أبداعات عربية

أورسالم

أورسالم
أورسالم

ناجى‭ ‬الناجى‭ - ‬فلسطين‭ /  ‬مصر

‭  ‬جلسنا‭ ‬فى‭ ‬الحافلة‭ ‬المتوجهة‭ ‬من‭ ‬قلنديا‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬المدينة،‭ ‬نظرت‭ ‬من‭ ‬النافذة‭ ‬غير‭ ‬مدرك‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬حقيقيًّا‭ ‬أم‭ ‬سرابًا‭ ‬وهلوسةً،‭ ‬عدتُ‭ ‬أتفحص‭ ‬الركَّاب‭: ‬كهل‭ ‬يحمل‭ ‬أكياسًا،‭ ‬سيدةٌ‭ ‬تحتضن‭ ‬رضيعها‭ ‬ولا‭ ‬تقطع‭ ‬نظرها‭ ‬عنه،‭ ‬فتيات‭ ‬يحملنَ‭ ‬حقائب‭ ‬وأوراقًا،‭ ‬شباب‭ ‬يُقلِّبون‭ ‬هواتفهم،‭ ‬سألتُ‭: - ‬جميعهم‭ ‬فلسطينيون‭ ‬أليس‭ ‬كذلك؟

‭ - ‬نعم،‭ ‬جميعهم‭ ‬عرب‭. - ‬عرب؟‭! ‬أيوجد‭ ‬هنا‭ ‬جنسيات‭ ‬غير‭ ‬فلسطينية؟‭!! - ‬لا،‭ ‬لكن‭ ‬هنا‭ ‬كل‭ ‬مَن‭ ‬ليس‭ ‬منهم‭ ‬يُطلقون‭ ‬عليه‭ ‬عربيًّا‭. - ‬قد‭ ‬يستاء‭ ‬بعض‭ ‬العرب‭ ‬الجدد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التصنيف‭.. - ‬من‭ ‬أين‭ ‬تُفضل‭ ‬البداية؟‭ ‬الأقصى‭ ‬أم‭ ‬القيامة‭ ‬أم‭ ‬شارع‭ ‬صلاح‭ ‬الدين؟‭ - ‬أليس‭ ‬جميعهم‭ ‬متجاورين؟‭ - ‬نعم،‭ ‬أسأل‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬تفضل‭ ‬بداية‭ ‬معينة‭ ‬أم‭ ‬تترك‭ ‬لى‭ ‬الدفة؟‭ ‬احترمَتْ‭ ‬شرود‭ ‬ذهنى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أسألها‭: - ‬أيمكننا‭ ‬البدء‭ ‬بزيارة‭ ‬والدة‭ ‬محمد‭ ‬أبو‭ ‬خضير؟‭ - ‬لست‭ ‬متفاجئة‭... ‬إطلاقًا‭. - ‬ممكن؟‭! - ‬لا‭ ‬طريق‭ ‬إلى‭ ‬البلدة‭ ‬القديمة‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬أبو‭ ‬خضير‭. - ‬سنذهب؟‭! - ‬نعم،‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬قلنديا‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬يمر‭ ‬بحى‭ ‬شعفاط‭ ‬حيث‭ ‬منزل‭ ‬أبو‭ ‬خضير‭. ‬محمد‭ ‬أبو‭ ‬خضير،‭ ‬ذلك‭ ‬الفتى‭ ‬الذى‭ ‬سيبقى‭ ‬ما‭ ‬تعرَّض‭ ‬له‭ ‬عارًا‭ ‬على‭ ‬جبين‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وشاهدًا‭ ‬على‭ ‬عجز‭ ‬المنظومة‭ ‬الدولية‭ ‬بكافة‭ ‬مؤسساتها،‭ ‬وعدم‭ ‬جدوى‭ ‬مفردات‭ ‬بياناتها‭ ‬ومواثيق‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬سوى‭ ‬لاستخدامات‭ ‬محررى‭ ‬نشرات‭ ‬الأنباء،‭ ‬تلك‭ ‬المنظومة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬كبح‭ ‬جماح‭ ‬الطغاة‭ ‬والقَتَلة‭ ‬من‭ ‬نحر‭ ‬القرابين‭ ‬على‭ ‬مذابح‭ ‬البشرية‭ ‬البكماء‭.. ‬محمد‭ ‬ابن‭ ‬المدينة،‭ ‬الفتى‭ ‬ذو‭ ‬الستة‭ ‬عشر‭ ‬عامًا،‭ ‬كان‭ ‬يسير‭ ‬وسماء‭ ‬البلاد‭ ‬شفقًا‭ ‬فى‭ ‬طريقه‭ ‬لتزيين‭ ‬شوارع‭ ‬البلاد‭ ‬بألوان‭ ‬الفرح‭ ‬ابتهاجًا‭ ‬باقتراب‭ ‬العيد،‭ ‬اعتقد‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬طمأنينةٍ‭ ‬وهو‭ ‬عند‭ ‬أقرب‭ ‬نقطة‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬اقتربت‭ ‬سيارة‭ ‬تقلُّ‭ ‬ثلاثة‭ ‬مستوطنين‭ ‬ضباع،‭ ‬ضربه‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬رأسه،‭ ‬أدخلوا‭ ‬جسده‭ ‬إلى‭ ‬السيارة،‭ ‬لم‭ ‬يقتلوه‭ ‬هناك،‭ ‬لا‭ ‬يشفى‭ ‬القتل‭ ‬اليسير‭ ‬شبقهم‭ -‬كالقروش‭- ‬إلى‭ ‬الدماء،‭ ‬خطفوه‭ ‬إلى‭ ‬غابة‭ ‬غربى‭ ‬المدينة،‭ ‬ضربوه‭ ‬بالحدائد‭ ‬والهراوات‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تفارق‭ ‬حقائبهم،‭ ‬سالت‭ ‬دماؤه‭ ‬من‭ ‬رأسه‭ ‬وأنفه،‭ ‬أحضر‭ ‬أكبرهم‭ ‬زجاجةَ‭ ‬كحول‭ ‬وصبّها‭ ‬على‭ ‬رأسه،‭ ‬أحضر‭ ‬الثانى‭ ‬ولّاعة‭ ‬فنهره‭ ‬الثالث‭ ‬وعنّفه،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬المشهد‭ ‬غير‭ ‬كافٍ‭ ‬لشفاء‭ ‬غليل‭ ‬المقت‭ ‬والكراهية،‭ ‬أمسك‭ ‬الأول‭ ‬يديه‭ ‬وفتح‭ ‬الثانى‭ ‬فمه‭ ‬وصبّ‭ ‬الثالث‭ ‬الكحول‭ ‬فى‭ ‬فمه،‭ ‬فتح‭ ‬أكبرهم‭ ‬عينيه‭ ‬وحدق‭ ‬بابتسامة‭ ‬صفراء‭ -‬كشّرت‭ ‬عن‭ ‬أنياب‭ ‬ذئب‭- ‬فى‭ ‬عينى‭ ‬محمد،‭ ‬وأقاد‭ ‬الولّاعة‭ ‬ليشتعل‭ ‬الجسد‭ ‬النحيل،‭ ‬سقط‭ ‬محمد‭ ‬على‭ ‬عشب‭ ‬الأرض،‭ ‬أرض‭ ‬مدينته،‭ ‬كانت‭ ‬النار‭ ‬تنهش‭ ‬لحمه‭ ‬وأحشاءه،‭ ‬أذاب‭ ‬اللهب‭ ‬حبال‭ ‬حنجرته‭ ‬فلم‭ ‬يقوَ‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الصراخ،‭ ‬كان‭ ‬الجسد‭ ‬يستدير‭ ‬وينثنى‭ ‬والضباع‭ ‬تضحك‭ ‬بهيستيريا‭ ‬وهى‭ ‬ترقص‭ ‬وتستنشق‭ ‬راحة‭ ‬شواء‭ ‬ابن‭ ‬المدينة‭..!!! ‬حُرّق‭ ‬محمد‭ ‬حيًّا،‭ ‬فى‭ ‬الأحراش‭ ‬المُقامة‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬قرية‭ ‬دير‭ ‬ياسين‭ ‬المدمَّرة‭ ‬حيث‭ ‬حُرق‭ ‬أجداده‭ ‬منذ‭ ‬سبعين‭ ‬عامًا،‭ ‬انتفضت‭ ‬فلسطين‭ ‬وحدها،‭ ‬وتوالت‭ ‬بيانات‭ ‬الإدانة‭ ‬والشجب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬صوب‭ ‬وحدب،‭ ‬تلك‭ ‬البيانات‭ ‬التى‭ ‬ربما‭ ‬تم‭ ‬قصها‭ ‬ولصقها‭ ‬من‭ ‬سابقاتها،‭ ‬كما‭ ‬تم‭ ‬قصها‭ ‬ولصقها‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬حرق‭ ‬محمد‭ ‬لإدانة‭ ‬مأساة‭ ‬عائلة‭ ‬الدوابشة‭ ‬عندما‭ ‬قُتل‭ ‬حرقًا‭ ‬فى‭ ‬نابلس‭ ‬رضيعٌ‭ ‬وأبوه‭ ‬وأمه‭ ‬وشُوِّه‭ ‬أخوه‭!!! ‬وقفت‭ ‬سلمى‭ ‬لتتهيأ‭ ‬للنزول‭: - ‬استعد،‭ ‬أصبحنا‭ ‬فى‭ ‬شعفاط‭. ‬نظرتُ‭ ‬عبر‭ ‬النافذة،‭ ‬رأيت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬سيارات‭ ‬الشرطة‭.. - ‬انظري،‭ ‬ما‭ ‬الخطب؟‭! - ‬عُد‭ ‬إلى‭ ‬مقعدك،‭ ‬لن‭ ‬نستطيع‭ ‬النزول‭.. - ‬لماذا؟‭! ‬أشارت‭ ‬بسبابتها‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬المحاصر‭ ‬بأربع‭ ‬سيارات‭ ‬شرطة‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬العناصر‭: - ‬يحاصرون‭ ‬المنزل‭. - ‬ماذا؟‭! ‬ألم‭ ‬يكتفوا؟‭! - ‬كل‭ ‬فترة‭ ‬يحصل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬تعلّق‭ ‬الأسرة‭ ‬ملصقًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬لمحمد‭ ‬فتأتى‭ ‬الشرطة‭ ‬لمنعهم‭ ‬وتحدث‭ ‬مناوشات‭ ‬مع‭ ‬العائلة‭ ‬والجيران‭.. ‬يستكثرون‭ ‬عليه‭ ‬ملصقًا‭!!! ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الفتى‭ ‬منهم‭ ‬لأقاموا‭ ‬له‭ ‬ضريحًا‭ ‬ومقامًا‭ ‬واعتبروا‭ ‬الإتيان‭ ‬على‭ ‬ذكره‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد‭ ‬جريمةً‭ ‬تهتز‭ ‬لها‭ ‬الأرض‭ ‬والسماء،‭ ‬لجنَّدوا‭ ‬هوليود‭ ‬وجماهير‭ ‬الكرة‭ ‬ومشاهيرها‭ ‬لاعتماد‭ ‬ذكراه‭ ‬عيدًا‭ ‬للإنسانية،‭ ‬لتباكوا‭ ‬عليه‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬الشاشات‭ ‬ومراكز‭ ‬الأبحاث،‭ ‬ولدفَّعوا‭ ‬شعوب‭ ‬الأرض‭ ‬ثمن‭ ‬القرابين‭.. - ‬نذهب‭ ‬لصلاح‭ ‬الدين؟‭ - ‬لك‭ ‬الدفّة،‭ ‬نحن‭ ‬فى‭ ‬الشرقية‭ ‬أم‭ ‬الغربية؟