• »‬هنا اول طريق مصر- الاسكندرية، فوجئت بقاعدة علمية متطورة تدخل إلي صميم العصر، بالتحديد من معهدالعلوم والتكنولوجيا حيث يعمل شباب مصري مخلص..» • عندما صدرت »‬أخبار الادب» عام ١٩٩٣، حدثني الزملاء عن البريد الالكتروني، وأنه من المفيد أن يكون للجريدة عنوان تصلنا عليه المقالات ويسهل الاتصال، قمت بتحرير خطاب إلي مديرمركز المعلومات الذي كان مقره  في الزمالك، أسسه د.  هشام الشريف، وفي ذلك الوقت كان المسئول عنه د.  طارق كامل، ذهبت إلي مقر المركز القريب من اتحاد الكتاب، كان في ذلك الوقت هو الجهة الوحيدة في الدولة التي تمنح حق استخدام البريد الالكتروني، لم يكن هناك موعد، كنت أنوي تسليم الخطاب فقط وأنتظر الرد، الا أن السكرتيرة طلبت مني الانتظار، ما ان علم د. طارق كامل انني متواجد حتي خرج مرحبا ودعاني إلي مكتبه، حدثني عن روايتي »‬الزيني بركات» وإعجابه بها، علمت انه يمت بقرابة وثيقة إلي د.  عبدالعظيم أنيس احد اعلام اليسار في مصر، الدكتورطارق اصبح فيما بعد وزيراً للاتصالات ويرجع اليه فضل كبير في انتشار الانترنت في مصر، في حدود ما اعلم ثلاثة لعبوا دورا كبيرا في ادخال مصر إلي عصر المعلوماتية، الاساتذة هشام الشريف واحمد نظيف وطارق كامل الذي غادر مصر بعد ثورة يناير ليعمل في المؤسسات الدولية، التقيته في باريس منذ عامين، وكان يمر بأزمة صحية عنيفة تجاوزها بعد صراع طويل. احد المشاريع المهمة في مصر القرية الذكية، كتبت من قبل عن مركزتوثيق التراث الذي يديره الدكتور فتحي صالح ويتبع مكتبة الاسكندرية، في ذلك اليوم شاهدت فيه عرضا مبهرا لتصوير كتاب »‬الخروج إلي النهار» بالوسائط الرقمية، قمت بزيارة سريعة إلي معهد العلوم والتكنولوجيا والتقيت بعميدته الدكتورة هبة صالح »‬لا تمت بقرابة إلي د.  فتحي صالح». في تلك الزيارة السريعة وجدت نفسي امام صرح علمي حقيقي شبه مجهول اعلاميا. ماتزال احدي اهم مشاكلنا تقديس البعيد، كل آت من بعيد حتي لو كان مبتدئا في العلم، او يشغل وظيفة صغيرة في مؤسسة اجنبية له التبجيل، وتفتح له ابواب الاعلام والشهرة الداخلية، وأعلي الوظائف، وصل الأمر إلي حد النصب العلني، بينما يتم تجاهل جهود لعلماء مصريين شباب ومخضرمين يعملون في ظروف صعبة، أرجو ألا يكون الموقف من القرية الذكية فيه بعد انها انشئت في زمن النظام الاسبق، وأن مؤسسها احمد نظيف، روي لي الاستاذ مصطفي امين واقعة جرت بعد الثورة، اذ علم بالصدمة ان ام كلثوم تم منعها من الاذاعة، وكانت الاذاعة هي الوسيلة الوحيدة المؤثرة في ذلك الوقت، بادر بالاتصال بجمال عبدالناصر، وكان علي صلة قوية بمجلس قيادة الثورة وقتئذ، اتصل عبدالناصر بوجيه اباظة الذي كان مسئولا عن الاذاعة وقتئذ، بادره قائلا: ما تمنع الهرم، تساءل وجيه اباظة دهشا: كيف؟