بالأدلة.. كيف جسدت «الأسبلة» عظمة الحضارة الإسلامية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

تعتبر أسبلة مصر من المباني التاريخيةٌ التي يفوح منها عبق التاريخ، بنيت في عصور تاريخية سابقة، انتشرت في الأماكن العامة والأزقة والطرقات؛ بهدف توفير مياه نقية طول العام، لجأن إليها السيدات؛ لتخليد ذكراهن بعد مماتهن، فشيدنها وأطلقن عليها أسماءهن


وقد شهد العصر العثماني في القاهرة إقبالاً متزايدًا من النساء على إنشاء أسبلة للنساء وكان أشهرها: سبيل أم عباس، وسبيل أم محمد علي الصغير، وسبيل نفيسة البيضاء، وسبيل كلشن خاتون، وسبيل رقية دودو، وسبيل الست صالحة.


ويعد السبيل من المنشات الاجتماعية التي ازدهرت في العصور الوسطي والتي تقوم بدور هام في تقديم أهم خدمات الرعاية الاجتماعية والي سكان المنطقة التي بنيت فيها، وهي مصدر يرد الناس إليه لشرب المياه النظيفة، وهذا ما أكده د. ناصر الكلاوي مدير عام الوعي الأثري والتنمية الثقافية بوزارة الآثار.
وأضاف «الكلاوي» ، علي الرغم من أختلاف أطرز الاسبلة إلا أنها أشتركت في عمارتها التي عادة ما تشتمل علي ثلاث طبقات، وهي الصهريج وحجرة التسبيل وحجرة الكتاب.
ولكي تقوم الاسبلة بدورها علي أكمل وجه وهو إرواء عطش الظمآن فلابد من توافر عدة عناصر معمارية لكي يقوم السبيل بتأدية وظيفته وهي الصهريج والشاذروان وشبابيك التسبيل وأحواض التسبيل .
 والصهريج يكون في باطن الأرض ووظيفته تخزين المياه النظيفة به، ويعلو حجرة التسبيل المعدة لإمداد المارة بالمياه مجانا، ويعلو حجرة السبيل الكتاب وهو مكان مخصص لتعليم أيتام المسلمين تعاليم الدين الإسلامي وحفظ القران الكريم.
وقد تنوعت الزخارف المستخدمة في الأسبلة الإسلامية ما بين الزخارف الهندسية والزخارف النباتية والزخارف الكتابية وزخارف البار وك والروكوكو خلال الفترة العثمانية.
وقد قام المعماري المسلم بتصميم الأسبلة وفق الطراز الآتية وهو الطراز الأول وهو الأسبلة ذات النمط المحلي وتنقسم إلي ثلاث أنواع وهي الاسبلة ذات الشباك الواحد والأسبلة ذات الشباكين والأسبلة ذات الثلاثة شبابيك. والطراز الثاني وهو الأسبلة ذات التأثير التركي.
وقام منشئ الأسبلة ببنائها كمبني واحد مستقل يؤدي الوظيفة المفوط به، وفي بعض الأحيان كان يتم ألحاق مبني السبيل مع بعض المنشات الاخرى مثل الجوامع أو الوكالات أو المنازل أو المدافن أو أحواض الدواب أو الزوايا أو الرباع.
وكان يوجد بكل سبيل مجموعة من العاملين يتولون إدارته وتقديم الخدمة به بطريقة منظمة ومتخصصة، وقد حددت لنا الوثائق تخصص كل منهم والشروط العديدة التي يجب أن تتوفر فيهم بالإضافة إلي حقوقهم ومرتباتهم ،وأهم هؤلاء الموظفين هو ناظر الوقف،والمزملاتي، والسقاء، والبواب، والفراش.
وقد تنوعت الطرق التي يتم بها نقل المياه من نهر النيل إلي الصهريج الموجود أسفل السبيل سواء عن طريق نقل المياه علي ظهور الجمال أو الحمير أو بالقرب، وكان يشترط أن تكون هذه المياه نظيفة،وعدم وجود أمراض معدية لدي العاملين، ويجب أن يتم تخزين كمية كافية من المياه بالصهريج ، وكان المنشئ يقوم بإيقاف الأراضي الزراعية علي السبيل للإنفاق عليه بعد وفاته، وذلك لدمغ مرتبات العاملين به ولصيانة ولشراء الأدوات اللازمة للعمل به ،ولتنظيف الصهريج وغسله وتبخيره.
