محمود حسنين
أسمع اسمه للمرة الأولى فى دورة مكثفة للترجمة فى كلية دراسات الترجمة والدراسات اللغوية والثقافية بجامعة ماينتس. تنصحنا مترجمة الأدب العربى المرموقة لاريسا بندر بالتدرب على الترجمة من اللغة الأم إلى اللغة الأجنبية، لا لنصبح مترجمى أدب عربى إلى الألمانية، ولكن لأن الترجمة من اللغة الأم إلى اللغة الأجنبية، ستجعلنا نرى لغتنا من زاوية مختلفة. الترجمة الأدبية لا تكون إلا إلى اللغة الأم، تستدرك، ولكن ثمة استثناء: ناجى نجيب، أستاذى المصرى الذى تدربت على يديه للمرة الأولى على ترجمة الأدب العربى إلى الألمانية. كان مدهشا، وموته جاء مفاجئا ومبكرا.
1
تمر سنوات. أعود إلى جامعة ماينتس لاستكمال الدراسات العليا. وفى خضم انشغالى برسالة الدكتوراه حول سوسيولوجيا الترجمة، يقرر رئيس القسم، أندريس كليتات، تدشين موسوعة مترجمين، هى الأولى من نوعها فى ألمانيا. تمتلئ أرفف الكتب والمكتبات الألمانية بموسوعات الكُتّاب والفنانين والرسامين والموسيقيين، بل وحتى بموسوعات لأساتذة الأدب. ولكن ماذا عن المترجمين؟
يمتلك أستاذ الأدب الألمانى أندرياس كليتات قناعة راسخة مفادها أن الترجمات إلى اللغة الألمانية جزء لا يتجزأ من الأدب الألماني، بل ويرى أنه لولا الترجمات، لما وصل الأدب الألمانى إلى ما وصل إليه. ولكن ماذا نعرف عمن قاموا بهذه الترجمات؟ باستثناءات قليلة ــ معظمها كتّاب تعاطوا الترجمة بصورة أو أخرى ــ لا شيء تقريبا. وهذه بالضبط الفجوة التى تسعى موسوعة جرمرسهايم للمترجمين إلى سدّها: التعريف بالمترجمين بحياتهم وأعمالهم التى أثروا بها الأدب الألماني.
لا تهدف الموسوعة إلى التقريظ والتمجيد، بل إلى دراسة موضوعية نقدية على أسس علمية لجهود كل من ترجم أدبا إلى اللغة الألمانية الحديثة منذ نشأتها، فى بدايات القرن السادس عشر، حتى الوقت الحاضر. محاولة طموحة إلى إعادة كتابة تاريخ الأدب الألمانى من خلال إلقاء الضوء على جهود فئة مجهولة من صُنّاعه.
ولأن المعيار الأهم لاختيار المترجمين موضوع البحث والدراسة فى موسوعة جرمرسهايم للمترجمين، هو اكتمال أعمال المترجم، بوفاته على الأغلب، يطفو اسم ناجى نجيب إلى سطح الذاكرة.
أقوم ببحث سريع على جوجل. لا أجد إلا القليل من المعلومات عنه: مترجم وباحث أسس دار نشر فى برلين الغربية ومات مبكرا فى منتصف الثمانينيات، معظم ترجماته وأعماله النقدية بالألمانية يمكن الحصول عليها مستعملة أو جديدة، أعماله باللغة العربية، مثل «توفيق الحكيم وأسطورة الحضارة» أو «يحيى حقى وجيل الحنين الحضاري» أو «كتاب الأحزان»، نافدة. متى وُلد؟ وأين ولماذا درس الألمانية؟ لماذا أتى إلى ألمانيا؟ ما الذى دفعه إلى ترجمة الأدب العربى للألمانية؟ ولماذا أسس أول دار نشر متخصصة فى ترجمة الأدب العربى إلى الألمانية؟ أسئلة لا أجد لها إجابات شافية، ولا حتى لدى دار النشر التى أسسها، ولا تزال موجودة حتى الآن. أعد ملفا صغير الحجم بما توصلت إليه من معلومات متناقضة تثير الأسئلة أكثر مما تجيب عليها. وأنشغل بكتابة رسالة الدكتوراه والتدريس والترجمة.
