لا أعرف من أين يأتي الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأفكاره الغريبة؟، يبدو أن الرجل في أجازة من التاريخ، وقد انتهت مدته الرئاسية من زمان طويل، ووصلت تجربته إلي الحائط المسدود، ويعدون له بدائله، فلا إسرائيل تعتد به كشريك محتمل في أي تفاوض، ولا هو يؤمن بالمقاومة والانتفاضة ولا بأي صورة من الكفاح الفلسطيني، ويخرج علينا ـ مع ذلك ـ بتصريح عجيب، يقرر فيه أنه لن يقر أي اتفاق سلام بغير استفتاء الشعب الفلسطيني، ودون أن يسمع أحد عن مفاوضات تجري، ودون أن يعرف أحد ما هو ـ أصلا ـ ذلك الاتفاق «السلامي» الذي يتحدث عنه عباس ؟ !.
يبدو عباس كالذي يريد لقطة في الصورة والسلام، بينما الشعب الفلسطيني يقرر لنفسه الآن، وبدون احتياج لعباس ولا لحماس، فقد انتقل مركز القيادة اليومية للفلسطينيين إلي الشارع، ودون انتظار لإذن ولا لدعم من سلطة رام الله ولا سلطة غزة، بل بدون حضور قيادي للفصائل الفلسطينية كلها، وصار الشعب صاحب المبادرة، وبدورعفي للشبان الفلسطينيين والشابات الفلسطينيات بالذات، والذين أبدعوا ويواصلون انتفاضة من طراز فريد، بثورة سكاكين المطابخ، وبالدهس بالسيارات، وبفنون رمي الحجارة التي تتطور كل يوم، تفزع الإسرائيليين، وتشتت قوات جيشهم، وتحول جنوده إلي فئران مذعورة، تشعر بالخطر كلما اقترب فلسطيني أو فلسطينية من الحواجز أو المستوطنات، وتبادر بإطلاق الرصاص، واحتجاز الجثث، وتعذيب آلاف الأسري، وعلي ظن أن ذلك قد يخيف الفلسطينيين، أو يردع حركتهم، فلا تكون النتيجة إلا بوارا لإسرائيل، ونشرا للخوف في صفوفهم، وإحساسا بأن الأرض تميد من تحت أقدامهم، فها هو الشعب الفلسطيني الذي تخيلوا أنهم قهروه، وألزموه الصمت الأبدي، ها هو يستيقظ من غفوة قصيرة بعد نهاية انتفاضته الثانية قبل عشر سنوات، ويفاجئ المحتلين بما لم يتوقعوه أبدا، فلم يعد لدي الفلسطينيين ما يخسرونه غير الذل والهوان وتهويد أرضهم ومقدساتهم، ولم يعد للخوف من محل في قلوب الفلسطينيين، والشعب الذي يغادر خوفه، لا تستطيع قوة مهما بلغ جبروتها أن تخيفه، ولا أن تردع عزمه علي نيل الشهادة، فلا تعرف الدنيا شعبا أكثر احتفاء بالشهادة والشهداء من الشعب الفلسطيني، بينما الإسرائيليون يفزعون من طعنة سكين في طيات ملابس فلسطيني أو فلسطينية، ومن رمية حجارة الأرض المسنونة، والتي تنزل عليهم كالطير الأبابيل، وتنخلع لها قلوبهم رعبا وهلعا، مع فورة حماس الشباب الفلسطيني واعتصامه بأرضه المجبولة بدم الشهداء، وصيحة «الله أكبر» علي أبواب القدس والمسجد الأقصي.
