طوال الطريق من مبنى الأخبار إلى مقهى صغير مجاور لسينما علي بابا "الكورسال" كان المصور "البولاقي" يحكي لي عن مسقط رأسه ويحيى من يعرفهم من سكان المنطقة، وما أن قابلنا الكاتب  فتحي سليمان حتى تصافحا، وبدآ تبادل الأخبار عن سكان بولاق، ومن رحل ومن لازال  على قيد الحياة،  وكأنهما صديقان قديمان رغم أنهم يتعرفان على بعضهما البعض لأول مرة!

وطوال الرحلة داخل المنطقة العريقة، كنت أنا الغريبة وسط عالم "البولاقية"، وهكذا كانت الأجواء داخل رواية فتحي سليمان الثانية "بولاق أبو العلا"، حكايات قد تبدو منفصلة لكنها مرتبطة بمكان يحمل سمات خاصة، المكان هو البطل الذي أختاره فتحي سليمان ليكون ثاني حلقة في تجربة خاصة يعمل عليها معتبرا إياها مشروعًا من ثمانية روايات، ويقول عن ذلك: "كانت القاهرة مقسمة إلى ثمانية أجزاء قبل تقسيمها لأربع جهات، ومن هنا أتت تسمية قسم الشرطة ب "التمن" وأتمنى أن أكتب ثمانية القاهرة التي بدأتها برواية "في محطة فاتن حمامة" التي رصدت الحياة في منطقة مصر الجديدة بعد ثورة ١٩٥٢".


المكان هو بولاق الشيخ علي الذي يكون مع "بولاق العلوية" منطقة بولاق أبو العلا، ويعترف الكاتب أن المكان في روايته  أقوى من الشخصيات، كما يبدو من تصديره في العنوان، وكأن الشخصيات استخدمت فقط  كوسيلة لتعبئة فراغ المكان. أربع شخصيات رئيسية من بينهما الراوي، أو الكاتب، الذي استخدم اسمه الحقيقي، كأنه يسرد سيرة ذاتية مختلطة بخيال روائي، وتدور الحكايات حولهما، منذ طفولتهما في عصر عبد الناصر مرورا بعهد السادات، متناولا حكايات الجيرة وهو ما يعلق عليه سليمان قائلا:” من طفولتي تشغلني العلاقات بين الجيران في بولاق، الجيرة في كل أشكالها ترتبط  بطموح البدايات، فأغلب السكان قادمين من النوبة وسوهاج، وجميعهم  يعرفون  جيدًا أن بولاق مجرد محطة ترانزيت، ويسعون للانتقال في المحطة القادمة إلى مكان أفضل، لذلك فالباقون جزء من العائلات، وكبار السن تحديدا، أما الأغلبية من المتعلمين فقد غادروا بولاق إلى مناطق أخرى".  كلما سرنا أكثر في الشوارع تأكدنا من خلو البيوت من أصحابها القدامى، فمعظمهم قد توفوا أو انتقلوا إلي أماكن أخرى، وبدأت الحوارات ما بين الكاتب ومن تبقى من جيرته في شارع بيته القديم عن مصير بولاق التي قدمها في روايته، وهي في أغلبها مصائر مأساوية، يراها سليمان عاكسة لمصير مكان أصابه الجذام ويعلق: "مفيش ملكية لأي بيت، وأى بيت يقع محدش يقدر يبنى مكانه،  فيه يقين عند الناس أنهم هيسيبوا المكان دا، أهل بولاق يعرفون تماما أن تاريخ صلاحية منطقتهم قارب على الانتهاء، وأنهم سيرحلون يوما ما". لغة النص تعكس أيضًا أفكار الكاتب أو الراوي وشخصيات المنطقة الشعبية معا، مزيج من العامية والفصحى يرى الكاتب أنها لغة وسيطة أشبة بلغة الجرائد وتعليق مباريات كرة القدم، تنقل روح المنطقة التي عاش فيها.

تنتهى الأحداث باغتيال السادات، لكنها ليست نهاية بالنسبة إلي شخصيات العمل، فرغم تكريس الرواية للمرحلة الناصرية فيما يشبه "النوستالجيا" والتي تتوافق مع قناعات الكاتب السياسية، وانتقاد العمل لفترة السادات التي بدأ فيها الانفتاح ودخول تجار "البالات" المنتشرين مكان ورش صناعية مختلفة كانت في نفس المكان،إلا أن نهاية الأحداث لم تكن واضحة ويوضح سليمان: "في محطة فاتن حمامة" انتهت الرواية عند زلزال ١٩٩٢، وفي "بولاق أبو العلا" انتهت عند اغتيال السادات"، وأنا أعمل الآن على روايتي الثالثة عن حي الزمالك، لاستكمال مصير حى بولاق، لذلك فالنهاية ليست في الحقيقة نهاية فعلية لكن اختيار حدث تاريخي يمثل مرحلة مفصلية لإنهاء السرد، الحياة مستمرة في مكان آخر من خلال رواية جديدة فيما يشبه التقطيع السينمائي.”