2
بعد الانتهاء من رسالة الدكتوراه تزداد أعباء التدريس والإدارة، ولكن لدى رغبة فى مواصلة البحث العلمي. أعود فى ما أستقطعه من أوقات الراحة والفراغ إلى ملفات تحوى أفكار مشاريع بحثية. أفتحها وأبدأ فى البحث والكتابة، ثم أتراجع عن المشروع تلو الآخر. وفى كل مر أفتح مجلد «المشاريع» يطالعنى وجه ناجى نجيب، فى الصورة الوحيدة التى عثرت له عليها على موقع دار النشر التى أسسها، يسألني: ألم يحن الوقت لأن تروى قصتي؟
فى لحظة أردّ: لمَ لا؟ قد تكون نقطة انطلاق جيدة لمشروع عن تاريخ ترجمة الأدب العربى إلى الألمانية. فلأبدأ بكتابة البورتريه الذى وعدت به القائمين على موسوعة جرمرسهايم للمترجمين قبل سنوات، أشرع على الفور فى البحث فى فهارس الأرشيفات المتوفرة على الإنترنت. أحدد مواقع الأرشيف المتوزعة على مدن مختلفة فى ألمانيا وسويسرا. أقرر أن أبدأ، فى العطلة الصيفية، برحلة قصيرة إلى أرشيف جامعة برلين الحرة.
3
يبدو أن أحدهم كان يعتقد أن ناجى نجيب شخص مهم جدا، يبدى موظف الأرشيف الودود اندهاشه مما عثر عليه من أوراق منذ أول فصل دراسى التحق فيه ناجى طالبا بجامعة برلين الحرة فى خريف 1962: استمارات معبئة بخط اليد، قصصات ورق، مراسلات، مظاريف ممزقة بعد فتحها قبل أكثر من ستين عاما، أبدأ فى القراءة والإمساك بأول خيوط قصة ناجي.
يعرِّف ناجى نفسه فى مسودة رسالة الدكتوراه بأنه من مواليد المنيا فى 27 ديسمبر 1931، أبوه موظف البريد نجيب عبده، وأمه السيدة فُرتنين أمين.
نشأ وترعرع فى القاهرة، وأتم فيها تعليمه الابتدائى والثانوى فى صيف 1948، ثم درس فى جامعة عين شمس ــ آنذاك جامعة إبراهيم باشا الكبير ــ وبعد فترة التجنيد الإجبارى عمل مدرِّسا للغة الإنجليزية فى إحدى المدارس الثانوية فى القاهرة، ثم التحق بدورة لإعداد وتأهيل مدرسى اللغة الألمانية الأجانب فى معهد جوته بميونخ وبرلين من يناير 1960 إلى أغسطس 1961. بدأ دراسة الأدب الألمانى والإنجليزى والعربى فى جامعة برلين الحرة فى الفصل الدارسى الشتوى 62/1963. ويختم ناجى نجيب، كما هو العرف السائد، تعريفه بنفسه بتوجيه الشكر لأستاذه المشرف على رسالة الدكتوراه عن الكاتب السويسرى روبرت فالزر، ومجلس شيوخ برلين على منحة مكّنته من إتمام دراساته العليا والحصول على الدكتوراه فى مايو 1968.
توثق أوراق أرشيف جامعة برلين الحرة بدقة تقدُّم ناجى فى دراسته، وانتقاله من مسكن إلى آخر فى برلين الغربية، وقيمة المنحة الدراسية التى كان يحصل عليها. وتشير أيضا إلى أنه قرر على مسؤوليته الشخصية دراسة الدكتوراه، بعد أن رفضت البيروقراطية المصرية طلب اللجنة المشرفة على دورة تأهيل مدرسى اللغة الألمانية بمد إجازته. فقد رأت اللجنة ــ نظرا لتفوق ناجى الظاهر على زملائه ــ أنه من الأفضل له ولبلده ألا يعود لمواصلة عمله مدرّسا فى مدرسة ثانوية، بل أن يواصل دراسته ليحصل على الدكتوراه ويفيد مصر بعدها أستاذا جامعيا وباحثا.