وأكد «الكلاوي» ، أن قد قام السبيل بدور حضاري كبير لخدمة سكان مدينة القاهرة سواء في إمداد سكان المدينة بالمياه النقية اللازمة للشرب والطعام وذلك لبعد المدينة عن نهر النيل، كما أمدت الاسبلة عابري السبيل بمياه الشرب مجانا وخصوصا في فصل الصيف، كما أنها كانت مصدر المياه اللازمة للشرب والوضوء عند بناء سبيل ملحق بالمنشات الاخري مثل الجوامع والوكالات وغيرها، كما تم توظيف الكتاب أعلي السبيل في العملية التعليمية ولحماية حجرة السبيل من حرارة الشمس وكان هدف منشئ السبيل هو الحصول علي الثواب لتوفيره المياه نظيفة ومجانية للجميع .
كما أن عبقرية المعمار المسلم قد ظهرت في تشييد الأسبلة علي واجهات الشوارع الرئيسية من خلال شباك أو شباكين أو ثلاثة شبابيك السبيل وذلك طبقا لعدد الشوارع المطلة عليها ولتيسير حصول المواطنين علي المياه ونظرا لزيادة عدد السكان.
وقد استمرت الأسبلة تؤدي وظيفتها الحضارية حتي قيام الحكومة المصرية بإنشاء شركة لإمداد جميع سكان القاهرة بالمياه النظيفة وفق النظم الأوربية الحديثة.
وفي النهاية أضاف «الكلاوي» إن الاسبلة والكتاتيب عبرت عن عظمة الدين والحضارة الإسلامية، وقد أدت وظائف هامة لخدمة سكان مدينة القاهرة، وبقيت مباني هذه المنشات لتعبر للبشرية عن مرحلة هامة من الحضارة والتقدم والرقي لدي المسلمين.
«سبيل أم عباس» :
أول سبيل نسائي وهو أشهر الأسبلة في مصر، فقد أمرت بإنشائه السيدة بنبة قادن والدة الخديوِ عباس باشا، وزوجة الأمير أحمد طوسون باشا، والتي قررت بعد مرور 13 سنة أن تبني هذا السبيل في حي القلعة الشهير بمصر؛ ترحمًا على روح ابنها الخديوِ عباس، والذي قتل في قصره عام 1854 إثر اغتياله؛ لذلك أصرت والدته أن يسمى السبيل (أم عباس) وليس سبيل الأميرة بنبة قادن؛ تخليدًا لذكرى ابنها المتوفى، لعل دعوات الظمأى تكون رحمة لابنها.
ويتميز سبيل أم عباس بالطراز المعماري المزدوج؛ حيث يشمل الطابع العثماني والأوروبي معًا، وتتميز الواجهة كلها بالرخام الأبيض، وزينت بالزخارف النباتية بجانب النقوش والآيات القرآنية.
والسبيل مكون من حجرة مستطيلة من ثلاثة أضلاع، بينما ضلعها الرابع المطل على الشارع بثلاثة شبابيك للسبيل، ويتميز سبيل أم عباس بالثراء الزخرفي والإبداع الفني.
«سبيل أم محمد علي الصغير»
يقع هذا السبيل في نهاية شارع الجمهورية بمنطقة رمسيس بالقاهرة في مواجهة مسجد الفتح، شيدته السيدة زيبة قادرين والمعروفة بأنها والدة محمد علي الصغير، ابن محمد علي باشا الكبير، وعندما توفي ابنها محمد علي الصغير قررت الأم الحزينة أن تنشئ سبيلاً باسم ابنها الصغير؛ لكي يكون رحمة ونورًا على روحه.
