تنقلك العشرة الأواخر من رمضان نقلة زمانية ومكانية تجعلك تخترق حاجزي الزمان والمكان لتحلق بعيدا معلقا ناظريك بالسماء آملا أن يبلغك الله ليلة القدر. وإذا كان اختراق الطائرات لحاجز الصوت يكسر زجاج النوافذ، فان اختراق حاجز الزمان والمكان في العشر الأواخر يجعلك تكسر كل حاجز يمنعك من قول الصدق وتطهير قلبك من النفاق والحقد والغل وشهادة الزور والغيبة. وتلقي بحمولة هذه الأوزار كلها لتدك بها مواقع الشياطين. نقلة الزمان والمكان تعيشها حين تنسي أولادك وأهلك وكل من تعرف خلال السويعات( قد تكون ساعات أو أيام) التي تنفرد فيها بنفسك معتكفا تتنقل بين المصحف والمسبحة وسجادة الصلاة، متبتلا إلي الله راكعا ساجدا خاشعا له وحده في مناجاة راقية تعيشها كأنك في الجنة. فهي خلوة مع رب الأكوان تحس خلالها أنه ليس علي أرض هذا الكوكب مع الله سواك « وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا» قرآن كريم. في هذه السويعات تغمرك روحانية وصفاء يجعلك تشعر بالتسامح مع كل الناس، حتي من ظلموك وآذوك واغتابوك وغدروا بك وطعنوك في ظهرك، فتسكن جميع جوارحك فضيلة الصفح الجميل والعفو النبيل إلي درجة تمسح معها من ذاكرتك كل الإساءات السابقة، لتتذكر فقط من وقفوا بجانبك وساندوك وأيدوك وحفظوك ودافعوا عنك. وهكذا تجعلك نفحات العشر الأواخر من رمضان إنسانا من طينة أخري تتبدل فيها كل النوازع الشريرة ليستقر في وجدانك مكارم الأخلاق ودوافع الخير والعمل الصالح. يعلو فيها حسن الظن بالناس والتماس الأعذار لهم والبعد عن تتبع عوراتهم «طوبي لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس» (حديث شريف ) وطوبي لمن حافظ علي هذه المكارم بعد الأيام العشرة التي أقسم الله بها في كتابه الكريم. ليكون المسلم قرآنا يمشي علي الأرض وسنة تطبق في الأفعال والأقوال. وتعلمك كل هذه الأوقات المباركة فضيلة الزهد في الحياة الدنيا، فكل ما تحتاجه في ساعات الاعتكاف هما وجبتان خفيفتان من أبسط الأكلات، وبساط تستلقي عليه ساعات نومك القليلة استعدادا ليوم جديد من التعبد والتبتل والتهجد والصلوات والدعاء «اللهم أعني علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك». وتذكرك ساعات أو أيام الاعتكاف بالآخرة وأن الحياة الدنيا هي فعلا متاع الغرور، فلا ركوض وراء مناصب أو مال أو دنيا نصيبها أو أمرأة ننكحها. فكله إلي زوال ولن ينفعك إلا ما قدمت من خير وعمل طيب ونصرة للمستضعفين والمظلومين والمقهورين، فالمؤمن كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم «كالغيث أينما حل نفع». اللهم بلغنا ليلة القدر، خير ليلة طلعت عليها شمس الدنيا، وارزقنا خيراتها وبركاتها ونفحاتها واسبغ علينا من نعمها، وادخلنا الفردوس الأعلي من الجنة، فان يدخلنا ربنا الجنة هذا أقصي ما نتمني.