ولا تملك «إسرائيل» في مواجهة انتفاضة الفلسطينيين الجديدة، سوي الذهاب إلي سكة الجنون، والإيغال في الدم، وتخبط القادة، وانتظار الفزع الذي يفاجئ كل يوم وكل ساعة، فقد تصور الإسرائيليون أن الأمن تحفظه الجدران والبروج المشيدة، وأن جيشهم قادر علي هزيمة كل عدو، وأن أجهزة مخابراتهم تعرف دبة النملة، لكنهم لا يواجهون ـ هذه المرة ـ جيشا يدكون قواته، بل يواجهون شعبا لا يعرفون سره، فقد توصل الفلسطينيون إلي «الصيغة الذهبية» للمقاومة التي لا تقهر، ولا تحتاج إلي عمليات عسكرية معقدة، ولا إلي ترتيبات يرد كشفها، ومارس الفلسطينيون ـ هذه المرة ـ انتفاضتهم بسلاسة معجزة، وكجزء من نسيج حياتهم اليومية، يعيشون ويقاومون في الوقت نفسه وبالطريقة نفسها، وتكون أدوات المعيشة هي ذاتها أدوات المقاومة، ودون حاجة إلي تكوين خلايا ولا بناء تنظيمات، وبثقة الذي يأمل في النصر دون حساب للخسارة، فقوة الارتباط بالأرض المقدسة هي ذاتها طريق النصر، والنصر في النهاية لمن يملكون قوة الاحتمال والصبر علي المكاره، ولم تعرف الدنيا شعبا يصبر علي المكاره كالشعب الفلسطيني.
وقد ملأت الشروخ قلوب الإسرائيليين، فلا طاقة بهم في الصبر علي مكاره الفزع الذي تصنعه الانتفاضة الجديدة، خاصة أنها جاءت في غير الموعد والمكان الذي احتسبوه، وبغير الوسائل التي أعدوا العدة لمواجهتها، فقد ظنوا أن القضية الفلسطينية ماتت وانتهي أمرها، وأن العالم العربي ضاع في أهوال حروبه الأهلية و»الداعشية» الكافرة، وأن الحكام العرب في جيب إسرائيل، وأن سلطة عباس هرمت وفسدت، وأن سلطة حماس رضيت بدويلتها في غزة، وبدا كل ذلك صحيحا في حسابات السياسة والسلاح، وباعثا علي الثقة في دوام واطمئنان ملك إسرائيل، والتي لم تحسب حساب الشعب الفلسطيني الأعزل من كل نصير، والذي فاجأ الإسرائيليين بالصحوة المنتفضة، التي لا تريد مددا من أحد، لأنها هي الزاد والمدد في ذاتها، والتي أثبتت خيبة المكر الإسرائيلي السيئ، والذي يحيق بأهله، فهم يمكرون ويمكر الله خير الماكرين، وهذه هي قصة «مكر التاريخ» التي لا يفهمها الإسرائيليون كمحتلين، فلم يعرف التاريخ شعبا خضع لقوة الاحتلال إلي أبد الآبدين، وحين تبلغ قوة الاحتلال ذروة توحشها، وتظن أنها ملكت الأرض ومن عليها، في هذه اللحظة بالذات، تبدأ رحلة زوالها، خاصة إن كان الطرف المقهور هو الشعب الفلسطيني، والذي لم تعرف الدنيا شعبا في عبقرية كفاحه، وتمثيله لأفضل ما في أمته من مقدرة علي صنع الإبداع المقاوم.
لقد دخل الشعب الفلسطيني إلي حومة التاريخ التي لم يخرج منها أبدا، حتي وإن بدا لسنوات صامتا، فحركة الشعوب الحية كموج البحر، تهدأ حينا وتصخب أحيانا، لكنها لا تتحول إلي بركة ولا إلي مستنقع أبدا، ولا تذهب إلي متاحف الجماد، وعلي نحو ما توحي به تقلصات سلطة فلسطينية، دهستها حيوية الشعب الفلسطيني، وداست وعودها البائسة، وكان الأشرف للرئيس عباس أن يصمت، أو أن يقل خيرا ليس من طبعه، بدلا من أن يواصل الهلوسة علي طريقة اتفاق سلامه المزعوم