فطن المصريون القدماء إلى مفهوم الحق والباطل

مفاهيم الأخلاق نبتت فى مصر

يعزو العلماء والمؤرخون ازدهار الحضارة المصرية القديمة إلى ما ساندها من قيم وأخلاقيات، وأنه لولا نضوج المثل الأخلاقية التى صاحبت جهود النهضة لاستحال ازدهارها بهذه العظمة المشهود لها.
لم تنشأ الحضارة المصرية القديمة فى يوم وليلة أو فى قرن واحد من الزمن، بل نشأت نتيجة تتابع وتعاقب واستمرار جهود وأعمال عديدة ولمدد طويلة. صاحبت هذه الجهود أفكار وممارسات تآلفت مع بعضها البعض لتكوِّن سلاسل من الفكر مهدَّت للعمل الرشيد بالأسلوب السليم وتصدَّت لكل ما هو خطأ، وهو ما يطلق عليه الآن القيم والأخلاقيات. تأثرت الحضارة المصرية وما صاحبها من سلاسل الفكر هذه بالإطار الطبيعى الذى نشأت فيه مثلها فى ذلك مثل أى من الحضارات فهى لا تنمو إلا فى مناخ من الاستقرار الاجتماعى والسياسى، وهو ما تحقق فعلاً على أرض وادى النيل منذ حوالى 4000 سنة قبل الميلاد عندما وحَّد مينا "ملك القطرين" وجهى الوادى البحرى والقبلى، فى وحدة سياسية واحدة تميزت بالاستقرار، أى أصبحت "دولة" بالمعنى المتعارف عليه الآن. استمرت هذه "الدولة القديمة" ما يقرب من ألف سنة (3400 - 2447 ق.م.) كانت كافية لتنبت جذور التقاليد ولتتبلور مثل أخلاقية وقيم مارسها القدماء وهو ما كان من أهم مقومات ازدهار الحضارة المصرية بطابعها الخاص والمتميز الذى انعكس على أعمال الفن والعلم وتطورهما، والتى وصفها جورج سارتون رائد علم تاريخ العلوم "بالمعجزة المصرية".
فطن المصريون القدماء إلى مفهوم الحق والباطل منذ الدولة القديمة وقاموا بوصفهما وتفنيدهما والتعريف بالمفاهيم ذات الصلة وآمنوا بها ومارسوها فى حياتهم كما يتضح لنا من خلال أمثال بتاح حتب التى ترجع إلى الأسرة الخامسة فى الدولة القديمة والتى اعتبرها أدولف إيرمان، فى كتابه "آداب المصريين القدماء" شاهد إثبات على نشأة مفهوم الأخلاقيات والقيم الإنسانية ويسميها سارتون "مولد الضمير الإنسانى وتطوره". من هذه الأمثال ما يلى : "لا تكن متعجرفاً بسبب علمك ولا تنتفخ أوداجك لأنك عالم. استشر البسيط كما تستشير العالم، ليس هناك عالم أو فنان كامل فى براعته، الكلام الطيب أندر من الحجر الأخضر الثمين ويوجد أحياناً فى حديث العاملات فى طحن الغلال بين أحجار الرحى". جاء أيضاً الكثير من هذه الأمثال فى نصوص الأكفان وفى كتاب الموتى، نشير هنا إلى بعض ما جاء فى كتاب ج.ف.بريستيد "فجر الضمير" على لسان رع إله الشمس " أننى خلقت الرياح الأربع لكى يستطيع كل إنسان أن يتنسمها فى حياته مثل أخيه، وخلقت المياه العظيمة التى يستفيد منها الفقير والغنى على السواء. إننى جعلت كل إنسان مثل أخيه وحرمت على بنى الإنسان فعل الشر لكن قلوبهم أحياناً لا تفعل ما أمرت به " وقد تكون هذه الحكمة الأخيرة هى السبب فيما ورد فى بردية " أنحاى " فى المتحف البريطانى) التى صوَّرت كهنة معبد آمون وهم جالسون يشاهدون عملية وزن قلب الإنسان بعد موته، القلب فى كفه وتمثال الآلهة ماعت إلهة العدل فى كفة أخرى فيما يسمى "محكمة أوزايرس". تطورت المثل والمفاهيم الأخلاقية بمرور الزمن لتترسخ فى وجدان المصريين القدماء ولعل أهم هذه المفاهيم هو ما أدى إلى الاعتقاد بوحدانية الإله التى أدركها واعتنقها أمنحتب الرابع وغير اسمه إلى إخناتون (1375 - 1350 ق.م.) ونادى بها وكان جريئاً وقام على ما يمكن وصفه ببرنامج للإصلاح الدينى لترسيخ هذا المفهوم وعلى مدى ما يزيد على ثلاثة قرون تكامل هذا المفهوم مع المفاهيم الأخلاقية الأخرى لدرجة يشبهها بعض المؤرخين بما جاء فى أمثال النبى سليمان بل ويقارنها البعض بما جاء فى بعض نصوص العهد القديم.
خلاصة القول إن جذور الأخلاقيات والقيم نبتت فى مصر وفجر الضمير بزغ فى مصر وهو ما أضاف للإنسانية مفاهيم مازلنا نمارسها فعلاً ونسعى لترسيخها ونقوم بتطويرها حتى وقتنا هذا وبحسب قول سارتون "ونحن مازلنا نصعد سلم التطور فإننا مدينون للمصريين القدماء بجزء كبير من ذلك لجهودهم فهم أول المرشدين وأول المعلمين".