، قال جمال عبدالناصر: الهرم ينتمي ايضا الي العهد البائد، ثم قال بصيغة الأمر: ام كلثوم ترجع فورا، يقول مصطفي امين انه في طريق العودة إلي بيته ادارمفتاح الراديو، وكان صوت ام كلثوم يتردد عبر الأثير، أما عن تقدير عبدالناصر لأم كلثوم طوال حياته وحكمه فتفاصيله معروفة، لايعني الانتقال إلي طور جديد بعد أي حدث كبير، مثل الثورات أن كل ما تم تشييده من قبل يجب ازالته، القرية الذكية انجاز علمي يضع مصر في جوهر العصر الحديث، وأتمني زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي والمهندس محلب إلي القرية، سيجدان هناك ما يتمنونه وما طال بحثهما عنه، شباب العلماء وقواعد العلم الحديث، وحتي لا يكون حديثي مرسلا، سأحاول نقل ما عاينته خلال زيارة اطول تلت زيارتي الأولي. مدينة من المستقبل الأربعاء صباحا : بمجرد تجاوز البوابة التي تتخلل السورالخارجي، يدخل الانسان إلي فضاء مختلف، ربما بتأثير العمارة الحديثة والفراغ الذي يتخللها، الالوان متبادلة بين الازرق والابيض، مبني معهد العلوم والتكنولوجيا ذو واجهة زجاجية ضخمة، يشبه واجهة معبد مصري قديم ولكنه في العصر الحديث، مع اجتيازه إلي الداخل نلاحظ الفراغ الكبير الذي نلمح فيه مقهي ومطعما حديثا للوجبات الخفيفة، روعي في التصميم ان يكون موحيا بالالفة، وهذا ما يتسرب الينا في كل التفاصيل، انه معهد علمي غير ان بناءه وداخله لا يوحي بالصرامة التي نجدها في بعض المباني التعليمية، اضافة إلي نظافة واضحة وضوء غامر وحداثة في المنشآت، الشكل مهم ولكن المضمون اهم. المعهد تأسس منذ واحد وعشرين عاما، الهدف العام هو الاسهام في بناء مصر الحديثة طبقا لنظم العلوم المتطورة، تنمية الكوادر البشرية لتلبية احتياجات سوق العمل، في جميع التخصصات المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات والتي تتطلب مهارات احترافية عالية، يوفرها المعهد من خلال تبني احدث التطورات العلمية المتسارعة، مدة الدراسة تسعة شهور، الطلبة من خريجي الجامعات المصرية، بلغ عدد الخريجين حتي الآن عشرة آلاف، نسبة التشغيل تجاوزت الثمانين في المائة، وتقوم برامج المعهد علي تنمية مهارات الطلبة بهدف خلق فرص عمل جديدة وزيادة الدخل القومي من صناعة تصوير خدمات التكنولوجيا والمعلومات، يشارك في هذا البرنامج ست  عشرة جامعة وخمس وخمسون كلية في مختلف انحاء مصر المختلفة، بدأ المعهد بهذا المقر المتقدم الانيق في القرية والآن له فروع في القاهرة والاسكندرية واسيوط والمنصورة والاسماعيلية، يقدم المعهد عدة برامج للتعليم، اولا برنامج التدريب الاحترافي المتخصص »‬٩شهور»، ثانيا برنامج اعدادمديري تكنولوجيا المعلومات، وبلغ عدد من تدربوا وتخرجوا فيه ثلاثة آلاف وثلثمائة وأربعة عشر دارسا اسهموا في تدريب وتعليم ما يقارب اكثر من مليون ونصف المليون موزعين علي ستة وسبعين مركزاً علي مستوي الجمهورية. لاحظت أن مستوي اعمار الاساتذة في المعهد بمن فيهم العميدة التي تتوهج بالحيوية والذكاء لاتزيد عن العقد الثالث، وهذه ملاحظة لفتت نظري في مؤسسة القديس مجدي يعقوب، بأسوان، اعمار الاساتذة هنا متقاربة مع اعمار الطلبة، وبقدر ما يخلق هذا حميمية بقدر ما قد يسبب حساسيات خاصة في البداية، لكن سرعان ما يتم تجاوزها، أهمية عمل المعهد الذي يقوم علي تمويل حكومي كامل، انه لا يعمل من خلال مركز واحد فقط، كماذكرت له خمسة فروع الآن، غير انه يعمل مع مراكز شباب الخريجين في جميع محافظات مصر، بهدف تمكين الشباب من استخدام ادوات تكنولوجيا