«الأخبار» تكشف بالصور ضياع الحضارة.. أنقذوا القاهرة الفاطمية

جدران تحكى عظمة التاريخ وسحره، وقفت شامخة تتأمل بحسرة تقلب الدهر، حضارة يرجع تاريخها لآلاف السنين ترقد فى قبور الإهمال.. يكسوها الظلام ويعمها الخراب، قصور سكنتها الأشباح بعد أن كان يسكنها الأمراء، مساجد أصبحت مرتعا للزواحف والحشرات بعد ان عاصرت أبهى عصور مصر الاسلامية ، وشوارع خيمت عليها الفوضى بعد أن سادتها العراقة من قبل ، اكبر مضيفة تاريخية لاستقبال زوار مصر تحولت لأكبر صندوق قمامة بالمنطقة، تاريخ طويل مرسوم على جدران يكسوها التشقق، تتساقط صفحاته مع كل جزء ينهار وسط عتمة الإهمال، إنها القاهرة الاسلامية التى شهدت أزهى عصور مصر وأقواها، ها هى الآن تشهد أزهى عصور الفوضى والإهمال.. حتى كادت ان تندثر اثارها، وتضيع معالمها التاريخية.

الأخبار قامت بجولة على أرض الواقع رصدت الوضع المأساوى الذى وصلت اليه آثار القاهرة الإسلامية.. ورصدت بالكلمة والصورة ، كيف يتفنن المسئولون فى طمس تاريخنا وحضارتنا.

شارع المعز.. فى قبضة السياس والباعة الجائلين

شارع المعز لدين الله الفاطمى الموجود بوسط القاهرة.. من اهم الشوارع التاريخية التى تجسد لفترة حضارية من اهم فترات مصر التاريخية وهى فترة «الدولة الفاطمية» يضم هذا الشارع الذى يزيد عمره على الف عام نحو 33 اثرا تتنوع ما بين مساجد ومدارس واسبلة وبابين فى غاية الأهمية وهم باب الفتوح وباب زويلة بالإضافة للكثير من الآثار، فقد تحول اكبر متحف مفتوح فى العالم حسب وصف المؤرخين له إلى مرتع للباعة الجائلين الذين استوطنوه وسط غياب الأجهزة المعنية بالرقابة على هذه المناطق التى تمثل المصدر الأول فى الدخل القومى لمصر، فمنذ ان تخطو بقدمك داخل شارع المعز وتبدأ فى «المعافرة» وسط زحام السيارات التى لا تتناسب مع ضيق الشارع، فالسيارات تمر إلى داخل الشارع وسط زحام المارة ذهابا وإيابا، بعد ان كانت هذه السيارات ممنوع دخولها تماما إلى داخل شارع المعز حتى كان الشارع يبدو كأحد شوارع اوروبا، بل واجمل فهو كــ«اللوحة الأثرية المرسومة» التى يتهافت السياح عليها، كما استوطن الباعة أرصفة شارع المعز وافترشوا بضاعتهم وشوهوا المنظر الحضارى الذى تميز به هذا الشارع منذ القدم، أرصفة المساجد الأثرية الموجودة بشارع المعز مكتظة ببضاعات الباعة، وانتشرت الورش المختلفة انتشارا كبيرا حتى إن الشارع اصبح يبدو كمنطقة صناعية وليست اثرية.

وأصبحت المساجد الأثرية الموجودة بمنطقة شارع المعز تستغيث من شدة الإهمال الذي أصابها وأحاط بجدرانها من جميع الجهات فمثلا جامع الغورى الذى يعد من أهم المساجد الأثرية استغل الباعة الجائلون ساحته فى عرض منتجاتهم وتعليقها.. وعرضها على المواطنين، ولم يختلف الحال كثيرا فى مسجد الفكهانى الذي طاله ما طال مسجد الغوري من إهمال واستهتار وفى شارع سوق المغربلين نجد جامع الصالح طلائع، وهو ثالث مسجد معلق فى العالم، وقد طالته يد الإهمال أيضًا، وتعرض للغرق فى المياه الجوفية، حيث تنضح المياه الجوفية من الحوائط وتخترقها، وتتسرب للخارج، وهو ما قد يهدد سلامة المسجد وينذر بسقوطه.

