الموقف السياسى

محمود بسيونى يكتب: قوة المصالح الثلاثية

محمود بسيونى
محمود بسيونى


فى عالم متغير، تحتاج السياسة الخارجية إلى الابتكار فى صناعة الأدوات والوسائل والآليات، التى تستخدمها الدول لتحقيق أهدافها ومصالحها فى العلاقات الدولية، هذه الأدوات يتم تصنيفها عادةً إلى أدوات دبلوماسية، اقتصادية، عسكرية، وثقافية.

وخلال السنوات العشر الماضية، تابعت باهتمام حركة السياسة الخارجية المصرية، وتحديدًا آلية التعاون الثلاثى مع اليونان وقبرص، وأيضًا آلية التعاون الثلاثى مع الأردن والعراق، التى تحولت مع الوقت إلى أدوات مهمة لتحقيق المصالح المشتركة، بمعنى أن مصر تستفيد مع شركائها من المكاسب، ويتساند الجميع أمام محاولات الإضرار بالمصالح.

وكانت آلية التعاون الثلاثى بين مصر واليونان وقبرص واحدة من أنجح الشراكات الإقليمية، التى استفادت منها مصر كثيرًا، خاصة أنها نشأت فى وقت صعب على الدولة المصرية، وذلك عقب ثورة 30 يونيو، وقدمت خلالها كل من قبرص واليونان دعمًا كبيرًا للثورة المصرية، وكانتا (خير سفير) لمصر لدى دول الاتحاد الأوروبى، واليوم يرتفع مستوى الشراكة مع أوروبا لمستوى الشراكة الاستراتيجية والشاملة، مع استثمارات وحزم دعم مالى لتقوية الاقتصاد المصرى، وذلك دليل قوة وفاعلية للتعاون بين الدول الثلاث.

يأتى بعد ذلك إنشاء منتدى غاز المتوسط ومقره القاهرة، وهو أحد ثمار آلية التعاون الثلاثى مع قبرص واليونان، الذى ساهم فى تحويل مصر إلى مركز إقليمى للطاقة، من خلال التعاون والتنسيق بينها، وبين الدول المنتجة فى المنطقة لزيادة معدلات إنتاج الغاز، وإعادة تسييله وتصديره لأوروبا، وتم تدشين المنتدى على مبدأ احترام حقوق الأعضاء فى الاستفادة من مواردهم الطبيعية وفقًا للقانون الدولى واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
مشروع استراتيجى كبير

وخلال الاجتماع الأخير بالقاهرة، تم الإعلان عن مشروع إستراتيجى كبير للربط الكهربائى بين مصر واليونان، وبحسب تصريحات لمحمود عصمت وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، فإن المشروع سيتم تنفيذه على مراحل، ويعتمد على تصدير الطاقة، ويشارك فيه القطاع الخاص.

ما سبق كان حديثًا عن الاقتصاد، إلا أن السياسة متواجدة وحاضرة، خاصة أن الدول الثلاث تتشارك نفس الهمّ الإقليمى، وبينها اتفاق على دعم الجهود المصرية المبذولة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار فى غزة، وتيسير دخول المساعدات الإنسانية إلى أهالى القطاع.

وتتفق الدول الثلاث على أن حل الدولتين هو الوحيد لضمان تحقيق السلام والاستقرار والتنمية بالمنطقة، وأن دعم مصر مهم وحيوى، وذلك لدورها القوى فى تحقيق الاستقرار الإقليمى، كما أنها من أكبر المتضررين بسبب استضافتها لأكثر من تسعة ملايين أجنبى، هربوا إلى مصر نتيجة اتساع الأزمات الإقليمية، وخسارتها لنحو سبعة مليارات دولار بسبب انخفاض إيرادات قناة السويس، نتيجة الهجمات على باب المندب والمرتبطة بتطورات الحرب على غزة. 

وعلى الجانب الآخر، تنظر أوروبا إلى مصر باعتبارها خط الدفاع الأول فى مواجهة الهجرة غير الشرعية، وهناك تقدير أوروبى كبير لجهود مصر الإنسانية فى إنقاذ أرواح ركاب سفن الموت. 