المعلومات للوصول إلي مستويات كفاءة افضل في العمل، وشملت المناطق الاجزاء الحدودية من الوطن، خاصة في سيناء، وابوسمبل، سيوة، حلايب، شلاتين، كوم امبو ومرسي مطروح، امتد نشاط المركز إلي افريقيا، حيث تم توقيع بروتوكول تعاون مع اوغندة يشمل تدريب ثلاثة آلاف مواطن اوغندي علي تكنولوجيا الاتصالات المتقدمة، كذلك جري اتفاق مع جيبوتي، سألت الدكتورة هبة صالح العميدة عن متابعة التطور السريع في مجال الممعلومات، قالت ان ذلك يتم عبر الشراكة الاكاديمية، وهذا تم بالفعل مع جامعة نوتنجهام بانجلترة، وجامعة اوريغون بالولايات المتحدة، وجامعة لايبزيغ بألمانيا وجامعة بادر بورن في المانيا، وجامعة دبلن للتكنولوجيا،والجامعة المصرية اليابانية، سألتها عما اذا كانت كل مجالات العلوم مفتوحة امام المبعوثين، بمعني، هل هناك مجالات محظورة؟، فنفت ذلك تماما. من أهم خصائص هذا المعهد انه مرتبط تماما بالواقع، من خلال برامج تخدم انشطة الحياة، في الزراعة والصناعة والبحر وفي مجالات اجتماعية مثل الاعاقة، لخصت العميدة الهدف في جملة واحدة: »‬هدفنا أن يعيش المواطن مرتاح..» كيف تتحقق الراحة للمواطن من خلال التكنولوجيا المتقدمة؟ هذا ما سوف افصله بالكامل الاسبوع القادم، خاصة انني رأيت بعض البرامج المبتكرة بواسطة علماء المعهد من الشباب بعضها بالنسبة لي احدث عندي مفعول السحر. علي سبيل المثال، الباحث بشوي جمال، قام امامي بتجربة، أعد برنامجا لمساعدة فاقدي البصر علي تسهيل تعرفهم علي البضائع اثناء تسوقهم بحيث لا يحتاج احدهم مساعدة من اخر، شريحة توضع في جهاز الموبايل، يتم تمريرها علي اي سلعة معروضة فينطق صوت مسموع بالمواصفات والسعر. سأعرض الاسبوع القادم لإنجازات هؤلاء الشباب الذين أثاروا عندي الامل. أفق قاهري السبت : يتجمد زمننا الخاص في صور تستدعيها الذاكرة امابقرار منا، او بسبب مستثيرات مازال ادراك اسبابها عصيا علي الفهم، اقدم ما اراه من صور يمت إلي الافق، كانت الاسرة تسكن الطابق الاخير، الخامس، في بيت قديم بالقاهرة القديمة، حيث ماتزال ملامح المدينة الشرقية التي تأسست وفقا لرؤية يتداخل فيها العمراني بالديني، بالبيئي، بالموروث القديم، المركز منها جامع وجامعة الازهر اول ما وضع القائد جوهر الصقلي اساسه ليكون مركزاً للدعوة الفاطمية الجديدة التي يعتقدها الغزاة الجدد الذين جاءوا إلي مصر من المغرب في القرن العاشر الميلادي، اول ما وضع حجر اساسه المسجد الجامع وقصر الخليفة الفاطمي الكبير، اي رمزي السلطتين الدينية والمدنية، الازهر تحول في القرن الثالث عشر إلي مركز للعالم الاسلامي، اصبح جامعة لدراسة العلوم الشرعية وعلوم الطبيعة والمجتمع ايضا، تدرس فيه جميع المذاهب الاسلامية، اساس الدراسة فيه حرية الاختيار والاعتدال، استمر كذلك حتي تم اضعافه منذ الستينيات بإجراءات حكومية، وبالتالي تمدد التطرف والتشدد، حتي الآن مازال الازهر مركزا ثقافيا، حوله المكتبات القديمة التي تطبع منذ القرن التاسع عشر كتب الفقه والادب والعلوم، كذلك باعة الكتب القديمة الذين كانوا يفترشون الرصيف ومن خلالهم عرفت القراءة. من فوق سطح البيت البالغ ارتفاعه خمسة