آه ما أقسي الجدار/ عندما ينهض في وجه الشروق./ ربما ننفق كل العمر.. كي ننقب ثغره/ ليمر النور للأجيال.. مرة!»

كثيرون من الجيل الحالي لايعرفون عدلي فخري، وربما حتي من الذين عاصروه، لأنه كان يقدم فنا مختلفا هذا ما كتبه عماد الدين حسين (الشروق 3/12) بمناسبة ذكري وفاة الفنان في 28 نوفمبر، معرفا به، بعد موته بـ 16سنة! كنت أقرأ المقال وأنا أردد شعرا لأمل دنقل: «آه ما أقسي الجدار/ عندما ينهض في وجه الشروق./ ربما ننفق كل العمر.. كي ننقب ثغره/ ليمر النور للأجيال.. مرة!» وكنت أسائل نفسي كيف أنساني كل هذا الصخب ذكري أستاذي وصديقي؟! مسيرة الفنان والمناضل كما قدمها عماد حسين، لايعرفها كثيرون، لكن ما قدمه لآخرين، كنت من بينهم، لايعرفه أحد. في تلك الليلة البعيدة من أوائل الثمانينيات تعرفت علي «عدلي» في أحد العروض المسرحية التي كان يغني فيها علي مسرح الغرفة- مسرح الشباب حاليا- كان يغني وقد علق عوده علي كتفه كبندقية! وكان المسرح قاعة صغيرة كأنها دائرة أصدقاء حميمين، يصفقون ويتمايلون وتسيل دموعهم ويهتفون وراءه:»سكة الحرية تبدأ/ فوق سطور الكراريس»، بدت جدران الغرفة لي وكأنها تتشقق بصوته الأجش، وتئن كأنينه للحرية، في تلك الليلة أعطته الشاعرة الشابة، التي كنتها، ديوانها الأول، وانتظرتْ رأيه. كان عائدا، كما يذكر عماد حسين، من بيروت عام1982، مكسورا بعد إخراج المقاومة من بيروت إلي تونس، وبعد أن ظل في بيروت طوال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ملتحقا بالمقاومة، وليغني للفدائيين، كنت واثقة أنه سيعجب بقصيدة كتبت فيها:»بيروت، ليه الناس بتموت»؟ حين التقينا انتظرت عبارات الثناء، لكنه بدا منزعجا جدا منها، وهو من رأي الموت، حين أشفق علي خيبتي قال لي بهدوء:» فيه شاعر يسأل ليه الناس بتموت؟! الشاعر لازم يفهم ليه عشان دورهيدين القتلة». توطدت صداقتنا وحملتني إلي المسرح، فكتبت المسرحية الوحيدة في حياتي»الليلة التانية بعد الألف» وأعطيتها له بفخر، كنا في منتصف الثمانينيات، وكنت اعتدت علي تحمل ضربات نقده الأولي، حتي يبين لي وجه المعلم المهموم بتلميذته، بعدها بليلة مر علي بسيارته، ظل يسير ذهابا وإيابا في طريق المطار صامتا، كأنه يفكر فيما سيقوله، كنت صامتة أيضا أنتظر رأيه كمن يخوض امتحانا عسيرا، أوقف السيارة والتفت لي: شفتي مسلسل «الحب وأشياء أخري؟» لم أتوقع السؤال، كان تركيزي منصبا تماما علي ذاتي ومسرحيتي، غمغمت بضجر: شفته (كان المسلسل يحكي قصة فنان شاب تشغله مشاكله اليومية والعاطفية عن فنه) قال:»أنتِ ده»، كان الدرس في تلك الليلة أشد قسوة من قدرتي علي احتماله حين أكمل: «شوفي يا فاطمة أنت حد موهوب جدا بس قدامك حل من اتنين يا إما تشتغلي علي الموهبة دي وتذاكري، يا إما حتبقي مجرد «فقاعة»، أذهلتني قسوة الكلمة، ولم أعد أسمع شيئا مما يقوله، تركته وأنا أردد بغضب : «فقاعة؟! أنا فقاعة؟!»، لكن شيئا حقيقيا مبهما في كلامه دفعني بعد أيام من البكاء والغضب إلي أن ألتحق بالدراسات الحرة بقسم الدراما في معهد المسرح، لأتعلم عاما كاملا قبل أن أعيد كتابة المسرحية! تسلمها مني مبتهجا، ليقرأها، ويدفع بها، بحماس، إلي العرض. في أوائل التسعينيات كان يعيش برئة واحدة، وكنت أزوره في الأستوديو الصغير ليسمعني آخر ألحانه، ويذكّرني بأن شريط «الانتفاضة»، الذي لحنه، لايزال يوزع، سرا، في الأرض المحتلة، وكان لايزال يغني من كلمات محسن الخياط: «حط طوبة علي طوبة / العركة تفضل منصوبة/ شمس الصباح المحبوبة/ لازم تنور ف معادها»، حين لم تنور الشمس في التسعينيات الحزينة، كان كثيرا ما يقطع اللحن ويغلق الكاسيت قبل أن أري دموعه ويصيح بي «سيبك م المزيكا، ياللا نروح الحسين». حين مات في 1999، كان عليّ أن أكمل الطريق دون صديق استثنائي مثله، وحين كنت أيأس وأترك أوراقي، كنت أتذكر كلماته:» ماتيأسيش لما تبقي الإشارة حمرا، لازم نشتغل، عشان نبقي جاهزين ونعرف نعدي صح، لما تخضر».