أغلق الملفات بعد أن حصلت على صورة لا بأس بها عن تكوين ناجى العلمى واللغوي. ولكننى لا أزال أجد صعوبة فى تحديد تخصصه الجامعى فى مصر على وجه الدقة: تتنوع ترجمات ناجى فيما يملأه من استمارات على مر السنوات، ويميل فى أغلبها إلى الترجمة التوطينية، فيصعب عليّ رد المصطلحات الألمانية إلى أصلها العربي. نعم، هو بالتأكيد درس اللغة الإنجليزية وعلوم التربية، ولكن هل درس حقا الفلسفة وعلم النفس أيضا؟ هل درس فى قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب أم التربية؟ وعلى أى دبلوم حصل بعد الانتهاء من الليسانس؟ أم يقصد الماجستير؟
أسأل موظف الأرشيف عن شهادات ناجى المصرية. لماذا لا يوجد لها أو لترجماتها نسخ فى ملفه؟ يوضح لى بأن العادة كانت الاكتفاء بعرض الشهادات وترجماتها على الموظف المختص بالتسجيل، ولم تكن ترى الجامعة ضرورة فى الاحتفاظ بأصول أو نسخ الشهادات. أشكر الموظف وأتعجب من فضولي. فقد عرفت ما يكفى لأن أكتب الجزء الخاص بالتكوين اللغوى والعلمى فى بورتريه موسوعة جرمرسهايم للمترجمين: دراسته للأدب الإنجليزى فى مصر، وتحوله لدراسة اللغة الألمانية بفضل اتفاقية تعاون بين بين مصر ــ آنذاك الإقليم الجنوبى للجمهورية العربية المتحدة ــ وألمانيا الغربية، ورغم بدايته المتأخرة فى دراسة الألمانية، فقد تفوق فيها تفوقا ملحوظا بشهادة أساتذته فى معهد جوته فى ميونخ وبرلين، وفيما بعد، فى جامعة برلين الحرة.
4
لم يبق لى سوى يومين فى رحلتى القصيرة إلى برلين. قررت أن أدخرهما للاطلاع على ملفين آخرين فى الأرشيف: ملف يوثق التحاق ناجي، بعد حصوله على الدكتوراه، بسلك التدريس بمعهد الدراسات الإسلامية فى جامعة برلين الحرة، وملف آخر يوثق تفاصيل فصل دراسى قضاه يحيى حقى أستاذا زائرا فى معهد الدراسات الإسلامية بجامعة برلين الحرة.
يُصدّر ناجى ترجمته لـ «قنديل أم هاشم»، الصادرة عن دار إدتسيون أورينت (Edition Orient) فى برلين الغربية عام 1981 بإهداء إلى طلابه ويحيى حقى وبروفيسور فريتس شتيبات، المستشرق الألمانى الشهير. ويشير إلى أن فكرة إصدار «قنديل أم هاشم» فى طبعة ثنائية اللغة (ألماني/عربي) تعود إلى محاضرة مشتركة مع يحيى حقى وفريتس شتيبات فى الفصل الدراسى الصيفى لعام 1979.
لم يكن من السهل العثور على ملف زيارة يحيى حقي، فثمة أكثر من عشر طرق لكتابة اسمه بالحروف اللاتينية، تبعا للنطق الألمانى أو الإنجليزى أو الفرنسى أو النظام الذى تعارف عليه المستشرقون الألمان أو الإنجليز لنقل الحروف العربية أو خليط من كل هذا، غير أن موظف الأرشيف كان متعاونا، وجهز لى الملف للاطلاع قبل قدومى إلى برلين. انفتحت شهيتى وطلبت منه أن يبحث لى عن ملفات توثق زيارات صلاح عبد الصبور وألفريد فرج لجامعة برلين الحرة.