‭ - ‬نحن‭ ‬فى‭ ‬القدس‭. ‬تجاورنا‭ ‬البيوت‭ ‬المشيَّدة‭ ‬بالحجر‭ ‬القدسي،‭ ‬يعلو‭ ‬النوافذ‭ ‬والشرفات‭ ‬وشاح‭ ‬حجرى‭ ‬نصف‭ ‬دائري،‭ ‬تحاول‭ ‬بيوت‭ ‬أخرى‭ ‬استنساخه‭ ‬فتُكشَف‭ ‬سريعًا‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬حِرفية‭ ‬المزوِّر‭.. ‬هاجر‭ ‬الذهن‭ ‬قريبًا‭ ‬وبعيدًا،‭ ‬أعادته‭ ‬سلمى‭: - ‬اجهز‭. ‬ارتجلنا‭ ‬وبدأنا‭ ‬المسير‭. ‬وصلنا‭ ‬شارع‭ ‬صلاح‭ ‬الدين،‭ ‬تصطف‭ ‬المحالُّ‭ ‬أسفل‭ ‬أقواس‭ ‬المبانى‭ ‬الحجرية‭.. ‬أقرأ‭ ‬لافتات‭ ‬الأطباء‭ ‬والمحامين‭ ‬والمحكمة‭ ‬وقاضى‭ ‬القضاة‭... ‬تنكزنى‭ ‬سلمى‭: - ‬اقطع‭ ‬الشارع‭ ‬سريعًا‭!! ‬أسأل‭ ‬ما‭ ‬الخطب؟‭ ‬فأجد‭ ‬سيارة‭ ‬شرطة‭ ‬وجنودًا‭ ‬نقطع‭ ‬الشارع‭ ‬ونُكمل‭ ‬سيرنا،‭ ‬أرى‭ ‬وهجًا‭ ‬فى‭ ‬السماء،‭ ‬أخشى‭ ‬السؤال‭ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬تعتقد‭ ‬أننى‭ ‬هلوست،‭ ‬يسطع‭ ‬الوهج‭ ‬مجددًا،‭ ‬أنظر‭ ‬بطرف‭ ‬عينى‭ ‬لأجدها‭ ‬تبتسم‭: - ‬ما‭ ‬لك؟‭! - ‬أثمة‭ ‬ما‭ ‬يلمع‭ ‬فى‭ ‬السماء؟‭! ‬تضحك‭: - ‬أطباق‭ ‬طائرة‭ ‬ربما‭... - ‬أرى‭ ‬شعاعًا‭ ‬ذهبيًّا‭ ‬وضَّاءً‭ ‬يجعل‭ ‬الشمس‭ ‬شمسين‭!! ‬تقول‭: - ‬بل‭ ‬يُهذِّب‭ ‬الشمس‭ ‬ويعلّمها‭ ‬اللباقة‭.. ‬نقترب‭ ‬أكثر‭ ‬ليبدأ‭ ‬طرف‭ ‬الصخرة‭ ‬الذهبية‭ ‬بالإطلال‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬أُسرِع‭ ‬من‭ ‬خطوى‭ ‬وأَسمع‭ ‬صوت‭ ‬أنفاسى‭ ‬بوضوح‭... ‬تشدّنى‭ ‬سلمى‭: - ‬أبطئ‭ ‬خُطاك‭ ‬قليلًا،‭ ‬ما‭ ‬زلنا‭ ‬بعيدين‭!! ‬نصل‭ ‬باب‭ ‬الساهرة‭.. ‬أُطلّ‭ ‬على‭ ‬سور‭ ‬القدس‭ ‬المحتضن‭ ‬كيلومترًا‭ ‬مربعًا‭ ‬شكَّلت‭ ‬أساس‭ ‬الحياة‭ ‬وأسس‭ ‬الصراع‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬الميلاد‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البسيطة‭.. ‬السور‭ ‬الذى‭ ‬يُدافع‭ ‬عن‭ ‬أول‭ ‬الحكاية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ما‭ ‬يباشر‭ ‬الحكّاء‭ ‬مهنته،‭ ‬منذ‭ ‬يبوس‭ ‬وكاهن‭ ‬الرب‭ ‬الأعظم‭ ‬وإيلياء‭ ‬والرومان‭ ‬والسلطان‭ ‬والأيوبي،‭ ‬أربعة‭ ‬كيلومترات‭ ‬طولًا‭ ‬واثنا‭ ‬عشر‭ ‬مترًا‭ ‬ارتفاعًا‭ ‬وإحدى‭ ‬عشرة‭ ‬بوابة‭ ‬شهدت‭ ‬على‭ ‬بدء‭ ‬تشكيل‭ ‬التاريخ‭ ‬ورسم‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭!! ‬أُطل‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬الساهرة،‭ ‬أعدو‭ ‬نحو‭ ‬باب‭ ‬العامود،‭ ‬أسأل‭ ‬عن‭ ‬أبواب‭ ‬الأسباط‭ ‬والخليل‭ ‬والمغاربة‭ ‬وداوُد‭ ‬والحديد‭... ‬تصيح‭ ‬سلمى‭: - ‬أمصمم‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬خارج‭ ‬الحكاية؟