قايتباي مغلق بلا أمل.. والمحمودية تكسوه الشقوق

مسجد المحمودية الذى أنشأه الوالى العثمانى “محمود باشا” سنة 975 هـ فى مصر، حيث ألحق به قبة ضريحية وسبيلا، والمسجد معلق يصعد إليه بعدة درجات، خطوات وتدخل إلى ساحة الصلاة داخل الجامع عبارة عن قاعة كبيرة مربعة فى وسطها 4 أعمدة من الجرانيت تحمل 4 عقود كبيرة فى وسطها منور، وفى منتصف ساحة الجامع طرقة أرضيتها منخفضة قليلا عن أرضية الجامع وتصل بين الباب الجنوبى والباب الشمالى فانقسم الجامع بذلك إلى إيوانين وبالرغم من ان مسجد المحمودية يعد من المساجد التى حفت بتاريخ عريق إلا ان المسجد اصبح محاطا بالقمامة من كل جانب ، ليس هذا فقط فقد بدت التشققات والشروخ فى جدران المسجد واضحة.

اما مسجد قايتباى الرماح والمعروف بأنه مرسوم على العملة فئة « 200 جنيه» الذى تم بناؤه فى 908 هـجريا، والذى كان أحد أجمل جوامع القاهرة، وكتب على بوابته «أمر بإنشاء هذه المدرسة المباركة من فضل الله المقر الأشرف العالى المولوى السيفى قانى باى أميرآخور كبير أعزه الله تعالى»، واحتفل بافتتاحه وسط حضور كبار رجال الدولة.

تعرّض المسجد لعوامل الزمن التى لا ترحم، فدب الخراب فى جنباته وسقطت مئذنته فى عام 1870 نتيجة الإهمال، فى وقت غزت الدكاكين المنطقة المحيطة بالمسجد، فشوّهت جماله وضيعت ملامحه، إلا أن تدخّل لجنة حفظ الآثار العربية – التى لها الفضل فى الحفاظ على معالم القاهرة التاريخية – حال دون ضياع المسجد كله إلى الأبد، فقد بدأت اللجنة فى الحفاظ على المسجد بعملية ترميم كاملة أعادت له رونقه الغائب عام 1333هـ/1914. وفى عهد الملك فاروق أعيد بناء مئذنة المسجد الرشيقة عام 1358هـ/1939.

ومنذ إغلاق المسجد بعد زلزال 1992 الشهير الذى أصاب آثاراً إسلامية كثيرة بالشيخوخة من ضمنها مسجد قايتباي، انتظاراً للترميم الذى كان من المفترض أن يتم فى الأشهر القليلة المقبلة، وعندما قررنا زيارة هذا المسجد المغلق وجدنا حالة من الإهمال تضرب بأطنابها فى المكان، فالشبابيك الخشبية المصنوعة بأيدى محترفى فن الأرابيسك مهشمة ومشربية المسجد آثار حريق سابق واضحة عليها، ناهيك بتشققات عرفت طريقها إلى جسد المسجد مهددة بأخطار قادمة إذا لم يتحرك المسئولون عن المسجد بالتدخّل لإنقاذه للمرة الأخيرة. لم يمنع ذلك من وقوع هذا الحادث المشين الأمر الذى يكشف عن غياب تام من ناحية الجهات المسئولة عن حماية هذه الآثار ، ومازال هذا المسجد مغلقا حتى الآن ، والله اعلى واعلم إن كان قد تم سرقة شيء اخر منه ام فلا نستبعد شيء بعد هذا الكم الهائل الذى رصدناه من الإهمال.