ويتكون هذا السبيل والكتاب من واجهتين: أولهما رئيسية في الناحية الشمالية الغربية تطل على شارع الجمهورية، وبها ثلاثة مداخل رئيسية، ففي أولها فتحة باب خشبي تزينه زخارف هندسية ونباتية، وفي الطابق الثاني شرفة خشبية بها ثلاثة شبابيك معقودة بعقود نصف دائرية وأعلاها لوحة تأسيسية ذات كتابات تركية. كما نقشت أم محمد اسم ابنها الصغير على جدران السبيل؛ عرفانًا منها ببره وإحسانه آملة أن تنعم معه بدعوات الخير والأجر الجزيل من الله سبحانه وتعالى.
سبيل «نفيسة البيضاء» :
يقع في شارع المعز لدين الله الفاطمي، ونصل إليه من خلال بوابته الكبيرة الفارهة لباب زويلة، أنشأته الأميرة نفيسة البيضاء؛ بهدف تقديم ماء الشرب للمارة كعمل خيري، ويختلف هذا السبيل عن باقي الأسبلة أن صهريجه لا يوجد أسفله، وإنما يوجد أسفل مبنى مجاور له، ويذكر أن نفيسة البيضاء لم تكن مجرد سيدة عادية، بل كانت جارية شركسية أتت من بلادها؛ لتستقر في مصر ونظرًا لجمالها الشديد أعتقها سيدها الأول علي بك الكبير، وتزوجها لتصبح بذلك حرة طليقة، ثم تزوجت من مملوك يدعى مراد بك، فسُميت نفيسة المرادية، واشتهرت بالبذخ وحب أعمال الخير والعطاء. لذلك كان الكتّاب الذي يعلو السبيل يمثل مدرسة أولية مجانية لجميع أطفال الحي والأحياء المجاورة أيضًا.
سبيل« كلشن خاتون» :
في عطفة الأنصاري المتفرعة من شارع بورسعيد بالقاهرة شيدت كلشن هانم في منتصف القرن الـ17 هذا السبيل، وهي بنت عبدالله البيضا أمير عثماني، وهو يعد من الأسبلة العثمانية المنفردة والمستقلة التي لا تعلوها كتاتيب، يستطيع المارة أن يصلوا إلى السبيل عبر مدخل على شكل قبة يؤدي إلى ممر صغير به باب يفتح على حجرة السبيل مستطيل الشكل ذات أرضية رخامية، ويوجد بالحجرة شاذوران (كلمة فارسية تعني الحائط المائل للمحافظة على تبريد المياه)، وهو مصنوع من الحجارة، نسبة إلى جدار الكعبة الشريفة، أما السقف فقد زُخرف بألواح خشبية سميكة ملونة ومذهبة ذات أشكال مختلفة من رسوم هندسية ونباتية في تداخل جميل وتناغم عذب.
سبيل «رقية دودو» :
يعد هذا السبيل من أهم الأسبلة الأثرية في مصر وبالتحديد في شارع سوق السلاح، ويتميز بنقوشه النادرة الجميلة ومعماره التركي الفريد، ويتميز هذا السبيل بالسقف المصنوع من الخشب الحافل بالزخارف الهندسية والنباتية العثمانية والمتميزة، ويعتبر هذا السبيل من أول الأسبلة التي اتخذت الطراز التركي الوافد في التخطيط نموذجًا لها، ويتكون من حجرة مستطيلة في ثلاثة أضلاع ويأخذ الضلع الرابع شكلاً فنيًا مقوسًا.
سبيل الست صالحة
عندما تقف في ميدان السيدة زينب تجد في استقبالك الواجهة الرئيسية لسبيل الست صالحة، والذي أنشئ عام 1941 فى عهد الوالي العثماني على باشا، والسبيل مستقل غير ملحق بأبنية، ويتكون من واجهتين تقع الرئيسة منها والتي تحوي مدخل السبيل الرئيس في الناحية الشمالية الغربية، وبها شباك لشرب الماء عليه مصبعات حديدية، وترى واجهة الكتّاب الذي يعلو السبيل فوق هذه الواجهة، تقع الواجهة الأكبر من الناحية الشمالية الشرقية وأيضًا بها شباك لشرب المياه، وملحق بالسبيل حجرات أخرى كانت تستخدم لحفظ متعلقات السبيل.

اقرأ أيضا

قصة صورة| التمثال المزدوج يجمع بين الفن وعراقة التاريخ