بستان الكتب

الفلسفة الخالدة: رد فعل هكسلى اليائس ضد الحرب

كتاب الفلسفة الخالدة
كتاب الفلسفة الخالدة

أحمد الزناتى
 

وقعتُ أول مرة على مصطلح الفلسفة الخالدةThe Perennial Philosophy  فى لقاء تليفزيونى لعالم الميثولوجيا الأمريكى جوزيف كامبل، مرفوعاً إلى الحَبـر الأعظم كارل جوستاف يونج، وكان مدارُ الحديث أطروحة أستاذه يونج القائلة بأن الأشكال الرمزية (الأساطير والحكايات الخرافية والأمثولات الدينية) التى تتجسد بها الحكمة لا ينبغى تفسيرها على أنها شخصيات أو أحداث تاريخية مفترضة أو حتى واقعية بل ينبغى تفسيرها تفسيراً نفسياً وروحياً كإشارة إلى الإمكانات الداخلية للروح باعتبارها صوان الحكمة الأبدية، بينما ذهب كامبل إلى أن الفلسفة/الحكمة الخالدة هى صنو القوة الإلهية الحاضرة فى قلب كل إنسان استطاع أن يتعلّم كيف «يُفـعّـل» فكرة الإلـه الواحد ويكتشفها داخل نفسه.
 

كتاب الروائى والمفكر البريطانى ألدوس هكسلى «الفلسفة الخالدة» بترجمة الدكتور أحمد سمير سعد ، الصادر عن دار آفاق، عمل ثري، أتمنى أن يكون بادرةً لترجمة مزيد من النصوص التأسيسية فى هذا المضمار، ولاسيما أعمال رودولف أوتو وهنرى كوربان والراهب اليابانى د.ت.سوزوكى وألان واتس وجيمس هيلمان وميرتشا إلياده وجوزيف وكامبل وغيرهم من روّاد اللاهوت التجريبى لو استعرنا تعبير هكسلى أو الروحانيين الجـُدد كما أحب أن أسميهم.  


يشير المؤلف فى المقدمة إلى أن المصطلح صكّه الفيلسوف وعالم الطبيعة الألمانى جوتفريد لايبنيتس  )1646-1716)، وقصد به الميتافيزيقا التى تميّز الحقيقة الإلهية فى عالم الأشياء والحيوات والعقول أو السيكولوجيا التى تجد فى النفس شيئاً مناظراً ومُماثلاً للحقيقة الإلهية، برغم أن المصطلح - حسب علمي-  صيغَ قبل ذلك بأكثر من قرن، وتحديداً فى عصر النهضة على يد الفقيه اللاهوتى واللغوى الإيطالى أوجوستينو ستيكو Agostino Steuco (1497-1548) وذهب فيها إلى فكرة وجود جوهرٍ للحكمة المشتركة فى الأديان كافة.


 كتاب هكسلى بحسب كلماته هو أنطولوجيا (مبحث الوجود) الفلسفة الخالدة، وقوامه اقتباسات وشواهد منسوبة إلى مفكّرين وفلاسفة ولاهوتيين ورهبان من الشرق والغرب، مشفوعة بتعليقات شارحة انطلاقاً من رؤية هكسلى الخاصة إلى مفهوم الأصل الإلهى المشترك، بمعنى أن مبدأ هكسلى فى الكتاب قائم على دراسة النصوص وفحصها. 


سأشير فى السطور التالية إلى نقاط بعينها استرعَتْ انتباهي. فى البداية لفت نظرى سعة اطلاع هكسلى على نصوص الحكمة الشرقية وإشاراته إلى عارفين من أمثال بايزيد البسطامى وأبى سعيد بن أبى الخير وإسماعيل بن عبد الله الأنصارى والنفّرى وغيرهم، ولمـستُ من تلك الاقتباسات تعلقاً شخصياً من جانب هكسلى بهذه النصوص، وتأكد ظنى -  لاحقاً -  كما سأوضّح.