وعلى بعد امتار من مسجد قايتباى الرماح يوجد مسجد « جوهر الالا» مدرسة ومسجد الأمير جوهر اللالا أنشأهما الأمير جوهر الجلبانى نسبة إلى الأمير جلبان أو أحمد الجلبانى الحاجب المعروف باللالا أى “مربى أبناء السلطان” لم يختلف مسجد جوهر الالا كثيرا فى بؤس حاله عن بقية المساجد السابق ذكرها فالشروخ تملأ حوائط المسجد، بعد ان تآكلت جوانبه من الخارج، أما الميضة وهى المكان المخصص للوضوء فتساقطت بعض الأحجار الخاصة بها، وانتشرت القمامة خارج المسجد الذى يوجد خلف قلعة صلاح الدين، فيما يحتاج الضريح إلى إعادة ترميم.

كفر الزغاري.. خرابة مهجورة

على بعد امتار من شارع المعز بعد أن تتجاوز العديد من المقاهى الموجودة على اطراف كل شارع تسير إليه، يزداد الأمر ضيقا كلما ازدادت عمقا إلى الداخل حتى تصل إلى «كفر الزغاري» وربما تجد ان الأمر ازداد سوءا كلما حاولت التعمق، فأكوام القمامة ترتفع شيئا فشيئا، وتجاورها بقايا المنازل المهدمة فقد ينتابك شعورا بأنك فى احد الخرابات او الأماكن المهجورة فيصيبك القلق، حتى تقع عينيك على احد السائحين الذى جاء متجولا قاصدا، هذه الأماكن التاريخية التى يشهد كل جدار بها على عراقة كل من كان به، ليفاجأ ان اصحاب هذا التاريخ العريق تركوه فريسة للخراب والإهمال، فسرعان ما يتحول شعورك للحرج الشديد امام هؤلاء السياح الذين قطعوا مسافات طويلة فقط لزيارة هذه الأماكن التاريخية التى تحولت إلى مقالب قمامة، فالسمة المميزة لكل منازل كفر الزغارى هى التهالك الشديد، وذلك فى حالة وجود منزل ما زال محتفظا بكامل اجزائه، بعد ان سقطت أغلب أجزاء المنازل الموجودة بالمنطقة، وما زال سكانها موجودين بها حتى الآن، فتشكو زينب منتصر بؤس حالها قائلة «تعبنا من كثرة الشكوى للحى والوزارة بشأن ترميم منازلنا التى تتساقط اجزاؤها يوما بعد يوم، وبالرغم من ذلك فلا مجيب، فقد ابدينا رغبتنا فى الانتقال إلى اى مكان توفره لنا الوزارة بديلا عن بيوتنا التى كادت جدرانها ان تسقط فوق رءوسنا».

أما مصطفى عبد الغنى فيقول « لقد انتابنى اليأس الشديد مما اراه فى هذه المنطقة التى نشأت فيها واعلم تاريخها جيدا، حتى اننى بدأت افقد الأمل فى ان هذه المنطقة سوف تعود لمجدها مرة اخرى، مضيفا «بقية المناطق التى يكسوها الإهمال قد لا تكون بنفس الوضع الكارثى الذى تشهده منطقة الجمالية وذلك لأنها منطقة اثرية كانت تمثل مصدرا اساسيا من مصادر الدخل القومى لمصر فى يوم من الأيام».

القصور الأثرية.. تستغيث!

الأهمال لم يتوقف عند المساجد الاثرية فنجدها ايضا فى احد أهم معالم الآثار المصرية العريقة التى كانت خير شاهد على تاريخ طويل يحكى عظمة من شيدو وعاشو فيه وهى القصور الاثرية .. كانت البداية من قصر «المسافر خانة»  بحى الجمالية. هذا القصر المعروف بأنه تحفة معمارية فريدة ومميزة وصفه الكاتب الكبير جمال الغيطانى فى احد كتبه بأنه كان يضارع قصر الحمراء بإسبانيا وإيوان كسرى بفارس وطوب قابى سراى بإسطنبول كان يبلغ ارتفاع القصر ما يقارب 22 مترا وكان يضم العديد من التحف المعمارية الفنية فى ذلك العصر، بالإضافة إلى احتوائه على ثانى أكبر «مشرفية» فى العالم وهى مأخوذة من كلمة «شرفة» اى ما يشبه البلكونة فى العهد الحديث.