‭! - ‬احترفت‭ ‬الهامش،‭ ‬والآن‭ ‬أوّل‭ ‬الكلام،‭ ‬وغرّة‭ ‬الزحف،‭ ‬وبداية‭ ‬الهوى‭.. ‬نلج‭ ‬باب‭ ‬العامود‭... ‬نصعد‭ ‬بعد‭ ‬الأرض‭ ‬وقبل‭ ‬السماء‭... ‬أسير‭ ‬بين‭ ‬حجارة‭ ‬الزوايا،‭ ‬والأروقة،‭ ‬والميازين،‭ ‬والتكايا،‭ ‬والحجرات،‭ ‬والمنابر‭ ‬والمحاريب،‭ ‬والوكالات،‭ ‬والخانقاوات‭... ‬أصعد‭ ‬سلمًا‭ ‬حجريًّا‭ ‬سائلًا‭: ‬أمُنتهاه‭ ‬السماء؟‭! ‬يوقظنى‭ ‬سلم‭ ‬منحدرٌ‭: ‬ليس‭ ‬بعد‭!! ‬أسعى،‭ ‬أفيض،‭ ‬أعدو،‭ ‬أهدج،‭ ‬أحلّق،‭ ‬أعلو،‭ ‬أسمو،‭ ‬أتبختر،‭ ‬أتقهقر،‭ ‬أهوذل،‭ ‬أتهادى،‭ ‬أتعثر،‭ ‬أسقط‭.. ‬أقطر‭ ‬دمًا‭ ‬على‭ ‬الحجارة‭.. ‬لا‭ ‬أخجل‭... ‬حتمًا،‭ ‬قبلي،‭ ‬وعلى‭ ‬ذات‭ ‬الدرج‭... ‬حتمًا‭ ‬نبيٌّ‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬تعثَّر‭.. ‬وآخر‭ ‬على‭ ‬درج‭ ‬مقابل،‭ ‬نهض‭.. ‬وثمة‭ ‬مَن‭ ‬سطَّر‭ ‬مِن‭ ‬دَمِه‭ ‬آية‭... ‬ومِن‭ ‬بئر‭ ‬أراه‭ ‬بين‭ ‬الحجارة،‭ ‬مدَّ‭ ‬نبيٌّ‭ ‬لنبيٍّ‭ ‬كفَّيْه‭ ‬ليرتوي‭... ‬هنا،‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الحجارة،‭ ‬طارد‭ ‬فاتحون‭ ‬غزاةً‭... ‬واستوطن‭ ‬فناءَ‭ ‬الرب‭ ‬طغاةٌ‭... ‬هنا‭ ‬تُفكِّر‭ ‬مرتين،‭ ‬قبل‭ ‬رفع‭ ‬اليد‭ ‬عاليًا‭.. ‬لِئلَّا‭ ‬تمسَّ‭ ‬نهاية‭ ‬الحكاية‭... ‬هنا،‭ ‬لا‭ ‬يشرئبُّ‭ ‬العنق‭... ‬قبل‭ ‬استئذان‭ ‬صاحب‭ ‬البيت‭.. ‬نطوف‭ ‬الأسواقَ‭ ‬المغطاةَ‭ ‬بعقود‭ ‬متصالبة‭ ‬بالحجر‭ ‬المغموس،‭ ‬تحل‭ ‬روائح‭ ‬الزعتر‭ ‬والفلافل‭ ‬وتحجز‭ ‬حيزها‭ ‬فى‭ ‬الرئة‭ ‬والوجدان،‭ ‬تنفذ‭ ‬الشمس‭ ‬عبر‭ ‬فتحات‭ ‬فى‭ ‬السقف‭ ‬المكوَّن‭ ‬من‭ ‬أقواس‭ ‬عالية،‭ ‬نطوف‭ ‬باب‭ ‬خان‭ ‬الزيت‭ ‬وسوق‭ ‬العطارين‭ ‬وسوق‭ ‬اللحامين‭ ‬وسوق‭ ‬البازار‭ ‬وسوق‭ ‬الباشورة‭ ‬وسوق‭ ‬القطّانين‭.. ‬نصل‭ ‬لبائع‭ ‬كعك‭ ‬قدسى‭ ‬قبل‭ ‬باب‭ ‬الحرم،‭ ‬يضحك،‭ ‬أبادله‭ ‬البسمة،‭ ‬أدقق،‭ ‬لا‭ ‬يضحك‭ ‬لي‭..‬