الوضع فى سوريا والسودان

أما عن الوضع فى سوريا، فهناك اتفاق بين الدول الثلاث تم إعلانه فى بيان القمة، يتحدث عن ضرورة إطلاق عملية سياسية شاملة بدون تدخل أجنبى، تشمل جميع الأحزاب الوطنية السورية، وتتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولى (رقم ٢٢٥٤)، كما أعربت عن رفضها لانتهاك السيادة السورية، وطالبت بضرورة احترام وحدة سوريا، واستقلالها وحماية الأقليات الدينية والعرقية، والحفاظ على التراث الثقافى لسوريا.

وفيما يتعلق بليبيا، دعت الدول الثلاث إلى تطبيق نفس المبدأ، وطالبت بوجود حكومة وطنية موحدة جديدة، تتولى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية فى آن واحد، وذلك عبر إطار عملية سياسية شاملة تتم إدارتها من الليبيين ودون تدخل أجنبى.

وأعلنت كل من قبرص واليونان دعم جهود مصر لحل النزاع فى السودان من خلال تحقيق وقف إطلاق نار شامل ودائم وفورى على مستوى البلاد، يليه استئناف لعملية انتقالية والدعوة لتقديم المساعدة الإنسانية، والوفاء بتعهدات المانحين حسب إعلانات جنيف وباريس.

أما عن القضية القبرصية، فظهر اتفاق الدول الثلاث على توحيد قبرص كاتحاد فيدرالى ثنائى المناطق، وثنائى الطائفة بسيادة واحدة وشخصية دولية واحدة ومواطنة واحدة، وفقًا للقرارات ذات الصلة لمجلس الأمن الدولى، كما رحبوا بجهود الأمين العام للأمم المتحدة لاستئناف عملية التفاوض.

وتدعم كل من قبرص واليونان حق مصر فى التوصل إلى حل عادل ومتوازن لأزمة السد الإثيوبى، من خلال اتفاق قانونى ملزم بشأن تشغيل السد، تطبيقًا لما نص عليه البيان الرئاسى لمجلس الأمن لعام ٢٠٢١.

وبعد مرور 10 سنوات على الاتفاقية، نستطيع أن نحكم على التجربة، وذلك من واقع ما حققته من إنجازات ملموسة، أفادت السياسة الخارجية للدول الثلاث فى محيط تتوالد فيه الأزمات ذات التأثير السلبى الواسع على الأمن والاستقرار والاقتصاد، كما أنها تمثل تجربة ناجحة لتعاون مثمر بين دول تتشارك الموارد والهموم، ولديها إصرار على تحقيق مصالحها وفق ثوابت القانون الدولى والشرعية الدولية وتفهم شواغل كل دولة ومساندتها.

تقوية الروابط الثقافية

ومن أهم أسباب نجاحها وقوتها فى تقديرى هى البناء على التاريخ المشترك للدول الثلاث، باعتبارها ذات حضارات قديمة، وامتلاكها تاريخًا مشتركًا، واهتمامها بتقوية الروابط الثقافية، وفى مقدمتها مبادرة العودة إلى الجذور، وهى تخاطب بالأساس الشعوب، وارتباطها بالمدن على شواطئ الدول الثلاث، وحققت المبادرة تقدمًا جيدًا يمكن البناء عليه فى مجالات أخرى مثل: السياحة والرياضة والآثار والمتاحف. 

والحقيقة أن فكرة التركيز على التنمية، وعدم المساس بسيادة الدول الأخرى، ورفض التوسع والهيمنة أصبحت عملة نادرة فى منطقة اتخذت عدم الاستقرار شعارًا لها، وتتسع فيها حالات انهيار الدول دون أفق لاستعادتها، بعدما تنكشف أزماتها الداخلية، فضلًا عن حالة التربص بالدول المستقرة من أجل إضعافها، وتحقيق مصالح البعض على حساب شعوب أخرى، فيما تدهورت الأحوال الاقتصادية والمعيشية فى ظل حرب التوسع الإسرائيلية وصراعات النفوذ الإقليمية، وذلك بلا أى أفق للحل، وغياب كامل للأطراف الدولية أو المؤسسات الأممية، وتراجع قدرتها على فرض السلام، وتقديم المساعدات للمحاصرين فى قطاع غزة، وهو ما يُعرض المنطقة لخطر اتساع الصراع وضياع فرصة احتوائه.