هنا منفى عرابي.. سكان سريلانكا قبلوا يده وقدمه وارتدوا الطربوش لأجله

هنا منفى عرابي.. سكان سريلانكا قبلوا يده وقدمه
هنا منفى عرابي.. سكان سريلانكا قبلوا يده وقدمه

عشرون عاما من حياة الزعيم أحمد عرابي لا يعرفها أحد قضاها عرابي في المنفى، لم يقترب منه أحد.. لم يتحدث إليه أحد.. لم يكتب عنه أحد.. الذين عرفوه ماتوا والذين اشتركوا معه في الجهاد ماتوا والذين أحبوه وساروا وراءه ماتوا أيضا.. لم يبق منهم إلا خادمته عجوز تسكن بالقرب من بيته في مدينة كانوي.. إنها لا تتكلم ولكن عندما تسمع اسم عرابي تبكي.

 

لم يبق إلا أربعة من أصدقاء أبنائه في كنجزوود كوليدج ولكل واحد من هؤلاء قصة ورواية ولم يبق إلا سيدة واحدة هي التي تملك البيت الذي كان يسكنه أحمد عرابي في منفاه بجزيرة سيلان «سريلانكا حاليا».

 

ولكن كيف عاش عرابي؟ وأين كان يسكن؟ وماذا عمل؟.. عرابي هو الذي أدخل الطربوش إلى الجزيرة وحتى الآن المسلمين يرتدونه.. وعرابي هو الذي أدخل الزي المصري إلى الجزيرة حتى الأطعمة أدخلها الزعيم الراحل.

 

هل تعلم أنه وهو الذي لم يتعلم الإنجليزية إلا في رحلته من السويس إلى سيلان دعا المسلمين إلى تعلم اللغة الإنجليزية وأن المسلمين  ثاروا عليه كيف أن الإنجليز اضطهدوه ونفوه ويتعلم لغتهم .

 

عندما زار الدكتور محمود فوزي جزيرة سيلان دعته مدرسة الزاهرة في 17 مايو سنة 1955 لرفع الستار عن لوحة أحمد عرابي واللوحة رسمها أحد الطلبة عن صورة من إحدى مجلات القاهرة وتحدث في ذلك اليوم مدير المدرسة السناتور عزيز وروى كيف أقام عرابي في هذه البلاد وكيف كانت مشروعاته؟ وكيف أحبه الناس.

 

وفي النهاية، وقف طلبة المدرسة ينشدون باللغة العربية التي لا يفهمونها نفس النشيد الذي ودعت به المدرسة الزعيم أحمد عرابي يوم 12 سبتمبر سنة 1901 وكان ذلك تكريما للزعيم.. وقف الطلبة ينشدون :
بحمدك يا بارئ العالمين وأنت الرحيم المعين فبارك سرنديب في علمها ومعهد آدابها الزاهرة وأحسن لأبنائها في الآخرة، وعندما سمع الزعيم عرابي هذا النشيد بكى وأطال البكاء وقد تعود في أيامه الأخيرة أن يبكي من شدة الأسى والحزن وكان يخشى أن يموت بعيدا عن بلاده التي أحبها وكان الشيب قد بدا عليه مع أنه لم يكن قد تجاوز الستين إلا قليلا لكنه شاب قبل الآوان .

 

بداية الرحلة لسيلان

 

وقصة العشرين عاما تبدأ بعد الحكم على عرابي بالنفي مدى الحياة ونقل عرابي من القاهرة إلى السويس ومعه ستة من زملائه في الثورة.. كان عددهم جميعا 57 من الرجال والنساء.

 

وفي ميناء السويس ركبوا الباخرة الإنجليزية «ماريوتيس» وكان يحرسهم عشرون من الجنود المصريين يرأسهم موريس بك وكان يرافق الزعماء السبعة مترجم خاص هو سامي عطا الله .

 

قطعت الباخرة الرحلة في 14 يوما ولم تحدث حوادث أثناء الرحلة وعكف الزعماء جميعا على تعلم اللغة الإنجليزية حتى عرابي كان يضع في جيبه كتابا عن تعلم اللغة الإنجليزية وكان ينصح بقية الزعماء بضرورة تعلم هذه اللغة وتدل التقارير أن صحة الزعماء كانت طيبة جدا فيما عدا عبدالعال حلمي فكان يشكو دائما من ضيق التنفس وكثيرا ما كان يصحو من النوم يصرخ فينهض الزعماء لإنقاذه ولا يعرف أحد على التحديد نوع المرض الذي كان يشكو منه.

