لا أعلم علي وجه الدقة متي قرأت قصة الطفل الكذوب، الذي راق له العبث بأهل القرية الآمنة؛ وذلك بصراخه مستغيثاً من الذئب الذي يهاجم قُطعان الغنم، فيهمُ أهل القرية بفئوسهم وعصاياهم لدفع الخطر ومطاردة ذلك الذئب وإبعاده عن أغنامهم، غير أن تلك الحشود لم تجد سوي ذلك الطفل الكذوب واقفاً خلف الأشجار يضحك ويسخر من هرولة الساعين إلي نجدته. وللحكاية صورة أخري تروي أن ذلك الطفل اعتاد أن يهبط إلي النهر ليصطاد بعض الأسماك أو للاستحمام، فراق له أن يلفت أنظار المحيطين به؛ ولم يجد سبيلاً إلي ذلك سوي ادعاء الغرق وراح يصرخ طالباً النجدة والعون. ولما هب أهل المروءة من السباحين لإنقاذه، وجوده واقفاً علي الشاطئ ساخراً من هرولتهم. وقد اعتاد الطفل ممارسة تلك اللعبة السخيفة لشهور عديدة، فكان من حين إلي آخر يطلق صرخته (احذروا الذئب أو إنقذوني من الغرق). ولما علم أهل القرية بكذبه لم يعبأوا بصرخته، ولم تثرهم صيحاته، بل سمعوها كأنها واحدة من النكات العابثة.
وذات يوم خرج أحد الذئاب من بين الأحراش ليفترس الغنم فهرول الصبي لاستنفار أهل القرية، غير أن جميعهم لم يخرج، وتعالت صرخات الصبي صدقوني صدقوني بلا جدوي، فأجهز الذئب علي إحدي الأغنام وفر الصبي خائفاً مذعوراً.
ولا ريب فإن ما نجده من أجهزة إعلامنا علي صفحات معظم الجرائد والكثير من القنوات والمدونات والفيس بوك من أخبار وتحليلات وتحقيقات تحاكي تلك القصة السخيفة. ولا نريد إلقاء الاتهامات علي أولئك العابثين من الكتاب، فنصفهم بالعمالة والخيانة أو الجهل، ولا نسعي كذلك لفضح بعض الأقلام المأجورة التي تصور المشاهد وتنقل الأنباء وتفبرك الوقائع، وفقاً لأغراض من يدفع الثمن، ولا ننشد كذلك تذكير الغافلين منهم، بأن ما يفعلونه هو إحدي آليات حرب المعلومات التي ترمي إلي تزييف الوعي الجمعي، وتضليل الرأي العام، وتثبيط الهمم، وانتشار الإحساس باليأس والشعور بالإحباط بين الشباب علي وجه الخصوص، بل إن ما يفعلونه جريمة وسلوك شاذ يتعارض مع آدابيات وأخلاقيات المهنة. ولا نريد أيضاً تحريض السلطة السياسية علي أولئك الذين اعتلوا منابر التثقيف والتنوير والتوجيه وتربية الرأي العام دون استحقاق.
أجل لا نبغي كل ذلك، بل إننا نحذر من ذلك اليوم الذي يأتي فيه الذئب مرتدياً أيا من العباءات فتنبري الأقلام للتحذير منه، فلا تجد من يلبي النداء. فإذا ما تسلل الريب والشك إلي مصادر الحقيقة وفقد الرجال مصداقيتهم وآثارهم في الجمهور، فإن مثل ذلك لن يوصل سوي إلي طريقين يتنافسان في السوق وهما الفوضي أو القمع. فما أراه من أولئك العابثين لا ينتمي إلي النقد، ولا ينضوي تحت راية الباحثين عن الحقيقة، ولا ينحاز إلي الصالح العام، فإذا أحسنا الظن في أخبارهم، لوصفناهم بأنهم جامحون يبحثون عن الشهرة والإيثارة، راكبين جياد المقامرة والمغامرة دون أدني تعقل منهم للمقاصد والمآلات. كما أننا نعجب من تلك الأقلام وهاتيك الأبواق التي لا يُقرأ ولا يُنصت إليها ولا يشاهدها إلا خمسة في المئة من الرأي العام التابع؛ وذلك لأن الإعلاميين وأمراء المنابر الحاليين المتعالمين منهم لم يُفلحوا في شغل مكانة الطبقة الوسطي المستنيرة، التي أصيبت بالجنون والشلل والضعف والوهن منذ أخريات السبعينيات، الأمر الذي انعكس بالسلب علي تشكيل العقل الجمعي المصري الذي يحتاج دوماً إلي الأمانة في التوجيه، والصدق في الخبر، ونشر روح الوئام والأمل والمحبة والعمل والفكاهة والشجاعة والمروءة والتدين فيهم.
أجل إن حرب الكلمات التي نُطلق عليها الجيل الرابع من الحروب لها خطرها وأثرها، غير أن الدارس لطبيعة الشخصية المصرية سوف يدرك أن لديه خلايا استشعار تحفظ لهذه الأمة تماسكها وترابطها وتماسك مؤسساتها، ولا يرجع ذلك إلي الدين أو الأعراف أو التقاليد أو الوعي، بل يُرد إلي الجين الحضاري الأصيل في المصريين، وهو الذي يمنعها من السقوط ويحميها من الفوضي والشتات.
أعود وأحذر من خطرين أولهما طمع الذئب في الأغنام، وثانيهما عدم إصغاء السامعين. وذلك يوم يستحيل صرير الأقلام، وتكبيرات الآذان، وصرير الأجراس، ونغمات الألحان، وأنين الشعراء، ونحيب المظلومين، وكذا نباح الكلاب إلي عالم هاديس الذي لا يسكنه إلا الأشباح والموتي.