طوابق، كان ارتفاعا استثنائيا بمقاييس القاهرة القديمة في الاربعينيات والخمسينيات، منه كنت اري مآذن الازهر، ومسجد وضريح سيدنا الحسين، المركز الروحي للمصريين حيث من المفترض وجود رأس الحسين في المرقد الذي احضره الفاطميون من الشام قرب نهاية دولتهم في القرن الثالث عشر الميلادي، الحسين الشهيد الذي انزله المصريون منزلة خاصة وتعلقوا به بدون ان يعتنقوا المذهب الشيعي، كان الحسين رمزا للاستهشاد من اجل قضية عادلة، رمزاً  للفداء، تماما مثل السيد المسيح ومن قبلهما اوزير إله الخير الذي لقي مصرعه في حربه مع إله الشر ست ودفن رأسه في ابيدوس بمصر العليا، وكان المكان اقدس بقاع مصرخلال العصر القديم. كان الأفق القاهري مفتوحا لم يزدحم بعد بالابراج المرتفعة، إلي الغرب كان يمكنني رؤية اهرامات الجيزة وأبوصير وسقارة، وفي الخريف كان الضوء اقل حدة، وتلك الشفافية التي ماتزال تشكل خلفية ذاكرتي، غمامات خفيفة تستقبل ألوان الشمس الغاربة، تمثل فيها كل ألوان الطيف، حتي يغلب عليها اللون البنفسجي قبل اكتمال الليل الوافد، واختفاء الاهرامات التي تقع إلي الغرب، حيث بداية العالم الخفي، الآخر، الذي ترحل اليه ارواح الموتي، من الافق القاهري كنت اري حدود الابدية، ربما بدأ شعوري القوي بالوقت، بالزمن، بالدهر، بالرحيل المستمر من هنا، من طلتي تلك علي الافق المفتوح، الذي لم يعرف التلوث بعد كما هو الآن. إلي الشرق جبل المقطم، إلي الجنوب تمتد الرؤية حتي الفسطاط، متحف مفتوح للمآذن من مختلف العصور التي تعاقبت منذ الفتح العربي في منتصف القرن السابع الميلادي، تبدو ايضا بعض ابراج الكنائس القبطية في الجنوب، خاصة في منطقة الفسطاط. من المشاهد التي تنتمي إلي الافق، حريق القاهرة في ٢٦ يناير من ١٩٥٢، الذي اندلع بتدبير مجهول حتي الآن ليدمر وسط المدينة وليصبح اخطر حدث في الطريق الذي ادي إلي اسقاط النظام الملكي في يوليو من نفس العام بعد استيلاء الجيش علي السلطة وطرد الملك، رأيت النيران البرتقالية تتصاعد ألسنتها لتلتهم الافق، كان عمري سبع سنوات، وكنت اقف إلي جوار ابي، الذي اذكر من عباراته جملتين. »‬النيران وصلت غمرة..» غمرة شمال القاهرة، وكان بها عمارة تعد الاعلي في الافق، فوقهااعلان ملون لمشروب غازي شهير بدأ يظهر بقوة خلال تلك الفترة، العمارة الآن قزمة جدا، لاتبدو حتي لمن يقترب منها بعد ان احاطت بها الابراج، قال أبي ايضا : »‬الطائرات ستطفي الحريق الكبير» اذا تذكرت الغارة الاسرائيلية علي القاهرة خلال حرب ١٩٤٨، والتي يعد سماء القاهرة اقدم صورة في ذهني، قبلها لا أذكر شيئا علي الاطلاق، ثمة شظايا، لا اثق من ورودها قبل او بعد، لكن سماء القاهرة اوضح اللحظات المحفوظة في الذاكرة، من الافق بدأت علاقتي بالتاريخ القديم والاحداث الكبري المعاصرة، إلي السماء رفعت البصر طويلا لأتابع مرور الطائرات الحربية علي ارتفاع منخفض جدا يوم الثالث والعشرين من يوليو عندما استولي الضباط الاحرار علي السلطة. في الدرب المغلق، الذي لم يكن يؤدي إلي درب آخر، كنت ألعب طفلا آمنا، غير أن قصر المسافرخانة الذي وصلنا من القاهرة العثمانية كان مؤججا لخيالي