رسائل مقاتل من أعماق سيناء

جمال الغيطاني خلال حرب أكتوبر
جمال الغيطاني خلال حرب أكتوبر

“كان المقاتل ينتهز فرص الدقائق، ليكتب هذه الرسائل.. لقد استطاع أن يبعث برسائل.. ولكن الرسالة السادسة كانت من أسطر قليلة.. قال فيها.. أحبائي سأنقطع زمنا من الكتابة إليكم. إننى أتأهب للقيام بمهمة قتالية..»


أصدقائى الأعزاء..


علمت من أسرتى عندما اتصلت بهم تليفونيا من هنا، من عمق سيناء، حيث موقعى المتقدم الذى يبعد سبعة عشر كيلومتراً عن قناة السويس فى اتجاه الشرق، إنكم اتصلتم بوالدتى وسألتموها عما إذا كانت تحتاج إلى شيء، وقلتم لها، كل سنة وأنت طيبة بمناسبة عيد الفطر، فقالت إنها ستهنئكم بنفسها عند احتفالنا جميعا بعيد النصر الكبير ويعود جميع أبنائها المقاتلين سواء كنت أنا بينهم، أو كنت فى عداد الشهداء، وإنها قالت لكم، أنه لا شيء يعز على مصر، ولا يوجد أحد غال على مصر، علمت كذلك وإخوانى المقاتلين الذين اتصلوا بعائلاتهم أن الجيران قد مروا عليهم فى العيد، وفى الأيام التى سبقته، وسألوهم عما إذا كانوا يستطيعون تقديم شيء، أى شيء، هكذا يبدو جوهر شعبنا فى لحظات الشدة، نحن هنا نشعر أننا ننتمى إلى عائلة كبيرة، الجيش هو راعيها وحاميها يدفع عنها الخطر فى الوقت المناسب لتستمر الحياة..


أنا بخير، ونريد من هنا ان تطمئنوا علينا تماما، ليس بصفة شخصية، وإنما فى كل ما يتعلق بنا، ونريد نحن ان نطمئن عليكم، فنحن فى مواقع القتال الأمامية، يبدو كل شيء واضحاً لا يحتاج الى كشف، الحقيقة هنا حيث قمة الصراع مع العدو جلية ناصعة، نراها عبر الدم المُراق والخطر والشظايا والموت، نحن هنا فى القطاع الجنوبى من الجبهة مثلا نعيش حياتنا، حياة الحرب، يصلنا الطعام والذخيرة والمياه، هذه حقيقة بينما تتساءلون انتم هل يصلهم التموين أم لا؟ نحن هنا ندرك تماماً حجم العمليات العسكرية التى يقوم بها العدو فوق الضفة الغربية.
أمامنا عدو مهزوم ورمل سيناء مثقلة بجثث أفراده، ومواقعه الحصينة مباحة لنا، لا شيء يستعصى على الفهم.


ونحن نعلم أنكم هدف أيضا لهذا العدو الحقير، يشن عليكم حربا نفسية ضارية على المستوى العالمى، نعرف أن إذاعات حلفائه تسلط عليكم أبواقها بهدف زعزعة ثقتكم فى رجالكم، بهدف التقليل من النصر الذى حققناه، بهدف زرع الخوف والرهبة منه، لهذا سأحاول الكتابة إليكم، كلما سنحت الفرصة، أما الآن فاضطر إلى إنهاء رسالتى الأولى، إذ أننى اوشك على الخروج فى مهمة خاصة، هذه الليلة.