النقطة الأولى متعلقّة بمعضلة سرمدية الفلسفة الخالدة، بمعنى قدرتها المتجددة على أن تكون معاصرةً للإنسان مهما مـرّ عليها الزمان، فالنصوص الهندوسية المقدسة مثلاً اعتُبرت لا بمثابة أناجيل موجودة منذ أبد الآبدين وحسب، فهى معاصرة للإنسان بقدر من هى معاصرة لأى كائن من منظور مماثل، مُشيراً إلى أرسطو الذى رأى فى حقائق الدين حقائق أزلية غير فانية، لم يخلُ تاريخ البشرية من فترات تقدم وتراجع، لكن الإنسان – وفق كلام هسكلى – كان على وعى دائم بالحقيقة الكبرى عن الرب وأنه المحرك الأول لكون معـزوّ بالكامل إليه. 
أما النقطة الثانية فمتصلة بعلاقة الأسلوب الأدبي/اللغة بالفكر والوجود. يشير هكسلى إلى أن العلاّمة إيكهارت Meister Eckhart، اللاهوتى والصوفى الألمانى كان ضحية مهاراته الأدبية مثله مثل القديس أوغسطين. فى عالم الأدب يُقال دائماً إن الرجل هو الأسلوب لأننا عندما نحظى بملكة الكتابة وفق نمط معين نقولب أنفسنا بما يشابه نسق بلاغتنا الخاصة، ولا أدلّ على ذلك من شذرات العارف الصوفى عبد الجبار النفّرى التى ماثلتْ فى صياغتها وإيجازها الغامض سيرة حياته الأشدّ غموضاً. ويبدو أن هكسلى أدرك أهمية النفّرى – على المستوى الشعرى والرمزي- فأشار إليه فى صفحة 371، مقتبِساً شذرة من المواقف والمخاطبات من موقف البحر: «خاطَر من ألقى بنفسه ولم يركب»، مقارناً إياها بما ورد فى الإنجيل بأنه على الإنسان أن يهلك نفسَه كى ينقذها.


 ثم يضرب مثلاً بعبارة الأب إيكهارت «الربّ ليس صالحاً، أنا صالح»، والتى تعنى «أنا صالح صلاحاً بشرياً، أما الربّ فصلاحه فوق من يُمكن استجلاؤه وفهمه».  تقترب هذه العبارات الجسورة بشطحيات الحلاج «ما فى الجبة إلا الله»، أو قول الشيخ الأكبر «حدّثنى قلبى عن ربي»، أو قول بايزيد البسطامي:» خُضنا فى بحر وقف الأنبياء بساحله» وفسّرها عبد الوهاب الشعرانى فى كتابه الموجز «الفتح فيما صدر عن الكُــمَّـل من الشطح» بأنه بينما يخوض العارفون بحار المعرفة الإلهية يقف الأنبياء على الشاطيء يرشدون وينقذون (راجع: الأعمال الكاملة للبسطامي،المدى  2004، وراجع: شحطات الصوفية لعبد الرحمن بدوي، الكويت- بدون تاريخ).