يقع قصر «المسافر خانة» على بعد خطوات قليلة من حى الجمالية حيث تقودك له حارة متعرجة لتجد نفسك امام اكبر مقلب قمامة بالمنطقة بعد ان كان اكبر مكان لاستقبال زوار مصر ، المشهد من امام القصر يوحى بكل معانى الحسرة، فلا معالم لوجود قصر من الأساس ، لا ترصد عيناك سوى خراب لا ينتهى حيث تروى ام محمود عجوز فى الستينيات «هذا القصر كان من اجمل ما رأت عينى ومنذ ان تعرض للحريق الذى نعلم جميعنا انه كان محاولة لإخفاء سرقة القصر ولم يتم ترميمه حتى الآن ، مضيفة ان القصر ليلا يضم البلطجية وقطاع الطرق».

اختفت معالمه

والمعروف عن قصر السكاكيني انه عانى من عمليات نهب وسرقة وإهمال على مدار ما يزيد على 65 عاماً منذ تأميمه حيث آلت تبعيته لوزارة الآثار منذ اكثر من 20 عاما، وبالرغم من اننا لم نستطع اختراق ابواب هذا القصر المغلق، إلا ان جميع مظاهر الإهمال بدت واضحة من حديقته الخارجية وابوابه الحديدية التى تحيط بالحديقة، فقد طمست معالم القصر بعد أن سرقت اغلب آثاره ومقتنياته على مدار تاريخه، واهمل ما تبقى منها وتحول القصر إلى وكر للأشباح بعد ان أصبح مهجوراً لا تستفيد منه الدولة فى شيء، وضاعت نقوشه الجميلة وتماثيله الأثرية التى كانت تحيط به من كل جانب تحت الأتربة المتكدسة عليه.

مقلب قمامة

انتقالا لقصر «يشبك بن مهدى» المعروف بقصر «طوسون» والذى يقع على بعد امتار قليلة من ميدان صلاح الدين او فى شارع سوق السلاح تحديدا اشهر شوارع السيدة عائشة، عرف قصر قوصون بأنه واحد من اجمل التحف الأثرية فى مصر، شيده صهر الأمير سيف الدين قوصون أحد أمراء السلطان الناصر محمد بن قلاوون وذلك فى عام 1238، فالبرغم من ان هذا القصر مازال محتفظا ببعض جدرانه إلا انه لا يمكن وصفه سوى بأنه احد خرابات مصر التى تجذب المدمنين واصحاب الكيف والأعمال المشينة ، فقد تحول هذا الكنز الأثرى إلى مرتع للبلطجية ومقالب القمامة والحيوانات الضالة ، فبعد ان تتخطى محيط القصر المليء بكل ما سبق وصفه ، تجد بابا متهالكا بدا عليه بقايا الحضارة، ولافتة صغيرة على احد الجدران المجاورة للباب كتب عليها «اسم القصر وتاريخ إنشائه» وليتها توقفت عند هذا الحد.

أمتار قليلة من قصر قوصون فى شارع سوق السلاح وتجد قصر «منجك السلحدار» تلك البوابة القابعة عند بدايته وهى من أروع الآثار التى يرجع تاريخها إلى العصر المملوكي، وأنشأها الأمير «سيف الدين منجك السلحدار» عام 1347،  ولم يختلف الحال كثيرا عما تم وصفه من قبل فالسمة المميزة هى الإهمال والخراب باختلاف الأماكن واصحابها.