الرسالة الثانية
أصدقائى الأعزاء. قبل بدء حربنا التحريرية يوم السبت 6 أكتوبر ولعلكم لاتعلمون أننى قضيت شهورا داخل سيناء أسلك دروبها واعتلى جبالها وأتخفى فى أكثر من مكان واقتات الاعشاب الجبلية احيانا، أو ما اجده حولى، وفى اللحظة المناسبة أضرب ضربتى مع زملائى، ثم نتفرق لنتجمع من جديد لقد اصبحت سيناء محفوظة فى قلوبنا وعقولنا، نعرف دروبها كلها ومتاهاتها وبالامس قبيل قيامى بالمهمة التى سأحدثكم عنها بعد قليل التقيت بأحد زملائى المقاتلين كان عائدا من أحد المواقع داخل سيناء.. من أين؟.. حاولوا أن تتصوروا: كان عائداً من الكونتيلا بعد أن قام بمهمة خاصة ناجحة ضد العدو مع عدد من رفاق السلاح.. جلست معه بعد أن قدم تقريره الى القائد.. أنه يتأهب للعودة إلى مكان آخر من سيناء ورحت أطيل النظر إلى وجهه سألته عن بعض العلامات المعينة على الطريق الذى سلكته من قبل فى سيناء.. أكشاك خشبية اقامها العدو كمقر للترفيه ضحك قائلاً إنه لم يرها اثناء عودته.. ويبدو أن العدو فكها ونقلها إلى مكان اخر وألغى برامجه الترفيهية، حدثنى عن الكآبة البادية على وجوههم اثناء التحركات وطوابير الدبابات المصابة التى يحاولون فك بعض اجزائها للاستفادة منها، وطوال حديثه كنت أطيل النظر اليه برغم اننى دخلت سيناء مرات، ولكننى كلما التقيت باحد زملائى العائدين منها لتوهم أشعر أمامه برهبة خاصة، أذكر تصوركم عن رجالنا العاملين فى أعماق سيناء.. تتخيلونهم نوعا من السوبرمان، تظنون انهم فوق البشر، ابدا، انهم رجال من قرى مصر وبلادها الطيبة، بعضهم موظفون وآخرون عمال، وفلاحون يمكنكم ان تروهم فى الشارع فى اى وقت عندما ينزلون الاجازات، وعندما يخطون الى داخل سيناء فإنهم يفكرون فى قراهم، وتتداعى فى اذهانهم صور أحبائهم وأطفالهم وأيامهم الهادئة الحلوة.. إنهم يحملون الوطن معهم أينما تنقلوا.. هؤلاء الرجال كبدوا العدو خسائر فادحة، ولم تقلب الدنيا كما فعلوا هم عندما نفذوا ببعض قواتهم الى الضفة الغربية.. أن رجالا مثلكم يدخلون يوميا إلى سيناء، يذهبون إلى قلب مواقع العدو يتحدون الخطر فى بؤرة وجوده وقبل تنفيذى المهمة التى سأحدثكم عنها فى رسالة اخرى التقيت بأحد زملائى.. كان قد تلقى الأمر بالذهاب مع وحدته الى منطقة تقع فى قلب الارض المحتلة قبل عام 1948، أى عليه ان يجتاز سيناء كلها، ثم يدخل اسرائيل، وهذا المقاتل بالذات قام بالعديد من أمثال هذه العمليات لدرجة اننا نمزح معه، فنقول له أحياناً أين تود ان تقضى اجازتك المقبلة، فيقول ضاحكا انه يفكر فى قضاء بضعة أيام بالقرب من بير سبع لينكد على اليهود عيشهم ثم يعود، جاءنى وبدا وجهه طيبا حانيا لحيته نبتت قليلا، خلت ملامحه من الشراسة التى تبدو عليه عند القتال، أنه مزارع من دير مواس، بمتلك فدانين وبعض نخلات تدر عليه محصولا سنويا متواضعا من البلح.. إن زوجته تدير جميع أعماله وتشرف على تربية ابنهما الوحيد فوزى الذى يدرس فى المدرسة الاعدادية، لم نره أن ما رأينا خطه المدرسى.. خط تلميذ فى الثانية الاعدادية.. يقول على لسان والدته أنهما بخير ولا ينقصهما شيء ويدعوان له بالسلامة ويطلبان من الله أن ينصر جنده، اعطانى ورقة صغيرة طلب منى أن أكتب إلى نجله العزيز الاستاذ فوزى رسالة يطمئنه فيها أنه كثيراً ما يتحدث عن فوزى ابنه الذى ينوى ان يمشى معه حتى آخر مراحل التعليم.. بدا متعجلاً فهو على وشك التحرك.. قال: إننى أعرف العنوان.. لم ادعه يكمل وعانقته ورحت أرقبه عندما اقتحم الظلام والمجهول ماضياً إلى أعماق سيناء.. أب مصرى حنون.. ما أعمق لحظات الوداع بين المقاتلين.. وهو ماض إلى مهمة.. انا ماض الى مهمة.. والعدو أحد.. هل نلتقى ثانية؟ اذن أين ومتى.. وما أحر اللقاء عندئذ وأروعه..