فكنت قد عثرت على إشارات متفرقة لهاتين الزيارتين فى مصادر عربية وألمانية مختلفة. بعد عدة محاولات بحث فى فوضى نقل الأسماء من الحرف العربى إلى اللاتينى كتب لى الموظف أنه لم يجد شيئا، ظننت أن صبره قد نفد، وشكرته، سأعرف فيما بعد أن الدعوة الرسمية لصلاح عبد الصبور وألفريد فرج وغيرهم من الكُتَّاب جاءت من جهات غير جامعة برلين الحرة، ولذا لم يتركوا أى أثر فى الأرشيف الإدارى الذى لا تفوته شاردة ولا واردة.
جاءت دعوة يحيى حقى بناء على طلب تقدم به فريتس شتبات ــ بصفته مدير معهد الدراسات الإسلامية ــ إلى مؤسسة البحوث الألمانية، أكبر هيئة معنية بتعزيز وتشجيع البحث العلمى فى ألمانيا الاتحادية، ولذا كان من اللازم أن يسلك الطلب المسار الرسمى عبر لجان وإدارات جامعة برلين الحرة وصولا إلى تصديق رئيسها بالموافقة. يحفل الملف بتفاصيل شتى عن أسعار صرف الجنيه المصرى فى مقابل المارك الألمانى لتحديد ثمن تذاكر طيران يحيى حقى وزوجته، وقيمة المكافأة، ومواعيد ما قدمه وما شارك فيه من محاضرات، واستمارات تُسجّل معاملاته مع إدارات مختلفة داخل وخارج الجامعة، ومرسلات الأقسام الإدارية للجامعة مع بعضها حول يحيى حقى قبل وأثناء وبعد الزيارة. ورغم أن اسم ناجى لم يرد إلا مرة واحدة فى التقرير الختامى الذى قدمه فريتس شتبات إلى مؤسسة البحوث الألمانية، إلا أنه حاضر بخط يده، الذى صرت أميزه بسهولة. أعفى ناجى يحيى حقى من ملء الاستمارات ــ وما أكثرها فى الملف! ــ ولم يكن على يحيى حقى إلا أن يمهرها بتوقيعه.
أرى ناجى وهو يصحب يحيى حقى وزوجته من المطار إلى النُزل الجامعي، ثم يصحبهما فى اليوم التالى للتسجيل فى مصلحة شؤون الأجانب التابعة لشرطة برلين الغربية، ثم يمضى مع حقى لمتابعة إجراءت التسجيل فى الأقسام الإدارية المختلفة للجامعة.
ولكن ثمة حضور آخر لناجى أحدسه، ولا تسعفنى كل هذه الأوراق بدليل ملموس عليه، دور ناجى فى كل ذلك يتجاوز كرم الضيافة، ولا يقتصر ــ كما يشير التقرير الختامى لفريتس شتيبات ــ على نقاشاته المطولة مع يحيى حقى حول رسالة التأهيل للأستاذية عن التاريخ الاجتماعى للأدب المصرى من منتصف القرن التاسع عشر حتى ستينيات القرن العشرين.
5
حين ألقيت، فى يومى الأول فى الأرشيف، نظرة سريعة على الملفات المتاحة، أدركت أننى لن أجد معلومات عن نشاط ناجى الترجمي: متى ولِمَ بدأ ترجمة الأدب العربى الحديث إلى الألمانية؟ ولن أجد أيضا تفسيرا للإشارة المبهمة فى الكلمة الختامية للترجمة الألمانية لـ «ثرثرة فوق النيل» عن محاولات ناجى الدؤوبة على مر سنوات طويلة لنشرها. يبدو أن بروفيسور شتيبات كتب الكلمة الختامية للترجمة، الصادرة عن دار إدتسيون أورينت (Edition Orient) عام 1982، على عجالة فى خضم مشاغله الكثيرة. عليَّ إذن، مواصلة البحث فى أرشيف مؤسسات مختلفة، لعلى أكتشف ما يزيل بعض الغموض عن ملابسات بدايات ناجى الترجمية.
