى أوروبا، وأى كان يدرك الفرق بين تدفق هؤلاء اللاجئين، وبين غزو الشبان فى سن الخدمة العسكرية من أصول مسلمة تم ترحيلهم إلى حدود أوروبا لزعزعة استقرارها واستعمارها)، وهو نفس الكلام الذى ردده مسرح اليمين الأكثر تطرفا فى فرنسا، حينما دعا إلى حصر استقبال المهاجرين من أوكرانيا على المسيحيين البيض. هكذا إذن يتحول الدين واللون والعرق إلى عوامل حاسمة فى قضايا اللجوء والهجرة، فى تناقض تام وصارخ مع القيم الانسانية، بل وحتى مع المواثيق والمعاهدات الدولية التى سنها الغرب نفسه.
ومهم أن نتابع الحملات الكبرى التى تنظم تحت إشراف القوى العظمى لإقناع الأشخاص من مختلف الجنسيات والأعراف والديانات بالتطوع للقتال ضد العدو الروسى فى أوكرانيا، فالأمر هنا يصبح مختلفا عن دعوات القتال التى تطلقها أوساط إرهابية متطرفة تستخدم الأشخاص والجماعات حطبا فى النيران التى تشعلها هنا وهناك، بهدف التقتيل والدمار والفتنة. ومن يدرى فقد يكون العالم بصدد إعادة انتاج تجربة أفغانستان حينما اعتمدت نفس المقاربة التى كانت السبب فى ولادة ظاهرة الإرهاب المقيتة والخطيرة؟


ومهم أيضا أن نتوقف عند قرارات مجموعة من الدول الغربية المشاركة فى الحرب ضد روسيا الغازية لبلد جار، والقاضية بتشديد الخناق على أصحاب المليارات من العملات الصعبة الذين كدسوا أموالا طائلة فى حسابات لهم بالدول الغربية، والتفكير جديا فى تجميد هذه الأرصدة، ووضع اليد على ممتلكات فاخرة لأثرياء روس فى هذه الدول. هو نفس الغرب الذى يعرض إغراءاته لأثرياء أغبياء من مختلف أنحاء العالم لتكديس ما جمعوه وراكموه فى بنوكها بغض النظر عن الكيفية التى تحقق لهم بها ذلك، هو نفسه الذى يتصرف فى هذه الودائع فى إطار حسابات سياسية مرتبطة بطبيعة المصالح الاستراتيجية لهذا الغرب المنافق. والحال أن هؤلاء الأغنياء من أثرياء راكموا ثروات طائلة بطرق غير مشروعة أو قد تكون ملتبسة، أو من الأثرياء الأغبياء الذين هربوا ثرواتهم إلى الغرب تحسبا لتطورات سياسية فى بلدانهم الهشة قد تعصف بما راكموه وكدسوه، ولاقوا مصيرا أكثر قتامة وقساوة فى الملذات التى اعتقدوا فى البداية أنها آمنة، وهم على كل حال يستحقون ما تعرضوا له.


ستضع الحرب فى أوكرانيا أوزارها عاجلا أم آجلا، ولكن ما أفرزته هذه الحرب سيطبع تاريخ البشرية جمعاء، وسيعيد النظر فى بنية النظام العالمى الجديد الذى سيعود إلى تجاذب القطبية القوية.
نقيب الصحفيين المغاربة