منذ سنوات بعيدة اصطحبتني إحدي صديقاتي لزيارة جدتها العجوزفي بلدتها، نظرت إليّ السيدة بفضول ثم سألتني: أنت ساكنة فين؟ أجبت: في مصر الجديدة، صمتت السيدة كأنها تسترجع ماضيا بعيدا، ثم سألتني: تعرفي سلوي؟ لم أكن بالفعل أعرف واحدة بهذا الاسم، فأجبتها بالنفي، لكنها استنكرت إجابتي قائلة: ماتعرفيهاش إزاي، دي عندك في مصر الجديدة، سلوي اللي ف روكسي، اضطررت لتصنع أنني أعرفها حتي أنهي جدلا بدا لي أنه سيمتد إلي مالانهاية: آه طبعا أعرفها، سلوي، سلوي اللي ف روكسي، بس أنا كنت أعرفها زمان. ظل هذا الحوارمثار ضحكاتنا أنا وصديقتي، كلما التقينا بعدها استدعينا النكتة. لكنني في الفترة الأخيرة اكتشفت أنها لم تعد نكتة، ولم تعد تضحكني في الحقيقة، فمن يتابع مثلي الفضائيات المصرية والعربية والمبثوثة من تركيا وغيرها، يكتشف أن النكتة مستمرة حتي إنها فقدت قدرتها علي إضحاك أحد، بل إنها بلغت من السخف ما يوازي نكتا من قبيل «واحد جه يقعد علي قهوة....»، ففي برامج تزعم أنها تهتم بالمواطن العادي البسيط يتصل المواطن أو المواطنة بالقناة معرفا نفسه، أو نفسها، ب»أبومحمد «من الجيزة، أو الحاجة «أم محمد» من بلبيس مثلا، ليسرد شكواه أويصب لعناته أومديحه علي مايحدث في مصر، وتندهش أحيانا من أن أم محمد، مثلا، التي اتصلت بالبرنامج عبر مكالمة دولية قد انتظرت علي الخط طويلا،كما تقول، حتي تتمكن من الوصول للمذيع وبث شكواها المتصلة بغلاء الأسعار في مصر وبالجوع والخراب إلخ. المشاهد الطيب مثلي سيتساءل بالطبع لماذا لاتوفر الحاجة أم محمد من بلبيس نقودها القليلة وتغلق السماعة، بدلا من ضياعها في انتظار الرد علي مكالمة دولية معلقة ؟! باستمرار المتابعة سيكتشف المتابع الطيب مثلي أنه انتقل من الطيبة إلي «العبط»، وهما كلمتان مترادفتان في هذا الزمن، فيعيد تفكيره في تلك المفارقة، ويضم إليها مفارقات أخري، منها «اللاهوية»التي ينم عنها الاسم، وماتبعثه هذه اللاهوية من حميمية مخادعة، ففي كل عائلة من عائلاتنا توجد «أم محمد» بشكل أو بآخر، كما أنه من المؤكد أن سلوي (ما) كانت تسكن في روكسي في اللحظة التي أنكرت فيها معرفتي بها، الفارق بيني وبين هذه الفضائيات، فارق بسيط، هو «الخدعة»؛حين توهمنا هذه الفضائيات أنها تقترب من البسطاء، مستغلة حميمية الاسم، وتداوله، وبساطته، واعتيادنا له، وتجعل منه «نمطا»، تندرج تحت مايقوله أي أم محمد نعرفها، فإذا قالت أم محمد إنها راضية، فكل أم محمد مجهولة مفترضة تشبهها راضية، وإذا سبت ولعنت ستنضم كل أم محمد ساخطة تحتها، بحسب توّجه الفضائية. لكننا لانعرف من هي «أم محمد» في ذلك كله، سوي أنها أنجبت ابنا أسمته محمدا، لانعرف عنه شيئا أيضا، وتنتسب لمكان ما، «بلبيس» مثلا، وهي تختلف بالقطع عن أم محمد التي تسكن في «روكسي»،والتي ستتحدث عن مشاكل أخري (عن قطع الأشجار في الميريلاند، مثلا )، ولابد أن لهما اسمين مختلفين، لكنهما في الحالتين بلاهوية، بلاملامح، وإن كانت كنيتهما الواحدة تجسد، وتجذّر فارقا طبقيا لابد من تعميق هوّته مابين بلبيس ومصر الجديدة. صناعة «نمط» المُشاهد هذه، لاتقتصر علي حدود مصر الجغرافية، فستجد علي القنوات المبثوثة من تركيا، مثلا، أم محمد ثالثة تتصل بالفضائية من فيينا أو برلين لتسرد علينا معاناتها ممايحدث في مصر! بحيث يتراءي للمشاهد أنها تنطلق من كل مكان، أو علي الأصح هي «المكان» ذاته الذي يتم تمزيقه عمدا وبعثرته عبر البلدان، ثم تغليفه داخل «النمط» أو «النموذج» كأية سلعة، حيث تختفي فعليا أي «أم محمد» حقيقية من لحم ودم وتصير أبواقا، لتمرير الأفكار المتجاوزة مفهوم الوطن، ولتصدير ذلك الصريرالمعدني لفضائية ما. (كتبته:فاطمة..من الجيزة)!