كنت قد عثرت بالفعل على إشارات لتلك المحاولات فى فهرس أرشيف إحدى المجلات الأدبية الألمانية المرموقة أكسنته (Akzente). عرض ناجى على المجلة قصة لنجيب محفوظ وأخرى ليوسف إدريس فى نهاية الستينيات. ولكن المجلة اعتذرت عن نشر الترجمتين. لا بد من الاطلاع على النص الكامل للخطابات فى موقع الأرشيف فى جنوب ألمانيا، حتى أعرف ماذا عرض ناجى بالضبط، وسبب الرفض. وعثرت أيضا فى أرشيف جريدة دى تسايت (Die Zeit) على ترجمة «عنبر لولو» بتوقيع ناجى بعد نشرها بشهور قليلة فى جريدة الأهرام فى عام 1969.
لم يتح لى أرشيف جامعة برلين الحرة أى معلومات عن دوافع ناجى للانخراط فى ترجمة الأدب العربى وما واجهه، على ما يبدو، من صعوبات فى النشر، إلا أنه أتاح مجموعة لا بأس بها من العناوين وأرقام الهواتف والأسماء، ماذا لو أن أحدهم لا يزال على قيد الحياة؟ ولديه معلومات وربما أوراق من أرشيف ناجى الشخصي؟ قررت فى اليوم الثانى بعد مغادرة الأرشيف واستراحة قصيرة، أن أبدأ بأحدث العناوين، وهو عنوان يعود إلى منتصف الثمانينيات. ثم عدلت عن القرار فى الطريق، وفضلت أن أتصل بالهاتف أولا. قرع جرس الباب دون سابق إنذار بدا لى غير مناسب. حين لم يرد أحد على الهاتف، لم أتفاجأ. وضعت موبايلى فى حقيبتى ومضيت باحثا عن مطعم.
جلست فى المطعم منتظرا النادلة. ألقيت نظرة على هاتفى فوجدت مكالمة فائتة. لم أصدق عينى عندما رأيت أنه نفس الرقم الذى طلبته منذ قليل ولم يرد. كان الضجيج من حوالى مرتفعا، فالمطعم يقع على شارع رئيسي. غادرت مهرولا أبحث عن أى مكان هادئ يمكننى منه معاودة الاتصال بالرقم.
6
كل ما كنت أطمح إليه، فى طريقى إلى كريستا نجيب، كما أكدت لها على الهاتف، دردشة قصيرة قد أخرج منها بإجابات على بعض الأسئلة. كانت مرتابة فى البداية. كنت متفهما ومتخوفا من هذا الارتياب الذى قد يحيل دون لقائى بها، فحوادث النصب والاحتيال على كبار السن منتشرة هنا على نطاق واسع.
اقترحت عليها أن تتأكد من هويتى وصفتى الوظيفية من خلال صفحتى على موقع جامعة ماينتس، وطلبت منها أن تبحث عن موسوعة جرمرسهايم للمترجمين على الإنترنت.
قدرت أن سنها قد تجاوز الثمانين، ولم أتوقع، إن كان لديها إنترنت، أن تنجز البحث بهذه السرعة، تبدد الارتياب فى نبرات صوتها، نبهتنى بأن زوجها، ناجى نجيب، قد مات قبل ستة وثلاثين عاما، ثم أعطتنى عنوانها الجديد، واتفقنا على موعد. كنت قد اقترحت أن نلتقى فى مقهى أو مكان عام حتى لا أثير قلقا أو ارتيابا لديها. ولكنها قالت لى أنه من الأفضل أن آتى إلى بيتها، فلديها الكثير من أوراق ناجي.