 

وعبدالعال حلمي هو أول من مات من هؤلاء الزعماء فقد مات في سنة 1892 في مدينة كولبو وله قبر يزوره المسلمون وعلى مدخل الضريح يوجد اسم عبدالعال حلمي .

 

وفي أثناء الرحلة شكا عرابي من اللحوم التي تقدمها السفينة وسأل إن كانت من لحم الخنزير فقيل له إنها ليست كذلك فسأل إن كانت هذه الأبقار قد ذبحت أو خنقت فقيل له إنها مخنوقة وامتنع عرابي عن تناول اللحوم هو وكل ركاب السفينة .

 

وقبل أن تصل الباخرة إلى سرنديب «سيلان» كانت صحيفة الأوبزيرفر السيلانية الأسبوعية قد نشرت مقالا في 26 ديسمبر سنة 1882 شنيعا هاجمت فيه عرابي وثورة عرابي .

 

مشهد مبكي للوصول

 

وفي يوم 9 يناير سنة 1883، أخذ الناس يفدون من كل أنحاء الجزيرة معظمهم جاء من مدينة كانوي ومعهم أطفالهم ونساؤهم يحلمون برؤية البطل عرابي هكذا يسمونه «أحمد عرابي المصري»، وفي يوم 10 يناير ظهرت في الأفق من بعيد الباخرة التي تقل الثوار المصريين وفي مقدمتهم أحمد عرابي.

 

واقتربت الباخرة من الشاطئ لا شيء غير عادي عليها كل ما هنالك هو بعض العساكر المصريين بملابسهم الزرقاء وبعض بحارة الباخرة والشيء غير العادي هو الموجود على الشاطئ الناس يقفون على أطراف أظافرهم وأحد الزوارق قد ابتعد عن الشاطئ وكان عليه بعض كبار الضباط البريطانيين.

 

صعدوا إلى الباخرة وأقاموا فيها حوالي ساعة ونصف الساعة ولابد أنهم تحدثوا إلى عرابي والزعماء وطمأنوهم على الحياة هنا، وصعد على السفينة مراسل صحيفة الاوبزيرفر وسجل أن الزعيم أحمد عرابي يبدو عليه أنه إنسان طيب وأن السماحة واضحة في وجهه وله ابتسامة فيها بساطة وكبرياء ويبدو من كلامه وحركاته أنه إنسان من السهل أن تحبه.

 

أما الزعماء فقد سألوا المراسل عن الحياة في الجزيرة وعن مستوى المعيشة وهذا يدل على أن الزعماء السبعة قد وطنوا أنفسهم على الحياة في الجزيرة واستسلموا للأمر الواقع.

 

والزعماء السبعة المنفيون هم: أحمد عرابي باشا وزير الحربية الأسبق ويعقوب سامي باشا وكيل وزارة الحربية ومحمود باشا البارودي رئيس الوزراء الأسبق وعلي فهمي باشا وطلبة باشا عصمت وعبدالعال باشا ومحمد فهمي باشا .

 

وسأل عرابي المراسل عن عدد الصحف التي تصدر بالإنجليزية والتي تصدر بالعربية وعن عدد المسلمين وإن كانوا يعرفون اللغة العربية، فرد المراسل: إن الزعماء كانت لهم مباريات طريفة على ظهر السفينة ، بحسب ما نشرته مجلة آخر ساعة في عام 1959.

 

وكانت الساعة المحددة  للنزول إلى الشاطئ هي السابعة ولكن البوليس لاحظ أن النزول سيكون عسيرا جدا ولذلك طلب من الجماهير أن تبعد عن الميناء وإلا فلن ينزل عرابي بل سيبقى في السفينة وأن أول من نزل إلى الشاطئ كان علي فهمي وأفراد أسرته نزلوا في زورق في صمت تام والجماهير تهمس فقد تصورا أنه أحمد عرابي وعندما ركب إحدى العربات صارت الجماهير تطارده وهو يبتسم فقد ظنوه أنه عرابي باشا ثم نزل بعد ذلك محمد سامي ومحمود فهمي الاثنان معا وتحير الناس أيهما يكون عرابي باشا .