بغموضه، بما يروي عن سكن العفاريت فيه، في الدرب تعرف البيوت بأسماء ملاكها او قاطنيها من الاحياء والاموات، وفي الدرب حياة اخري غير ظاهرة، اسماء العفاريت، والعفريت مخلوق غامض يظهر فجأة في هيئات غير مألوفة، كأن يكون نصفه حيوانا والنصف الآخر انسانا، واحيانا يكون العفريت روح هائمة لمن مات مقتولا وهذا يمكن ان يلحق الاذي، للمكان عالم وقسمات ظاهرة، واخري خفية، طبعا مع التقدم وانتشار الكهرباء في اصغر الازقة، وسهر المقاهي حتي الفجر تتواري العفاريت ويتراجع، يختفي العالم الخفي، هذان العالمان ربما كانا وراء تصوري المستمر ان لكل ظاهر اخر خفياً، كل ما يبدو يخفي شيئا، حتي الانسان، من هنا تقف عوالم بعض رواياتي علي حدود الواقع المحسوس والعالم الخفي غيرالمنظور، كما يبدو في ذلك واضحا في »‬كتاب التجليات» و»‬وقائع حارة الزعفراني» و»‬شطح المدينة» و»‬متون الاهرام» و»‬دفاتر التدوين». لكل مكان ذاكرة، وأقوي عناصر حفظ الذاكرة العمارة، اخرما يبقي من الانسان البنيان، القاهرة القديمة منظومة من تداعي الذكريات القائمة، من الازمنة التي تجمدت في الحجارة المرصوصة، المنقوشة، اينما ولي البصرلابد ان يقع علي مقرنص، أو زخارف حاوية لرموز قديمة من عصور مندثرة »‬مثل الدائرة التي ترمز إلي الكون، الشكل الكامل عند المصريين القدماء والصوفية المحدثين، او المثلث رمز الصعود والتلاشي عند النقطة النهائية في القمة، او الخط رمز الاستمرارية المتتابعة لتجاور النقاط، الحروف المحفورة علي الجدران لآيات قرآنية، نقشها فنانون مجهولون لانعرف اسماءهم، جاءوا وعملوا وأبدعوا ورحلوا بدون ان يتركوا توقيعا اواسما او اشارةتدل عليهم الا فيما ندر، ليس مثل الزخارف التي تزين المساجد ودور العبادة كلها اوعية لحفظ الرموز والاشارات المتوارثة». ذاكرة المكان اثرت ذاكرتي البصرية، كذلك كافة حواسي، خاصة الشم، روائح البخور، والعطور المعتقة المميزة لدور العبادة، استمرارية حضور العطور التي كانت من الرموز الاساسية للاله الخفي، تدل عليه ولاتفسره، تشير اليه ولاتظهره، من اجلها رحل المصريون إلي المحيط الهندي، إلي القرن الافريقي، إلي بلاد العرب الجنوبية، ليعودوا باللبان والبخور إلي معابد طيبة وابيدوس ومنف، العطور من اقوي مستثيرات ذاكرتي المتصلة بالمساجد وأضرحة الاولياء الصالحين، ربما كانت كثافة الذاكرة في القاهرة القديمة وراء تلك الاسئلة التي رحت اطرحها علي نفسي منذ الطفولة : »‬من مر، من عبرمن هنا ؟» »‬من اقام قبلنا في هذه الدار» »‬اين ذهب الامس؟» اسئلة تتصل بصميم القضية التي اصبحت محورا لتساؤلاتي، لاهتماماتي، قضية الزمن، وليس المكان إلا زمناً تجمد، كنت في البداية اظن ان الزمان يولي، يختفي، يطوينا معه وأن المكان ثابت لاينطوي، غير انني مع طول التأمل اكتشفت ان المكان ايضا ينطوي، يختفي حتي لو بقيت شواهده، عندما اتردد علي القاهرة القديمة الآن تختلف رؤيتي تماما للمكان الذي عشت فيه طفولتي وشبابي، الزمان والمكان ينطويان معا، والكتابة فقط هي الجهد الانساني الوحيد الذي يمكن ان يحتفظ بما كان منهما ومن الانسان ايضا، الكتابة تحتوي كل ما يبدو ومااختفي عبر الافق.