إلى جانب القيمة المعرفية للكتاب فإنى أُعلى من شأن قيمة أخرى وهى القيمة الجمالية للنصوص محل الاستشهاد، أقصد عذوبة نصوص الحكمة الخالدة التى أوردَها هكسلى فى كتابه (وقد صرّحَ هكسلى بذلك فى المقدمة)، التى شكّلت متناً موازياً وداعماً للمتن الأصلى للكتاب، وإن ارتبكتُ فى بعض المواضع لعدم ذكر هسكلى لمصادره، وخاصة من النصوص الإسلامية، ونسبة بعض المقولات إلى غير أصحابها، كمقولة: «الصوفى ابن وقته» التى ينسبها هكسلى إلى جلال الدين الرومي، وهى مقولة شائعة، ينسبها البعض إلى بايزيد البسطامى وآخرون إلى العارف أبى الحسن الشاذلى وغيره، وربما مـردُّ ذلك إلى عدم اطلاعه على النصوص فى لغتها الأصلية. يحكى المترجم المصرى محمود محمود (شقيق د. زكى نجيب محمود) فى مقدمة ترجمة رواية الجزيرة أنه التقى الكاتبَ الكبير فى منزله فى مدينة بيركلى بالولايات المتحدة وأن هكسلى أخبره بإيثاره العرفان الإسلامى على التصوف البوذي؛ لأن النوع الأول مُنشئ بَنَّاء، فى حين أن التصوف البوذى سلبى هدَّام، لا يحثُّ على عمل، ولا يدفع إلى خلق أو ابتكار. وأخذ يروى له أبياتًا من الشعر بالإنجليزية هى ترجمة لأشعار جلال الدين الرومى الذى أبدى إعجابًا شديدًا به (راجع: مقدمة ترجمة رواية الجزيرة، هنداوى 2019). 
فى فصل مهم بعنوان الحقيقة يلاحظ هكسلى استخدام كلمة «حقيقة» فى المتون الدينية استخداماً غير مُحدد، لأنها تأتى بثلاثة معان على الأقل مختلفة ومتمايزة. فيورد مقولة العلامة إيكهارت:» أياً ما تقوله عن الرب فهو غير حقيقي»، أو ما  يُطلق عليه اللاهوت السلبي، بمعنى الحديث عن الإله بالتنزيه المطلق عبر نفى كل صفات النقص عنه، فالكلمات أعجز من وصف الحق، أو وفق تعبير النص القرآني: »ليس كمثله شيء« فى سورة الشورى - الآية 11، أو لو استخدمتُ تعبير النفّرى فى المواقف والمخاطبات:»الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف يخبر عني»، ضارباً المثل بالقديس توما الأكوينى الذى صرّح أن كل ما كتبه مجرد هباء منثور مقارنة بالمعرفة المباشرة (اللدنية؟) التى وُهبت له، ومشيراً إلى أبى حامد الغزالى الذى تحوّل من العناية بالحقائق حول الله إلى  التأمل، وأضيف إليهم الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي.  ففى منتصف كتاب ميشيل شودكيفيتش عن محيى الدين بن عربى «بحر بلا ساحل» إشارة إلى ما يشبه استحالة الإحاطة بالفتوحات المكية إحاطة شاملة، وأن كتاب الفتوحات ربما سيبقى إلى الأبد ممتنعاً على الجميع، لأنه بحسب تعبير ابن عربى علم لدنى يصدر عن إملاء إلهي، سابقاً بكلامه – طبعاً- هكسلى بقرون عدة. وهذا ما يهمنى فى الموضوع برمته. فى أى وقت نسمع كلمة الحق/الحقيقة علينا – فيما أظن - أن نتوقف دائماً ولوقت طويل ونسأل عن معنى الكلمة وعن غاية المتشدّق بها، بذلك سنحمى أنفسنا من التشوش الذهني. الحق غيب مفارق، يمكن التلويح إليه فقط من بعيد، من دون القبض عليه أو الإحاطة به. 
>>>
موضوع الفلسفة الخالدة بحسب كلام هكسلى هو الإلمام بطبيعة الوجود الروحى الأزلي، إلا أن اللغة المصوغة بها طُورت من أجل التعامل مع الظواهر الزمنية، وهذا هو السبب وراء أننا نجد فى كل هذه الصياغات شيئاً من التناقض، فلا يُمكن وصف الحقيقة على وجه اليقين باستخدام رموز لفظية. اللافت فى الأمر أن كُتاب الروحانيات (مثل رهبان الزنّ) استخدموا العبارات المسرفة الهزلية من أجل تأكيد الحقائق الفلسفية التى يعتبرونها شديدة الأهمية. الكلمات ليست حقائق، وإذا أخذناها بجدية شديدة فسنضلّ سبيلنا فى غابة الزهور البرية المتشابكة ذات الأشواك، لكن على العكس إذا لم نأخذها بالقدر الكافى من الجدية فسوف نظلّ غير منتبهين إلى وجود سبيل قد نضيعه أو هدف نصل إليه. يضيف هسكلي:» لقد تحدّث يسوع عن نفسه بوصفه مَن جلب إلى العالم شيئًا أسوء من الزهور البرية ذات الأشواك: السيف، كما فرّقَ القديس بولس بين الحرف الذى يقتل والروح التى تُــحــيي.»
فى فصل آخر بعنوان:» كان الدين قادراً على دفع الرجال إلى قمم الشر تلك»، يتساءل هكسلى لماذا ظهرت الأرواح الكثيرة الزائفة إلى العالم التى خدعت نفسها وخدعت الآخرين بالنار الزائفة والنور الزائف، مُدعية امتلاك المعرفة والحقيقة المطلقة؟ الإجابة هى أن هؤلاء الرجال (تُجار الدين) تحولوا نحو الرب من دون التحول عن أنفسهم، عندئذ تظهر صورة الدين الذى تتحكم فيه الذات/الأهواء والمطامع الشخصية أو الطبيعة الفاسدة فى استجلاء الرذائل وحدها، يقول هكسلى إن المعادلة بسيطة، لكنها برغم بساطتها تفسّر كل الحماقات والمظالم المرتكبة باسم الدين، المظالم التى اقترفها المنجذبون إلى استخدام اسم الرب فى سعيهم نحو الوصول إلى السلطة (وما أكثرهم)، وأزيد فأقول فى سعيهم إلى استمالة العامّة والبسطاء بشعارات ساذجة. 
فى فصل بعنوان الخير والشر يقارب هكسلى المعضلة الأزلية عبر طرح مجموعة من النصوص التى تمخضتْ عنها قريحة فلاسفة ولاهوتيين انتقاهم المؤلف فى بحثه عن صوان الحكمة الخالدة. كانت مقاربة هكسلى ممتازة فى الواقع، حـلَّ المعضلة عبر مقولات أدْعَــى إلى التأمل منها إلى الدخول فى مجادلات لاهوتية طويلة كالتى خاضها القديس توماس الأكوينى أو التى خاضها علماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة فى تراثنا العربي. 
خلاصة القول: الخير فى نظر الفلسفة الخالدة هو توافق الذات البشرية مع الأصل الإلهى الذى منحها كينوتها وفناءها، أما الشر فهو رفض معرفة أن هذا الأصل [الإلهي] موجود من الأساس. 