بل‭ ‬يكشف‭ ‬زيف‭ ‬رواية‭ ‬مرشد‭ ‬سياحى‭ ‬مع‭ ‬زبائنه‭ ‬يُسهب‭ ‬فى‭ ‬الخوض‭ ‬فى‭ ‬التاريخ؛‭ ‬يُحرِّك‭ ‬كلتا‭ ‬يديه‭ ‬ويحكى‭ ‬عن‭ ‬كنعان‭ ‬ويبوس‭ ‬وملكى‭ ‬صادق‭ ‬والرومان‭ ‬ونبوخذ‭ ‬نصّر‭ ‬والكلدانيين‭ ‬والعبرانيين‭ ‬والفرس‭ ‬وهرقل‭ ‬والإسكندر‭ ‬وصلاح‭ ‬الدين‭ ‬وحطين‭ ‬وقلب‭ ‬الأسد‭ ‬والسلاطين‭ ‬والأيوبيين‭ ‬والمماليك‭ ‬والمجوس‭...‬

‭ ‬بائع‭ ‬الكعك‭ ‬يُقهقِه،‭ ‬أسأله‭:‬

‭ - ‬أأخطأ‭ ‬فى‭ ‬سرد‭ ‬التاريخ؟‭!‬

‭ - ‬الكل‭ ‬يُخطئ‭ ‬فى‭ ‬سرد‭ ‬التاريخ‭...‬

ابتسم‭:‬

‭- ‬أوَأنت‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يُخطئ‭ ‬فى‭ ‬التاريخ؟

يحدّق‭ ‬فى‭ ‬عيني‭:‬

‭- ‬أنا‭ ‬التاريخ‭.‬

نصل‭ ‬باب‭ ‬الحرم،‭ ‬تهمس‭ ‬سلمى