كنت أتمنى، وليس كل ما يتمنى المرء يدركه، أن أكتب عن عَالَمٍ أكثر أمنًا، عالم يزدهر فيه التعاون بين الدول بدلًا من الصراعات المحتدمة. كنت أتمنى أن أرى جهدًا حقيقيًا للسلام يتجاوز المؤتمرات والمراسم البروتوكولية والمجاملات الدبلوماسية، لكننا نعيش فى واقع يُدار فيه العالم على حافة الهاوية، حيث كل خطوة محسوبة، وكل تصريح قد يُشعل فتيل أزمة جديدة.
اليوم، العالم بأسره يقف فى انتظار لحظة فارقة، لحظة تتجاوز حدثًا سياسيًا إلى تغيير فى موازين القوى. فى 20 يناير، يعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات من الانتظار. العودة التى لم يعتقد الكثيرون أنها ستحدث، تضع العالم فى حالة ترقب واستعداد، وكأن الجميع على وشك الدخول إلى ساحة معركة جديدة.
أوروبا.. بين الترقب والخوف
القارة الأوروبية ليست متفائلة، تجربتها السابقة مع ترامب لم تكن وردية؛ الرجل الذى سخر من الناتو وفرض سياسات حمائية على التجارة لم يكن صديقًا للشركاء التقليديين. أوروبا اليوم تقف حائرة: هل تواجه هذا التحدى بسياسات دفاعية؟ أم تنساق إلى لعبة المصالح المشتركة التى يُجيد ترامب لعبها؟ فى كلتا الحالتين، هى أمام اختبار صعب للحفاظ على وحدتها فى وجه التوترات المتوقعة، خصوصًا مع تصاعد النزعات الشعبوية داخل القارة.
اقرأ أيضًا| إسلام عفيفى يكتب: لا تقرأ هذه الأخبار
الصين.. العدو رقم واحد
إذا كان هناك من يعرف تمامًا أن عودة ترامب ليست فى صالحه، فهو الصين، التى خاضت معه حربًا تجارية شرسة، تعلم أن المرحلة القادمة لن تكون سهلة. ترامب يرى فى الصين تهديدًا مباشرًا للهيمنة الأمريكية، ويستعد لاستئناف الصراع الذى بدأه. ومع تصاعد التوترات فى بحر الصين الجنوبى وتايوان، فإن احتمالات حدوث مواجهة مباشرة بين الطرفين باتت أكثر واقعية من أى وقت مضى.
روسيا.. شريك أم خصم، لا ثوابت؟
فى موسكو، الوضع أكثر تعقيدًا بوتين الذى اعتاد أن يكون لاعبًا صبورًا يدرك أن عودة ترامب قد تحمل فرصًا لتعزيز النفوذ الروسى، لكنها أيضًا قد تأتى بمفاجآت غير محسوبة فى عالم ترامب، لا ثوابت فى العلاقات، وما يُعتبر اليوم فرصة قد يتحول غدًا إلى تهديد، لذلك روسيا فى حالة استعداد دائم، تراقب المشهد وتُحضّر أوراقها لكل السيناريوهات، خاصة مع استمرار النزاع فى أوكرانيا وتوسُّع الناتو شرقًا.
الشرق الأوسط.. بركان دائم
أما فى منطقتنا، فليس غريبًا أن نكون على فوهة بركان دائم. الشرق الأوسط لا يهدأ، والصراعات فيه لا تنتهى، عودة ترامب تعنى إعادة فتح ملفات ساخنة؛ إيران، إسرائيل، دول الخليج، وتركيا، جميعهم فى حالة انتظار وترقب لما ستئول إليه السياسات الأمريكية الجديدة، وفى ظل هذا المشهد، لا يزال غياب الحلول السياسية الحقيقية هو العنوان الأبرز.
