«هل أرثى لحالى وأحتقر شأن نفسى قياسًا لمن تعثرت خطواتهم واجتهادهم فى تلقى العلم صغارًا وانطلقت طفراتهم فى كسب المال وتحقيق الثراء كبارًا؟»
بعد مضى سنوات العمر لتصبح رقمًا يثير استغراب صاحبه كيف صار إليه فى غفلة منه، وقد لا يوازيه ما صار إليه أغلبنا ـ يبدو أن كلًا منا مطالب بوقفة مع النفس؛ لعلها كشف حساب للنفس وللمحيطين ولما يحيط بكل منا من مثبطات نجح فى تخطيها أو مساعدات أبت همته القاعدة أن يستثمرها، فنظر حوله ليستشعر خيبة أمل تعنى أنه طال عمره وهان محصوله.
السبت:
ماذا لو ؟
ماذا لو استقبلت من أمرك ما استدبرت؟ ماذا كنت ستفعل؟
هكذا فى رسالة رقيقة كان هذا السؤال ـ الذى أراه وعرًا فى إجابته ـ من صديق عزيز هو ومثله كثيرون من حسنات التواصل عبر الفيسبوك.
صديقى الأديب الكاتب المؤرخ الدكتور على زين العابدين الحسينى، ألقى علىّ بسؤاله العويص، فألقيت بدورى بالسؤال على كاهل نفسى: ماذا لو استقبلت ما استدبرت من أمرى؟ ماذا سأفعل؟
ترى هل سأرثى لحالى وأستصغر ما جاد به القدر علىّ صحة ومالًا وأهلًا وإفلاتًا مما ضرب غيرى وألمّ به وعلمًا حملته أمانة ولم أدر أأفلحت فى الحفاظ على أمانة التوصيل لما ينفع غيرى أم أهملت الأمانة؟
هل أرثى لحالى وأحتقر شأن نفسى قياسًا لمن تعثرت خطواتهم واجتهادهم فى تلقى العلم صغارًا وانطلقت طفراتهم فى كسب المال وتحقيق الثراء كبارًا؟ هل أرثى لحالى وقد نبتت بذرتى وشبت بداية طفولتى فى قرية لم تلبث أن حملتنى عنها آمال أبى إلى القاهرة العامرة لتتفتح مداركى هناك ثم تتبادلنى القرية والمدينة عامًا هنا وثانيًا هناك فثالثًا هنا ورابعًا هناك، تتقاذفنى لعبة الشد والجذب لأعود للقرية أعيش فى «دار العيلة» بكل لُحْمتها ودفئها آنذاك، فأرجع من هناك فى عامى الثالث الثانوى لأستقر أخيرًا بالقاهرة حتى يومنا هذا؟ هل كنت محظوظًا بمثل هذا التحرك جيئةً وذهابًا أم كنت قليل الحظ ذا حصيلة تافهة من العلم أو التعليم، وهل لو استقبلت من أمرى ما استدبرت كنت سأختار هذا الارتباك بين هنا وهناك؟
الإجابة بلا مواربة أننى لو استقبلت من هذه المرحلة ما استدبرت لاخترت أن تمضى كيفما مضت فقد عرّكتنى ووطدت حبى للريف أولًا ثم أيضًا مهدتنى بشكل متوازن لما بعد ذلك بالاستقرار بالقاهرة العامرة الواعرة، تلاقحت بذور الريف المنتقاة مع أرض خصبة هيأتها سنوات القاهرة المبعثرة ليكون أول منتج بدنى ريفى متماسك ونفسى خليطًا متوائمًا قبل أن نجرب الهرمنة والهندسة الوراثية، ولو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما وجدت خيرًا من هذا المزيج المتناغم السلس لأستعد به للمراهقة والشباب وأخوض مراحل جديدة أكثر صعوبة هى الواقع الصعب فى القاهرة مع الرفقة المختلفة عن رفقة القرية.
أما المربون الذين تولوا أمرنا فى تلك الفترات فمهما استقبلنا من أمرنا ما استدبرناه ما كنا لنجد خيرًا منهم ليربونا قبل أن يعلمونا وتمتد خيوط علاقاتنا بهم بين بنوة وصداقة واحترام وعطاء تعليمى لنا متميز فى زمن مغدق عطاؤه الجاد، ثرى عطاؤه الوجدانى، جميل نتاجه الترفيهى بشتى صنوفه وألوانه فقد كان جميلًا يجعل للفن والأدب مكانة الصدارة فى وجداننا ويحرص أعلامه وأساتذته على التبارى لتقديم الأجمل والأروع.
