أتساءل: ما الذي نريد أن نتعلمه من الصين- علي المستوي الثقافي- فعلا؟! وكيف نخرج من الإطار المعهود من رحلات ثقافية وندوات وخلافه، لنؤسس تفاعلا حقيقيا بين ثقافتين؟

حمداً لله لأن السادة المشرفين علي احتفالات الثقافة المصرية الصينية قد استجابوا لاستغاثات مواقع التواصل،وتنبهوا إلي مهانة تحويل آثارنا الخالدة في الأقصرإلي سرادق فرح «بكهارب صينية»! الصينيون، أنفسهم، كانوا قد أعدوا أنفسهم لتعريفنا بثقافتهم وحضارتهم العريقة(وهي أكثر عمقا مما نتداوله عن غزو فانوس رمضان الصيني) والصينيون أنفسهم عزفوا موسيقي صينية، بآلات ترجع أصولها للحضارتين: المصرية والصينية. الصينيون، أنفسهم، كانت رسالتهم واضحة: «نعرف أن لديكم حضارة، ونحن لدينا حضارة، وسنقيم تفاعلا بين الحضارتين»وهي الرسالة التي لم يفهمها «المنسحقون» الذين قرروا أن يزخرفوا تماثيلنا بالنقوش الصينية! ماعلينا، فقط لزم التنويه منعا لتكرار مثل هذه المآسي، ولكي نذكّر أيضا»بمتلازمة»مواجهة وجه العملة الآخر لهذه المآسي، أعني ما بثته التيارات الإسلامية، لعقود، من رعب مما أسموه «الغزو الثقافي»، فحولوا مصر إلي «أميبا»، تتكاثر ذاتيا، دون تلاقحها مع حضارات أخري، متغافلين- عن عمد- عن أن الحضارات لاتقوي إلا بتفاعلها مع غيرها، والحضارة الإسلامية - حين كانت- خير دليل علي وهم ما يزعمون. علي الجانب الآخر، ظل النظام المباركي، الداعم للإسلاميين، لايفتح أبوابه إلا لثقافة «الهوت دوج»، لنستمد مثلنا الأعلي، من السينما «عبده موته»، بينما المنبع يتدفق ليغذي أوصال هذا التردي الثقافي بأفلام الأكشن الأمريكية. ولأنني من جيل كان يشاهد في السينمات المصرية أفلام العالم بأسره، ويعرف قدر مخرجين مثل: فيلليني، وجان لوك جودار، والياباني «كوروساوا» وغيرهم، نجوت كغيري، ممن حاولوا فتح آفاقهم المعرفية، مما يؤهلني للإشارة إلي ممثل إنجليزي عظيم (لايعرفه الكثيرون، لعدم اهتمامنا، لعقود،سوي بالأفلام الأمريكية، ونجومها) اسمه «جيرمي أيرونز»، قام ببطولة فيلم «مدام بترفلاي» (1993)وليس تذكيري بالفيلم إلا للإشارة لضرورة تواصل ما كنا عليه من انفتاح علي منابع ثقافية متعددة، ولأنه الفيلم الذي يحضرني حين أتساءل: ما الذي نريد أن نتعلمه من الصين- علي المستوي الثقافي- فعلا؟! وكيف نخرج من الإطار المعهود من رحلات ثقافية وندوات وخلافه، لنؤسس تفاعلا حقيقيا بين ثقافتين؟ !ينبني الفيلم علي أوبرا «مدام بترفلاي»، للإيطالي بوتشيني (1904)وتدور حول فتاة يابانية «بترفلاي أو الفراشة»، تقع في حب ضابط أمريكي، وتحارب العالم من أجله، يتزوجها الضابط، أخيرا،علي الطريقة اليابانية، ثم يعود إلي أمريكا ويغيب لسنوات، لكن «الفراشة» تظل تنتظره، وترفض دعوات الزواج المغوية، يعود الضابط وقد تزوج أمريكية مثله، فتنتحر الفراشة»بالهاراكيري»، حسب الثقافة اليابانية. ورغم اختصاري «المخل» هنا لأوبرا عظيمة، فإنه يوضح ما قصدته حكايتها تحذيرا من مغبة الوقوع في «أوهام» الحب، وهي لاتختلف كثيرا عن «الأوهام» التي نحملها إزاء ثقافة ما، وهو ما يحذرنا الفيلم منه، برؤية أعمق لتباين الثقافات، حين يحكي عن دبلوماسي فرنسي( يدعي جاليمار) يعين في «بكين»، ويقع في غرام مغنية أوبرا صينية شهيرة، ويعيش الحلم بأن تحبه كما أحبت «الفراشة» الضابط الأمريكي، وتضحي من أجله، حسب الصورة التقليدية التي نشأ عليها، ولأن الدبلوماسي لا يعرف، ولا يهتم بأن يعرف، الثقافة الصينية، مكتفيا بصورته عن نفسه، كفرنسي، وصورته الثابتة عن الثقافة الوافد إليها، لم يلتفت إلي أن الأوبرا التقليدية في الصين لا تستعين بالممثلات، وإنما بالممثلين ليلعبوا أدوار النساء، حين يكتشف جاليمار حقيقة أوهام الحب التي عاشها، وظنه أنها لامرأة، لأنه لم يبذل جهدا في تعرف ثقافة من أحب، فاختلط لديه الوهم بالحقيقة، ينتحر، ذابحا نفسه بمرآة كان يتأمل فيها وهم صورة حملها جهلا وحماقة عن «الشرق ونسائه» في مشهد من أروع وأعمق مشاهد السينما، حين تعترف ثقافة ما بتشوش معرفتها للآخرالمختلف. هل نحن مستعدون لهذا الفهم العميق، لثقافات مغايرة، الصينية نموذج لها؟! دون»سرادقات وكهارب»، ولتأسيس حقيقي لقبولنا وتفاعلنا بآخر مختلف عنا ثقافيا؟! أم سنصنع من أفكارنا التقليدية عنه مرايا له، ولأنفسنا؟! ستنكسر عند أول صدام ثقافي، فننتحر بشظايا مرايانا علي طريقة «جاليمار»؟