مصر.. سياسة توازن دقيقة
فى وسط كل هذا، تقف مصر، تُحاول صياغة علاقات متزنة تُبقيها فى موقع قوة فى عالم لا مجال فيه للحياد، تبدو القاهرة مدركة لتعقيدات المشهد الدولى، فقد تجاوزت مصر فترة الكمون الاستراتيجى فى الإعلان والتعامل مع المواقف وأزمات المنطقة والإقليم، وهو ما يُفسّر التحركات الدبلوماسية الأخيرة، خصوصًا مع قبرص واليونان، حيث تسعى مصر لتكون صوتًا مؤثرًا فى الاتحاد الأوروبى من خلال هذا التحالف الثلاثى الذى يُعزّز مصالحها الإقليمية، ولا يمكن أن نغفل فى سياق العلاقات المصرية الأمريكية أن ما يحكمها هو المصالح مثل كل العلاقات الدولية، وهناك علاقات إستراتيجية بين القاهرة وواشنطن، وتُدرك المؤسسات الأمريكية الدور المصرى جيدًا فى منطقة الشرق الأوسط وشرق المتوسط والعمق الإفريقى، وإن كان الرئيس الأمريكى هو صاحب القرار، لكن هناك دورًا مهمًا ومؤثرًا وفاعلًا لمؤسسات صُنع القرار وفى مقدمتها البنتاجون والخارجية، وعلى الجانب الآخر من الأطلسى الاتحاد الأوروبى الذى تربطه بمصر أيضًا شراكة إستراتيجية لموقف مصر كحائط صد فى مواجهة أكبر خطر يُهدد القارة العجوز الهجرة غير الشرعية.
الاقتصاد العالمى.. هشاشة غير مسبوقة
لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد فى هذا العالم المضطرب، فالاقتصاد العالمى الذى مازال يعانى من تداعيات جائحة كورونا، أصبح هشًا أكثر من أى وقت مضى، وعودة ترامب تعنى زيادة احتمالية الحروب التجارية، خاصة مع الصين وأوروبا، وهو ما قد يؤدى إلى أزمات اقتصادية متلاحقة، ومع تصاعد الدين العالمى وتفاقم معدلات التضخم، يبدو أن العالم على شفا أزمة اقتصادية كبرى لن ترحم أحدًا.
التكنولوجيا.. الميدان الجديد للحروب
فى هذا العصر، لم تعد الحروب تقليدية فحسب، بل أصبحت التكنولوجيا ميدانًا رئيسيًا للصراع، الصين والولايات المتحدة فى سباقٍ محموم على التفوق التكنولوجى، خاصة فى مجالات الذكاء الاصطناعى وشبكات الاتصالات. هذا الصراع التكنولوجى لا يقل خطورة عن الحروب العسكرية، لأنه سيُحدد مَن سيسيطر على المستقبل.
أزمة المناخ.. خطر يتجاهله الجميع
وسط كل هذه الصراعات، يغيب عن المشهد خطر آخر أكثر تهديدًا: أزمة المناخ؛ فالعالم منشغل بالحروب السياسية والاقتصادية، بينما تتزايد الكوارث الطبيعية وتتصاعد تداعيات التغير المناخى. غياب التعاون الدولى الجاد لمواجهة هذه الأزمة يجعل البشرية أمام خطر وجودى حقيقى، لكن يبدو أن الاهتمام بهذا الملف مُؤجلٌ إلى حين انتهاء الصراعات الآنية.
هل هناك أمل؟
رغم هذا المشهد القاتم، يظل هناك أمل. الأمل فى أن تُدرك الدول الكبرى أن الصراع لن يأتى إلا بمزيدٍ من الدمار، وأن العالم بحاجة إلى التعاون لا التنافس. الأمل فى أن تظهر قيادات قادرة على تجاوز الحسابات الضيقة والعمل من أجل مستقبل أكثر أمنًا واستقرارًا. الأمل فى أن نصل إلى مرحلة يكون فيها الحوار هو الوسيلة لحل النزاعات، وليس القوة.
هذا هو العالم الذى نقف جميعًا على أطراف أصابعنا فى انتظاره، عالم لا يرحم الضعفاء، ولا يُكافئ المتهورين. لكنه فى الوقت ذاته يمنحنا فرصة لإعادة التفكير فى مسارنا، وفرصة لصياغة مستقبل أفضل. فهل سنتمكن من اغتنام هذه الفرصة أم سنظل نُكرِّر الأخطاء ذاتها؟ هذا هو السؤال الذى يجب أن نطرحه اليوم قبل أن يفوت الأوان.