تعقيباً علي مقالي الأسبوع قبل الماضي حول الآثار السلبية لتخصيص شهر رمضان المبارك لمسلسلات اللهو واللغو، والجريمة والجنس والمخدرات .. بعث لي أحد الزملاء في مجموعة العصف الذهني بمجموعة دلة البركة، والتي خصصت للاستفادة المثلي من وسيلة التواصل الحميد علي موقع الواتس آب لتبادل النافع والمفيد من الأفكار والمقترحات والمختارات المأثورة في الأدب العربي والعالمي ومواكبة الأحداث الاقتصادية والاجتماعية التي تؤسس للفائدة المتوخاة من هذا التطور الذكي .. أقول بعث لي صاحبي هذا جزاه الله خيراً بمقال كتبه الدكتور والعالم مصطفي محمود يرحمه الله والذي رحل عن عالمنا منذ عشر سنوات بعد رحلته الشهيرة التي أقلع بها من شكٍ ليحط علي مدارج الإيمان، ولينذر نفسه وعلمه وفكره في توجيه انتباه الناس إلي عظمة الخالق سبحانه وتعالي عبر آياته التي فينا ومن حولنا وهو يقول : أفلا تبصرون !!
ولقد تشرفت وسعدت بالتعامل معه عبر المؤسسة العربية للإنتاج والتي أسستها منذ عقود تطبيقاً لمبدأ أعتقده ومتأكدٌ منه وهو : « ما أفسده الإعلام لا يصلحه إلا الإعلام «.
يقول رحمه الله في ذلك المقال :
لماذا لا يحترم الإعلام العربي رمضان ؟
لماذا يتحول رمضان إلي شهر ترفيهي بدلا من شهر روحاني ؟
أنا لست شيخا ولا داعية، ولكني أفهم الآن لماذا كانت والدتي تدير التلفاز ليواجه الحائط طوال شهر رمضان … كنت طفلا صغيرا ناقما علي أمي التي منعتني وإخوتي من مشاهدة فوازير بينما يتابعها كل أصدقائي .. ولم تشف غليلي إجابة والدتي المقتضبة «رمضان شهر عبادة مش فوازير»! لم أكن أفهم منطق أمي الذي كنت كطفل أعتبره تشددا في الدين لا فائدة منه .. فكيف ستؤثر مشاهدة طفل صغير لفوازير علي شهر رمضان ؟
من منكم سيدير جهاز التلفاز ليواجه الحائط في رمضان ؟
مرت السنوات وأخذتني دوامة الحياة وغطي ضجيج معارك الدراسة والعمل علي همسة سؤالي الطفولي حتي أراد الله أن تأتيني الإجابة علي هذا السؤال من رجل مسن غير متعلم في الركن الآخر من الكرة الأرضية، كان ذلك الرجل هو عامل أمريكي في محطة بنزين اعتدت دخولها لشراء قهوة أثناء ملء السيارة بالوقود في طريق عملي وفي اليوم الذي يسبق يوم الكريسماس دخلت لشراء القهوة كعادتي فإذا بي أجد ذلك الرجل منهمكا في وضع أقفال علي ثلاجة الخمور، وعندما عاد إليّ (الكاشير) لمحاسبتي علي القهوة سألته وكنت حديث عهد بقوانين أمريكا :
«لماذا تضع أقفالا علي هذه الثلاجة؟» فأجابني: «هذه ثلاجة الخمور وقوانين الولاية تمنع بيع الخمور في ليلة ويوم الكريسماس يوم ميلاد المسيح » نظرت إليه مندهشا قائلا : أليست أمريكا دولة علمانية .. لماذا تتدخل الدولة في شيء مثل ذلك؟ قال الرجل : «الاحترام.. يجب علي الجميع احترام ميلاد المسيح وعدم شرب الخمر في ذلك اليوم حتي وإن لم تكن متدينا .. إذا فقد المجتمع الاحترام فقدنا كل شيء».
الاحترام … (الاحترام) ظلت هذه الكلمة تدور في عقلي لأيام وأيام بعد هذه الليلة … فالخمر غير محرم عند كثير من المذاهب المسيحية في أمريكا .. ولكن المسألة ليست مسألة حلال أو حرام .. إنها مسألة احترام … فهم ينظرون للكريسماس كضيف يزورهم كل سنة ليذكرهم بميلاد المسيح عليه السلام .. وليس من الاحترام السكر في معية ذلك الضيف … فلتسكر ولتعربد في يوم آخر إذا كان ذلك أسلوب حياتك … أنت حر … ولكن في هذا اليوم سيحترم الجميع هذا الضيف وستضع الدولة قانونا !
أتمني أن نحترم شهر القرآن. ونعرف ماذا نشاهد..
ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوي القلوب ).
... نحن علي قناعة أن إعلامنا نزع مفردة الاحترام من قاموسه..
هل سنتحلي نحن بالقليل من الاحترام ونقلب شاشة تليفزيوناتنا.. أو علي أقل تقدير حذف بعض القنوات والاكتفاء بما يعزز احترامنا لشهر رمضان الفضيل .
انتهي المقال وأردت إعادة نشره بعد عشر سنوات من رحيل كاتبه الأمين الدكتور العالم الجليل مصطفي محمود رحمه الله بفضله وإحسانه جزاء ما قدم لأمته من جهد وفكر أعلم والله أعلم أنه قصد به وجه الله . وهكذا هي الأعمال الخالدة والنيات الصادقة تبقي حيةً حتي بعد رحيل أصحابها، فالفكر المؤمن لا يموت بل يبقي نبراساً يستضاء به علي مر العصور ..
وكل عام وأنتم بخير، واللهم بلغنا رمضان .