فى الفصل الخامس والعشرين يشير هكسلى إلى مسألة الشعائر الدينية التى برغم أهميتها الوجدانية ينبغى ألا تتحول إلى غاية فى حد ذاتها أو إلى طقس وثنى لا يرتقى بالسلوك البشري، فأبسط أشكال الممارسة الصوفية هو تكرار اسم الله كما يجرى فى حلقات الذكر الصوفية عند المسلمين، أو تكرار الترنّم بـ أوم OM فى الصلوات الهندوسية والبوذية التبتية، لكن هذا على أى حال لا يكفى من دون نيّة مجرد صافية ناحية الرب، وكلما كانت الكلمة أقصر توافقتْ مع عمل الروح، وهذه الكلمة بحسب هكسلى هى كلمة رب أو كلمة حـب، اخترْ أياً ما تريد، سيّان. الطريف أننى لاحظتُ أن أغلب التطبيقات المساعدة على التخلص من الأرق والاسترخاء المتاحة على الهواتف الذكية ما هى إلا تنويعات على ترنيمة OM التِـبـتـية المبثوثة مجاناً على يوتيوب (Tibetan Monks Chantiing OM).  
>>>
بعد قراءة الكتاب برز عندى السؤال التالي: ما الذى دفع هكسلى لتأليف هذا العمل المنشور للمرة الأولى فى سنة 1945، أى بعد تحقيقه شهرة أدبية واسعة بعد نشر عالم جديد شجاع سنة 1932، وكذلك بعد انتهاء الحرب وانتصار بلاده وكان فى الحادية والخمسين وقتها، وربما (بل على الأرجح) أنه عكف قبلها لمدة  سنوات طويلة على جمع المادة العلمية الهائلة وفحصها؟  
يروى سورين كيركجارد حكاية رجل طموح مضى طَوال حياته شارداً، شغلته الدنيا وغلّف قلبه السعى وراءها، فذهب بعيداً، بعيداً جداً. ربما يكون صاحبنا قد اضطر لمواجهة ضباع وحيات، ربما كان مؤمناً بمقولة المسيح: «ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حُكماء كـالحيَّات (متى 16:10) فارتدى جلودهم مُنسلخاً عن حياته التى أرادها ومنفصلاً عن وجوده الأصيل، فصار لا يكاد يعرف نفسه إلى أن يستيقظ صباح يوم فيجد نفسه ميْـتـًا. 
يختلف شكل النصف الثانى فى حياة عديد من الناس اختلافًا هائلًا عن شكل حياتهم فى النصف الأول، وكأنك فى الشطر الثانى من حياتك (أو عتبة الأربعين الرمادية كما يسمّيها يونج) تحاول العثور على تفسير حكاية غامضة كتبها النصف الأول، برغم ألا يد لك لا فى الأول ولا فى الثاني. يفرض التغيّر نفسه مع بداية الشطر الثانى فيبدأ بوتيرة هادئة لكنها آخذة فى النمو. فتكتشف أنك مهما حقّقـتَ من أهداف ومهما بلغتَ من غايات فلن تراها مثلما كنتَ تراها وهى بعيدة المنال، لأنها فقدتْ شيئًا من سـحرها ورونقها. 