لم أتخيل أن يكون هذا «الكثير» أرشيفا ضخما يحتل خزانة كاملة ويتألف من قرابة 20 مجلدا. يحمل كل مجلد عنوانا مكتوبا بخط لاتينى منمق: «يحيى حقي»، «نجيب محفوظ»، «مشاريع مختلفة»، «طه حسين»، «يوسف إدريس»، «يوسف الشاروني»، «ألفريد فرج»، «أبحاث علمية»...إلخ. قالت لى إن ناجى لم يترك أوراقه على هذا النحو، ولكنها رتبتها على قدر ما استطاعت، وسمحت لها معرفتها المتواضعة باللغة العربية. فالمجلدات لا تحوى فقط مسودات ترجمات وأبحاث ناجى بالألمانية، ولكن ملاحظاته التى كانت يكتبها بالعربية والألمانية، وشهاداته الدراسية من مصر، ومراسلات بالعربية مع كُتّاب عرب ومصريين بدءا من نجيب محفوظ ويحيى حقى مرورا بأسماء من جيل الستينيات مثل جمال الغيطانى ويوسف القعيد وعبد الحكيم قاسم وغيرهم، ومراسلاته مع دور نشر ومؤسسات ألمانية وعربية.
7
فى البيبليوغرافيا التى وضعها مصطفى ماهر وفولفجانج أوله «مؤلفات لكتاب ألمان مترجمة إلى اللغة العربية. مؤلفات لكتاب عرب مترجمة إلى اللغة الألمانية. مؤلفات عن شخصيات ألمانية وألمانيا باللغة العربية» لا تحتل ترجمات الأدب العربى الحديث إلى الألمانية سوى سبع صفحات من إجمالى 224 صفحة (طبعة مزيدة ومنقحة 1979).
بعد الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1978، لم يُقدَّم الأدب العربى فى ألمانيا الغربية إلا فى مجموعتين قصصيتين: «السقا مات. مصر فى قصص أفضل كُتّابها» (1963) و»حمامة الجامع وقصص أخرى من سوريا ولبنان» (1966). تُرجمت معظم القصص عن لغة وسيطة (الإنجليزية والفرنسية).
وصدرت المجموعة الأولى فى طبعة جديدة عام 1974 باختيار وتحرير مصطفى ماهر بالاشتراك مع محرر الطبعة الأولى الصحفى والدبلوماسى هرمان تسيوك. أما فى ألمانيا الشرقية أو جمهورية ألمانيا الديمقراطية فقد كان حظ الأدب العربى من الترجمة أفضل قليلا، إذ بلغ عدد الترجمات ثمانية كتب حتى عام 1978، قبل أن تصدر «اللص والكلاب» فى برلين الشرقية فى عام 1980، بتوقيع المترجمة دوريس كيلياس، لتكون أول رواية لنجيب محفوظ تُنشر بالألمانية.
تغير هذا الوضع تدريجيا بعد تأسيس ناجى لدار نشر إدتسيون أورينت (Edition Orient) فى برلين الغربية عام 1980، إذ ازدادت ترجمات الأدب العربى زيادة ملحوظة. وساهم ناجى فى ارتفاع عدد الترجمات بصفته مترجما أو محررا بسبعة كتب، وبصفته ناشرا بكتابين آخرين لم يترجمهما أو يحررهما بنفسه. وهذا يعنى أن عدد الترجمات التى نشرتها دار إدتسيون أورينت، تحت إشراف ناجى فيما بين عامى 1980 و 1986، أكبر مما نُشر فى العقدين السابقين فى ألمانيا الغربية، ويماثل ما نُشر فى ألمانيا الشرقية.
ولكن ما الذى دفع ناجى إلى تأسيس دار نشر؟ وما سر النشاط الترجمى المكثف فى آخر ست سنوات فى حياته؟ الأنطولوجيا القصصية جمهورية فرحات (اختيار وترجمة، 1980)، قنديل أم هاشم (ترجمة، 1981)، مأساة الحلاج (ترجمة، 1981)، التبريزى وتابعه قفة (ترجمة، 1982)، ثرثرة فوق النيل (ترجمة، 1982) مسافر ليل (تحرير، 1983)، عرس الزين (تحرير، 1983)، رجال فى الشمس (تحرير، 1984). كل هذه الأعمال صدرت فى دار النشر التى أسسها باستنثاء العمل الأول (1980) والعمل الأخير (موسم الياسمين، مجموعة قصصية للكاتبة المصرية أليفة رفعت، صدرت بعد وفاته عن دار النشر السويسرية أونويونسفيرلاج فى عام 1988).