الأحد:
أنا المتهم
وما كان لأمر أن يأخذ كل نصيبه مكتملًا ويتم بإتقان ومثالية، لكن هذا النقص كان منى تجاه نفسى، وما استشعرت جرم ما فعلته بنفسى إلا فى خمسينيات العمر؛ ذلك هو قدر تفاعلى مع الدراسة واجتهادى فى تلقى العلم، كنت متفوقًا سريع الاستيعاب والحمد لله، وكان تفوقى على أقرانى لا يستغرق منى جهدًا فائقًا، وهى ذات النقطة التى نلت بها من نفسى وحرمتها حصيلة علمية وثقافية ونوعية واجتهادًا يفى بحلم كان أفراد الأسرة يرونه فىّ ؛ ذلك هو حلم أن أصبح طبيبًا، وأصدقكم القول لم أجد فى نفسى تلك المهنة فلم أعمل بجدية على تحقيق هذا الأمل، وتباينت اهتماماتى بالدراسة فى دار العلوم بين أنشطة ثقافية وصحفية، بينما اكتفى أو لعله اقتصر اهتمامى الفعلى بالانتظام فى الدراسة بفتات تبقى له وحرمنى حلم الدراسات العليا بالتاريخ الإسلامى الذى عشقته وترك بصمته على طريقتى فى الكتابة، وذلك أول ما كنت مغيره لو استقبلت من أمرى ما استدبرت.
الاثنين:
الطيب أحسن!
أما ما كنت مرتضيه أيضًا مما استدبرت فذلك هو تخصص عملى كمصحح للغة العربية فى مجال الصحافة الذى شبهه أستاذى الراحل الدكتور الطاهر مكى ـ رحمه الله ـ بالمقبرة وأنا أجرى معه حوارًا فى مقتبل عملى بالصحافة ونصحنى بالهرب منه بسرعة!، لكن لعلى قرأت الأمور مبكرًا واستشعرت كمية الصراعات فى الأقسام المرموقة الأخرى فى عالم الصحافة وقت التأمت بها منتصف الثمانينيات، وقد كانت وقتها مهنة ذات بريق اجتماعى واضح ووضع اجتماعى متميز ودخل مادى مرتفع؛ لكننى لما دخلت فى عمق العملية الصحفية آثرت البعد عن بريق المهنة وإغراء أقسامها الميدانية واستقر بى المقام فى قسم التصحيح خادمًا للغة وممارسًا للكتابة أيضًا هنا وهناك خارج العمل الرسمى، فلطالما انبهرت بأسماء وشخصيات كنت أقرأ لها قبل أن أعرفها فلما اقتربت من كثيرين منهم هنا وهناك تحول انبهارى غالبًا إلى نوع من الصدمة من شخصيات بعضهم الإنسانية فى ازدواجية صدمت ريفيتى فآثرت البقاء بلا أضواء خيرًا من أضواء قد تخدعنى فتخلعنى عما كنت عليه وأنا مقتنع به وسعيد بثباته بداخلى. وقلت فى نفسى: الطيب أحسن!
الثلاثاء:
لا تلمنى!
ويستمر حوارى مع الذات بأسئلة عديدة: من كان فينا الأكثر قدرة على تسيير الآخر والتحكم فيه: أنا أم نفسى التى بين جنبىّ؟ وماذا كانت نتيجة ذلك النزاع الدائم فى كل منا بينه وبين نفسه؟ وهل هناك ما يستحق اللوم للآخر بعد هذا المشوار فى الحياة؟
أسئلة ترددت بداخلى كثيرًا وكلما حاولت إجابتها أستحضر قوله تعالى «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها».
وتقول النفس: لا تلمنى فيما تتهمنى فيه بتقصير فى طاعة أو أمر مطلوب، أو مغالاة فى لهو أو أمر هامشى، ثم تلقى باللوم فى نتيجة لم تحصد فيها نجاحًا أو محاولة لم تلق فيها فلاحًا.. وغريب فعلا أمر تلك النفس التى تستطيع كثيرًا تخدير مشاعر وتفكير صاحبها فتقوده إلى حيث يجب أن يبتعد، أو تبعده عن حيث يجب أن يقترب متذرعة بنصف الآية الكريمة «فألهمها فجورها وتقواها»، وتنسى أن الله تعالى قد أردف بقوله «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها»، فالفلاح أو الخيبة مرتبطان تمامًا باختيار كل منا لتزكية التقوى أو تدعيم الفجور بالنفس.
ولذلك قد يفاجأ الكثيرون منا بالفشل أو حتى الانحراف دون إدراك للسبب ويستسهلون اتهام ما هو مقدر ومكتوب لهم وأن كل شئ نصيب، وهى مقولة لا تصح على إطلاقها لتكون ذريعة لتبرير أى فشل أو تقصير، وهم على ذلك ممن يقولون بالجبرية، إنما الصحيح أن الاختيار العقلى والراحة النفسية لأى أمر هما السبب المباشر فى النتيجة المحصودة؛فالاختيار العقلى والراحة النفسية لليسير من الأمور هو بيت القصيد فى نوعية ما يحصده الإنسان من نجاح ضئيل أو عدم تقدم فى علمه أو عمله. وعلى العكس من ذلك فاختيار الصعب من التحديات وتحدى المعقد من الأمور يكون نجاحه أقوى وأنجح. وقد عاينت النوعين وأدركت النجاحين، وكم ألقيت باللوم على نفسى فى مواقف فى صدر الشباب انبنت عليها نتائج فى العمر الحالى، وتلك هى الأمور التى لو استقبلت فيها ما استدبرت من العمر فالمؤكد أن التصرف حيالها كان من شأنه أن يتخذ مسارًا مختلفًا، وكم كان البوصيرى موفقًا فى بيته الشهير:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضـــــاع وإن تفـطمه ينفطــم.