الرسالة الثالثة
أصدقائى الأعزاء..
لامجال للاحزان هنا، فإذا استسلم القلب زمنا لطنينها ربما أصبحنا ضحية لها، ولكننى الآن فى هذه الدقائق التى اختلسها للكتابة إليكم، سأحدثكم عن أحد زملائى بمشاعر عديدة، منها الإعجاب والألم والانبهار.


اليوم اتحدث إليكم عن المقاتل ابراهيم.. برغم أن أوان الحديث عنه لم يحن بعد، ولكننى اذرف دمعة على الورق، إبراهيم مقاتل عايشنا طويلا، عندما رأيناه أول مرة بدا لنا صارماً، قاسى الوجه، كأنه خلق للحرب والقتال ولكننا فى لحظات معينة رصدنا فى حنايا عينيه عذوبة ورقة، وعندما اصاب احدنا مرض اضطره الى دخول المستشفى، واثناء توجهنا لزيارته يوما فوجئنا بابراهيم يقف امام باب حجرة زميلنا يسأل الطبيب بدقة واهتمام، ويوصى بزميلنا خيرا، اكتشفت فيه الانسان صاحب الاعماق التى لا حد لها، وتذكرت اننى مررت فى إحدى مأمورياتى القتالية فى سيناء بواد ملىء بصخور جهة المنظر تبدو من بعيد قاسية، وعرة ولكن عند اقترابى منها اكتشفت شقوقا تتخللها نبتت فيها ارق انواع الورود وأذكاها رائحة.


فيما بعد وحد بيننا وبينه الخطر.. عبرنا معه القناة خلال حرب الاستنزاف عشرات المرات، وهاجمنا العدو فى أعماق سيناء، اذكر الان الليل ورائحة البارود وذعر العدو وجسارة ابراهيم تدفعنا وراءه.. دائما يتقدمنا.. رأيت فيه راهب حرب متصوف عسكرية، أستاذ قتال، والليلة قبل الماضية خرجنا معه كعادتنا نتحدى الموت والخطر والعدوان أعددنا كميناً متقناً للعدو، وفى الظلام رصدنا عدداً من دبابات العدو وعند اللحظة المناسبة فتحنا نيران مدافعنا واشتعلت النيران فى الأجسام الفولاذية الضخمة، اندفعنا الى الامام نطارد أفراد العدو الذين قفزوا من بعض العربات المدرعة المصاحبة للدبابات والتحمنا بالسلاح الأبيض وأفراد العدو يخافون تماما من القتال الليلى المتلاحم، علت الصرخات ولمعت السناكى فى الظلام وكان الجو كله غارقاً فى الغموض والقتال العنيف بينما النيران تلتهم دبابات العدو.. فروا من أمامنا.. سقط معظمهم قتلى.. صاح احد زملائى.. «ابراهيم».