بدأ ناجى ترجمة الأدب العربى الحديث بعد انتهائه من رسالة الدكتوراه فى أواخر الستينيات، أى فى الوقت الذى بدأ فيه سوق الكتاب فى ألمانيا الغربية فى الانكفاء على الذات ــ على حد تعبير المترجم والناقد هانس جروسل فى مقالة عن استقبال الأدب الأجنبى فى ألمانيا الغربية ــ بعد حركة الترجمة النشطة للغاية فى الفترة التالية على الحرب العالمية الثانية. ويعزو جروسل ــ فى مقالته التى نُشرت فى مجلة أكسنته (Akzente) عام 1976 ــ عزوف دور النشر فى ألمانيا الغربية عن الآداب والأسماء غير المعروفة إلى اعتبارات اقتصادية أجبرت دور النشر على الترشيد دون النظر للقيمة الأدبية لما يتم ترشيده. وتؤكد مراسلات ناجى المكثفة مع دور نشر فى ألمانيا الغربية وسويسرا والنمسا (من 1969 إلى 1978) فرضية جروسل، إذ يبدو أن الاعتبارات الاقتصادية كانت العامل الحاسم فى رفض نشر «ثرثرة فوق النيل» والمختارات القصصية لجيل الستينيات «جمهورية فرحات». فلم يكن، فى أغلب ردود دور النشر، تحفظات لا على اختيار ناجى للنصوص الأصلية ولا على الترجمة فى حد ذاتها.
تزامن انشغال ناجى بالأدب العربى الحديث ترجمة وبحثا مع عودة المستشرق فريتس شتيبات من بيروت وشغله كرسى الدراسات الإسلامية فى جامعة برلين الحرة فى عام 69/1968. كان شتيبات يمثل جيلا مختلفا من المستشرقين الألمان انفتح على حاضر العالم العربى ومستقبله، وإن لم يغفل ماضيه بصفته مؤرخا كتب رسالة الدكتوراه عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية، ورسالة التأهيل للأستاذية عن تاريخ التعليم الحديث فى مصر.
عمل شتيبات فى بدايات حياته العملية صحافيا مهتما بالقضايا الراهنة فى العالم العربى والإسلامي، ثم مديرا مؤسِسا لمعهد جوته فى القاهرة، وبعدها مديرا للمعهد الألمانى للأبحاث الشرقية فى بيروت.
وبعد توليه رئاسة معهد الدراسات الإسلامية فى جامعة برلين الحرة، تجلى انفتاح شتيبات الأكاديمى فى تدشينه لأربعة محاور بحثية وتدريسية تُعنى بالشرق الأوسط من منظور الدراسات التاريخية والاجتماعية والقانونية والأدبية. شارك ناجى فى المحور الخاص بـ «وظائف وأشكال الأدب الحديث» برسالة تأهيل للأستاذية عن التاريخ الاجتماعى للأدب العربى الحديث فى مصر. ويكشف أرشيف ناجى الشخصى أن شتيبات كان يعتمد عليه فى كل ما يتعلق بالأدب العربى الحديث، تدريسًا وبحثًا وترجمةً.
إذ يشير شتيبات المرة تلو الأخرى فى مرسالاته مع جهات مختلفة بأن اهتمامه بالأدب العربى الحديث يقتصر على ما يستخلصه من هذا الأدب من حقائق قد تفيده بصفته مؤرخا، ويحيل إلى ناجى بصفته الخبير، بألف ولام التعريف، فى هذا المجال.