فى النصف الأول من حياته عُرف ألدوس هكسلى بأنه الكاتب المستهزئ بالدين أو بكارِه الربّ على حد تعبير إحدى الصحف. ألدوس هـو حفيد توماس هنرى هكسلي، العالم الفيكتورى الشهير الساخر من العقيدة المسيحية. لكن فى عقد الثلاثينيات انهارت أفكاره ولم يعد ذلك المثقف المادى الأربعينى بقادرٍ على تحمل العيش فى عالم مادى خلو من المعنى، وبدلاً من التحول إلى المسيحية التقليدية  كما فعل أقرانه من أمثال تي. إس. إليوت، لجأ هكسلى إلى الروحانية العلمية. كانت الفلسفة الخالدة ردّ فعل هكسلى اليائس ضـد الحرب. وهذا ما يفسر – لى على الأقل- التشاؤم السياسى العميق للكتاب بعد أن حاول الرجل إيقاف الحرب وفشل، وهو التشاؤم الذى لسمته بوضوح بين صفحات الكتاب، ولا سيما الفصل الثانى عشر، إذ يقرّ صراحة أنه لا يعوّل على المذاهب الدينية والسياسية كافة: بداية من مُبجّلى الإنجيل البروتيستانت وصولاً إلى اليعاقبة والبلاشفة والقوميين واليمين واليسار على حد سواء. نقرأ فى الفصل العشرين:» كان تبرير الآثام فى الماضى هو الرب أو الكنيسة أو الإيمان، أما اليوم يقتلُ المثاليون ويعـذبون باسم الثورة والنظام الجديد وعالم الرجل العادى (رجل الشارع)، وكأنه يردد المثل العربي: البستان كلّه كرفس.  


رأى الرجل أن أغلب البشر مستَـعـبدون لألوان متباينة من عبادة الأصنام والفهم المبتذل للدين: عبادة المادة والتكنولوجيا. كانت كل تلك الأشكال بالنسبة إلى هكسلى لوناً من ألوان «ديانات الزمن»، وربما قصدَ بتعبيره السابق العقائد العابرة، التى تضع إيمانها فى المنجزات المادية وحدها. وفق رؤيتى للأمـور، ربما يكون هو السبب الرئيس  وراء تأليف هذا العمل، وكفى بهكسلى أن يكون تأليف هذا الكتاب غاية حياته.  


نعرف أن هكسلى تعاطى عقار المسكالين المهلوس فى منزله تحت إشراف طبى للدخول إلى تجربة روحانية أو صوفية عميقة أوردَ طـرفاً منها فى عمله الموجز The Doors of Perception، وهو كتيب ممتع صغير ومتاح مجاناً فى نسخة لا تتجاوز كذا وعشرين ورقة. كانت تجربة تعاطى العقار المهلوّس موضع انتقاد حاد من د. يونج وقتها (راجع: Letters of C. G. Jung: Volume 2, 1951-1961 – من رسالة إلى الأب فيكتور وايت مؤرخة فى 10 إبريل 1954)، حيث قال إن المرء لا يحتاج إلى عقاقير أو منشطات للدخول إلى تجارب روحانية لفهم نفسه ومعرفة ربه، ومَن عرف نفسه عرف ربَّـه كما يقول الأثر، إذ تكفى المرء الانتباه إلى أحلامـه وقراءة حكمة القدماء كما أوصى يونج فى أحد حواراته. قرب نهاية الكتاب أوردَ هكسلى شذرة منسوبة إلى راهب سورى اسمه الأب اسحاق من دالاماتيا تقول:» خـذْ مقطعاً شعرياً من أية ترنيمة، وسوف يكون درعك وترسك ضد كل أعدائك.»