 

أما عرابي باشا فقد نزل من الباخرة في الساعة الواحدة بعد الظهر.. نزل هو وأفراد أسرته وكان عددهم ستة وهنا هتفت الجماهير وهجموا عليه يقبلون قدميه ويديه ومشت الألوف وراء عرابي .

 

ونزل كل واحد من هؤلاء الزعماء في بيت مستقل أما الزعيم عرابي فقد نزل في بيوت متعددة ثم استقر في بيت واحد وفوجئ الزعماء بأن هذه البيوت لا يوجد بها أثاث .

 

وعندما قابل المراسل الزعيم أحمد عرابي في بيته وسأله وماذا تصنع بأولادك؟ فقال عرابي سأدخلهم المدرسة ولكن المدرسة مسيحية وعلى رأسها قسيس؟ فقال عرابي هذا لا يؤثر في الموقف فأولادي حفظوا القرآن .

 

منزل جديد

 

وقد أقام عرابي في كولمبو حتى سنة 1892 في بيت موجود الآن في حي بوريلا وفي شارع أوف كوتا والبيت كانت مساحته كبيرة جدا لا تقل عن 20 فدانا وكان معظم هذه المساحة حديقة واسعة أو على الأصح غابة والبيت الذي كان يسكنه عرابي لا يزال كما هو عدا بعض التعديلات التي أدخلت على المداخل وقد أقام عرابي في هذا البيت تسع سنوات واعتلت صحته وطلب من السلطات البريطانية أن تأذن له بالسفر إلى الشمال حيث الجو أفضل وسمحوا له بذلك .

 

وكان عرابي له نشاط في كولمبو فدعا إلى تعلم اللغة الإنجليزية وكان يخطب في المسلمين من تعلم لغة قوم أمن شرهم ومكرهم وكان عرابي قد لاحظ أن الذين يترددون على داره قد نقص عددهم فلما سأل عن السبب قالوا له دعوتك لتعلم اللغة الإنجليزية فذهب عرابي إلى بيوتهم وراح يقنعهم الواحد بعد الآخر ودعاهم لإنشاء مدرسة للمسلمين يتعلمون فيها أصول الدين.

 

ونجح في أن يجمع 25 ألف روبية وأخذ من الحكومة البريطانية مثل هذا المبلغ وفي يوليو سنة 1892 وضع عرابي أساس «المدرسة الزاهرة» التي أصبحت «الزاهرة كوليدج» وأصبح عرابي الرئيس الفخري لهذه المدرسة .

 

أما البيت الذي سكنه عرابي في مدينة كانوي فهو لا يزال قائما أنه في شارع هالولا والبيت مقام على ربوة وكان إيجاره الشهري مائة روبية وقد استأجرته السلطات البريطانية من أسرة فيمانيكا والبيت من دورين وقد أقام عرابي في هذا البيت عشر سنوات .

 

ويحكي الناس هناك عن عرابي أنه كان رجلا ضخما طويلا ممتلئا الناس تمشي بجواره وكانهم أقزام وقالوا ان عرابي باشا هوالذي أدخل الطربوش في الجزيرة فلم يكن احد يلبس الطربوش قبل عرابي كما أنه هو الذي أدخل البنطلون الأبيض أو السروال إلى الجزيرة  أما الطاهية التي كانت موجودة في بيت عرابي مازالت تقدم أطعمة غير مألوفة في الجزيرة من بينها الكنافة والقطايف والغريبة والباذنجان والقوطة المحشوة .

 

وبدأت بعد ذلك سنوات الوحدة لعرابي بعد أن توفي محمد فهمي في يوليو سنة 1894 وبعد ذلك توفي يعقوب سامي في أكتوبر سنة 1900 وبدأ الشيب يصبغ شعره بالبياض وقد ضعف بصره وفي سنة 1900 أفرج الخديوي عن طلبة باشا فعاد إلى مصر ومات بعد خمسة شهور ومحمود سامي الباردوي فقد بصره نهائيا وعاد إلى مصر ومات في ديسمبر سنة 1904 وبقي علي فهمي وعرابي معا .

 

وصاحب البيت الذي يسكنه عرابي هو فيمانيكا وكان صديقا لعرابي وبعد سفر عرابي إلى مصر قرر صاحب البيت وهو من أغنياء كانوي ومن أصحاب مزارع الشاي أن يحتفظ له باسم عرابي مكتوبا بالإنجليزية على جانب الربوة التي أنشئ عليها الاسم هو «عرابي هاوس».

 

المصدر: مركز معلومات أخبار اليوم