كان متمدداً فوق الارض، وجهه يضيء سواد الليل، فى قسماته هدوء عجيب، لانت كل ملامحه، لم أعد أرى فيه إلا رقة أبدية وزهوراً لا تفنى.. لم اشعر به من قبل كما أحسست به فى هذه اللحظات الليلية التى تلت القتال.. نظرنا الى بعضنا فى الظلام.. تفاهمنا فى صمت.. ملنا عليه.. حملناه معنا.. عدنا به.. لقد احتوى مصر داخله طوال عمره.. والآن يجىء الوقت الذى تحتويه أرض مصر.. إذا ما أتيح للشاعر الشعبى أن يحكى عن «إبراهيم».. أن ينظم الملاحم فى أبطال مصر الذين ضحوا من أجلها خلال حرب التحرير.. فسوف تسمعون عن أبطال جدد أمثال أبوزيد الهلالى، وعنترة والظاهر بيبرس، وسيف بن ذى يزن ومار جرجس.


ويوماً.. سأحكى لكم عنهم أكثر..
الرسالة الرابعة
أصدقائى الأعزاء
مرت بى اليوم موجة انفعال رقيق.. وصلنى خطاب من طفلة فى التاسعة من عمرها تدرس بإحدى مدارس محافظة الشرقية.. تقول بكلمات بسيطة جدا، «كل سنة وانت طيب.. العيد الكبير يوم رجوعك يا بطل.. ربنا يجيبك لنا بالسلامة»..
وفاء محمد
وصل زملائى عدد آخر من الخطابات.. تأثرنا كلنا.. اصغينا الى نبض مصر، جوهر شعبنا يبدو كأقوى ما يكون عند الشدائد.


الرسالة الخامسة
أصدقائى..
،، صباح اليوم تمركزنا فى احدى القرى القريبة من قناة السويس بالضفة الغربية.. رصد استطلاعنا مجموعة من دبابات العدو.. وصلنا الى القرية وفى الليل سنخرج لاصطيادهم كما تصاد الثعالب والجرذان.. بيوت القرية اخليت من المدنيين.. ذهبوا الى قرية قريبة.. هنا فى القطاع الريفى من الجبهة يمارس الناس حياتهم بشكل عادى.. منظر عادى جدا ان ترى فلاحا يحرث غيطا اثناء غارة جوية او فلاحة تغسل ثيابا او طفلة تحمل طعاما فوق رأسها نمضى به الى والدها.. وفى لحظات الهدوء النسبى.. حيث تبتعد اصوات الانفجارات والضجيج الذى تحدثه الطائرات يخيل اليك انك فى منطقة من مناطق الريف المصرى الهاديء جدا الذى يسوده سلام ابدى، كل عود نبات ينمو هنا فيه تحد للموت وللقهر وللعدوان.. كل فلاح يقيم هنا فى حركته واسلوب عمله قهر لاعداء الحياة.


صباح اليوم فوجئنا بفلاح اسمه إبراهيم أبوالعطا.. نعرفه كلنا.. من أهالى القرية.. كان يحمل طبقا من الفخار.. قال «السلام عليكم يا أبطال مصر».. رددنا السلام. قلنا له: ماذا جاء بك يا إبراهيم أنت تسعى دائماً إلى الخطر.. لوح بيده مبتسما وقال: إن الأعمار بيد الله.. أشار إلى أحد أبراج الحمام.. وقال: جاء يحمل أكلاً ليطعم الحمام الذى بقى فى القرية بعد انتقالهم.
كان وجهه هادئاً لا يزعجه شيء وكان السلام فى عينيه.. رحت أرقبه وهو يطعم أفراخ الحمام الصغيرة بينما أسلحتنا مشرعة، وبعد لحظات قصار قد تلتقى بالعدو.
أصدقائى الأعزاء..


رأيت فى هذا المشهد مصر.. مجدوا معى مصر.
الرسالة السادسة
أحبائى..


سأنقطع زمناً عن الكتابة إليكم، إننى أتأهب للقيام بمهمة قتالية ستستغرق وقتا وزمنا، سأحدثك عنها فيما بعد، عندما تعود أيامنا إلى ايقاعها العادى.. أما الآن.. وحتى أكتب لكم مرة أخرى، وحتى نلتقى، ادعوا لنا بالنصر.. واذكرونا.

(6/11/1973)