فى الصميم

ترامب.. والحروب الخطأ

جـلال عـارف
جـلال عـارف


فى جدول أعمال الرئيس الأمريكى المُنتخب «ترامب» معارك كثيرة فى الداخل، وحروب وصراعات عاتية فى الخارج، أغلبها فى الجوانب الاقتصادية التى كان يركز عليها من أجل تحقيق الشعار الذى يرفعه «استعادة العظمة الأمريكية».

فى الداخل هناك معارك من أجل تنفيذ سياساته التى تصطدم بمؤسسات الدولة العميقة والقوية، كما تصطدم بمجتمع منقسم يتجه الى اليمين مع ترامب وحلفائه من كبار رجال الأعمال الذين يتصدرهم الرجل الأغنى مالياً والأكثر طموحاً سياسياً «إيلون ماسك»!!

وفى الخارج.. هناك الصراع الأساسى مع الصين التى تهدد زعامة أمريكا، وخلافات أساسية مع الحلفاء فى أوروبا الذين يسميهم ترامب «الصين رقم ٢» على أساس أنهم - كما الصين - يستفيدون اقتصادياً على حساب أمريكا، ويهددهم بفرض ضرائب جمركية تصل الى ٢٥٪ ويفرض عليهم الاستيراد أكثر من أمريكا والإنفاق أكثر على الدفاع بدلاً من ترك العبء على واشنطن!!. 

ثم تأتى بعد ذلك الصراعات الأقل حدة فى مختلف أنحاء العالم من أجل تأمين المصالح الأمريكية وتعزيز التواجد السياسى والعسكرى فى آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط.

وفى كل ذلك كان «ترامب» يعد بإنهاء الحروب وعدم التورط فى صراعات جديدة، مؤكداً أن أمريكا القوية قادرة على كسب معاركها وتأمين مصالحها دون صراعات عسكرية لأن قوة أمريكا قادرة على منع الآخرين من تحديها أو استغلالها كما حدث تحت إدارة بايدن «على حد قوله»!!.

لكن ترامب يفاجئ الجميع الآن وقبل أن يدخل البيت الأبيض بإطلاق سيلٍ من التهديدات لدول الجوار التى يرتبط معظمها «مثل كندا» بعلاقاتٍ وثيقة وتاريخية مع أمريكا.

فى البداية ظن البعض أن حديث ترامب عن تحويل كندا إلى ولاية أمريكية هو إحدى «الشطحات» التى تعود ترامب على إطلاقها لإثارة الضجيج ثم التراجع عنها، لكن الرجل عاد ليكرر الحديث أكثر من مرة، ثم ليمد تهديداته الى كل دول الجوار.. فقناة «بنما» بجب ان تعود الى السيطرة الأمريكية، وخليج «المكسيك» هو خليج أمريكي، وجزيرة «جرينلاند» وهى الأكبر فى العالم والتابعة للدنمارك لا بد أن تصبح أمريكية من أجل أمن أمريكا ومصلحة العالم الحر!!.

ردود الفعل كانت بالطبع غاضبة ورافضة لكل ادعاءات ترامب، لكن السؤال الحقيقى هو: لماذا يفجر ترامب هذه الصراعات مع دول الجوار؟ ولماذا لا يستبعد استخدام القوة لتنفيذ تهديداته باستعادة السيطرة على قناة بنما وضم جزيرة «جرينلاند» لأمريكا؟ ولماذا يؤكد أنه سيخوض حرباً اقتصادية ضد كندا لإقناعها بأن تكون الولاية ٥١ فى أمريكا بينما نصف ولايات أمريكا تتطلع لأن يتمتع مواطنوها بمستوى معيشة المواطن الكندى؟.. والأهم من هذا كله هو: هل قررت أمريكا أن تنهى عصر احترام الحدود بين الدول، وأن تتبنى سياسة التوسع الاستعمارى، وتنسف تاريخاً كانت تعلن فيه أنها مع حق الشعوب فى تقرير مصيرها، ومع احترام حدود الدول واستقلالها؟ وأى مصلحة لها فى ذلك؟!

أمريكا نفسها - بنخبتها السياسية والفكرية - تطرح هذه الأسئلة قبل أن يطرحها الآخرون. يدركون - فى الداخل - خطورة السير فى هذا الطريق، يعرفون أن «ترامب» تستهويه حكاية أن العالم كله يخشاه، ويعتبر ذلك علامة قوة.. لا يجدون مصلحة فى استعداء الجميع أو الصراع ضد أقرب الحلفاء. يدركون أن أمريكا تكون قوية حين تكون «الشريك الأفضل» وليس العدو الأقوى الذى يهدد الجميع، ويشعل الصراعات فى محيطه الذى كان هادئاً، ويحاول فرض الإتاوة «السياسية أو الاقتصادية» حتى على الجيران والحلفاء!!.

اللعبة الجديدة لن تثبت قوة أحد «!!» ولن تخفى حقيقة أن أمريكا تحتاج للعالم بأكثر مما يحتاج لها، وأنها باقتصادها الأقوى هى الدولة الأكثر مديونية فى العالم، وأن الحروب التى تشنها لم تنجح عسكرياً منذ الحرب العالمية الثانية، ولن تنجح اقتصادياً إلا بالتعاون مع الآخرين، لا يمكن أن تقود العالم - أو حتى تشارك فى قيادته - إذا كنت لا تملك إلا تهديد حلفائك، وإذا كنت ستفتح الباب أمام تغيير الخرائط بالغزو أو الاحتلال هذا زمن مضى ولن يعود.

سيتراجع ترامب حتماً، لكن الضرر سيقع. قد تكون مصادفة أن تنشر إسرائيل فى نفس التوقيت خرائطها المزعومة عن حدود «تاريخية» لدولة بلا تاريخ وبلا مستقبل.. قد تكون مصادفة، لكننا تعلمنا ألا نترك شيئاً للمصادفات!!