مع أفراح القناة تعاودني الذكريات، ومعها الإحساس الرائع بالفخر والشعور الفياض بأن تضحيات أجيال عديدة لم تذهب سدي. وها نحن نصنع التاريخ ونثبت جدارتنا بأن نكون الأمة القادرة علي أن تهب الإنسانية كل ما هو جميل ورائع ونافع.

تفتحت عيوني علي الحياة بالقرب من شاطئ القناة. في بورسعيد الجميلة كانت أولي النسمات التي تنفستها تجمع بين هواء البحر المتوسط وقناة السويس. مع تفتح الوعي كان الإحساس بالإذلال المزدوج.. من ناحية كان الاحتلال البريطاني الذي كان يتخذ من القناة موقعا لثمانين ألف جندي وأكبر قاعدة عسكرية في المنطقة كلها.
ومن ناحية أخري كانت قناة السويس في قبضة شركة أجنبية تمثل دولة داخل الدولة.
وكانت دماء المصريين الذين حفروا القناة تتحول إلي أموال طائلة تدخل خزائن الشركة في الخارج، بينما لاتأخذ مصر إلا الفتات، ولا يحصل المصريون إلا علي نسبة ضئيلة من الوظائف الصغيرة، بينما الإدارة العليا كلها بعيدا عن مصر والمصريين.
بعد كفاح طويل أرغمت ثورة يوليو بريطانيا علي توقيع اتفاقية الجلاء وانهاء الاحتلال الذي جثم علي صدور المصريين لأكثر من سبعين سنة. كان تنفيذ الاتفاقية يستغرق عاما ونصف العام. بين الشك واليقين عاش الناس هذه الشهور حتي تحقق الأمر وخرج آخر جنود الاحتلال ورفعت مصر علمها فوق القاعدة العسكرية في هذا العام الذي كنا فيه علي موعد مع تاريخ جديد عام ١٩٥٦.
إنزاح كابوس الاحتلال العسكري، وبقي الكابوس الآخر.. كابوس اغتصاب قناة السويس وابقائها خارج السلطة الوطنية. لم يكن السؤال مثاراً علي الساحة، لكنه كان رابضا في الذاكرة الوطنية منذ سنوات طويلة ينتظر اللحظة المناسبة. وكان الكل يدرك أن السؤال لن يثار في وجود قوات احتلال وقاعدة عسكرية أجنبية، وصراع علي مستقبل المنطقة، وضغوط كانت تقودها أمريكا لفرض أحلاف عسكرية تعيد الاحتلال بصورة أخري ورفض مصري لذلك، وإصرار علي تحقيق الاستقلال الكامل والتنمية الحقيقية والقوة التي تحمي ما تبنيه الإرادة الحرة للمصريين.
وهكذا.. في نفس الوقت الذي كانت مصر تتخلص فيه من الاحتلال البريطاني، وتقاوم الضغوط وتخوض المعركة ضد الأحلاف ومن أجل تحرير باقي الوطن العربي.. كانت تبدأ معركة التنمية وإقامة الصناعة الوطنية وكانت تسعي لضمان التمويل لبناء مشروعها الأكبر في هذا الوقت «السد العالي».
لم تكن قد مضت إلا أسابيع قليلة علي خروج آخر جندي بريطاني من قاعدة القناة، حتي فاجأتنا امريكا بقرار سحب تمويل السد العالي. ووقف العالم يترقب كيف سترد مصرعلي هذه الإهانة، وكان آخر مايتوقعه الجميع أن يكون الرد هو هذا «الزلزال» الذي فجره عبدالناصر في تسع كلمات غيرت وجه التاريخ:
«تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية»!!