لا تعكس إحالات شتيبات تواضعا أو مبالغة بقدر ما تعكس واقعا تجسد فى الاعتماد على ناجى فى تدريس الأدب العربى بداية من الفصل الدراسى الشتوى عام 72/1971 وحتى وفاته فى 24 مايو 1987: تنوعت مواضيع السيمنارات والتدريبات التى قدمها ناجى بدءا من «العامية المصرية فى نصوص يوسف إدريس ونعمان عاشور»، و «التاريخ والوعى بالتاريخ فى الشعر العربى فى مصر من 1914 إلى 1956»، مرورا بـ «الدراما العربية الحديثة فى مصر منذ 1875»، و»صورة أوروبا فى كتابات الرحلة العربية فى القرن التاسع عشر»، وصولا إلى تدريبات المحادثة العربية لغير الناطقين بها اعتمادا على نصوص لتوفيق الحكيم وتدريبات الترجمة الأدبية من العربية إلى الألمانية.
ويكشف أرشيف ناجى الشخصى أن نشاطه التدريسى ترافق مع نشاط آخر مهم تخطى أسوار الجامعة وبرج البحث الأكاديمى العاجي، فقد انخرط منذ أواخر الستينيات مشاركا ومنظما لفعاليات أدبية لتعريف جمهور أوسع بالأدب العربى الحديث. وتعاون فى ذلك مع الأكاديمية الإنجيلية فى برلين، التى كانت تعتبر التبادل الأدبى والثقافى جزءا من الحوار بين الأديان، واتحاد الكتاب الألمان، وبرنامج الفنانين التابع لهيئة التبادل الأكاديمى الألمانية، وجمعية الفنون فى ڤيينا.
8
فى لقائى الأول مع كريستا نجيب اتفقت معها على العودة إلى برلين مرة أخرى من أجل فحص أوراق الأرشيف على مهل، فما تبقى من إجازة العمل لم يكن يكفى ولا حتى لفحص مجلد واحد. فى زيارتى الثانية لبرلين استأجرت غرفة قريبة من بيت كريستا نجيب لمدة أسبوعين.
قرعت جرس الباب فى تمام التاسعة صباحا، ولم أغادر المنزل إلا فى حوالى الثانية والنصف ظهرا. بعد أن تبادلنا حديثا قصيرا تركتنى فى غرفة المعيشة حيث الخزانة التى تحتفظ فيها بأرشيف ناجى الشخصي. اتفقت معها على أن أستعير مجلدين من الأرشيف، ثم أعيدهما إليها بعد فحصهما وتصوير ما يلزمنى لكتابة البورتريه.
فى الأيام التالية تكررت لقاءتنا، كريستا نجيب وأنا، كنت أطلعها على ما اكتشفه فى أوراق الأرشيف، وتشاركنى هى ذكرياتها الشخصية عن تعرفها على ناجى فى أواخر الستينيات، وزيارة والدة ناجى لهما فى برلين، وعن ذكرياتها مع يحيى حقى وألفريد فرج ويوسف الشارونى وغيرهم من كتاب لم يكتفِ ناجى بترجمتهم إلى الألمانية، بل دعاهم إلى برلين للمشاركة فى فاعليات ثقافية مختلفة، فتوطدت العلاقة بينه وبينهم وتحولت بمرور الوقت إلى صداقة شملت أسرته الصغيرة المكونة منه وكريستا وابنهما.
حتى يومى الأخير فى برلين لم أكن قد انتهيت إلا من تصفح وإعادة ترتيب أوراق ثلاث مجلدات من مجلدات الأرشيف. صورت ما قد احتاج الرجوع إليه أثناء كتابة البورتريه، ثم بدأت فى التخطيط لزيارتى القادمة لبرلين، فأرشيف ناجى الشخصى يحتوى على ما لن أجده فى أى أرشيف مؤسسة ألمانية. قبل أن أوضح لكريستا نجيب ما عزمت عليه، بادرتنى بأنها فكرت كثيرا فى الأيام الماضية وقررت التنازل لى عن الأرشيف. هى الآن فى منتصف الثمانينيات وكان أحد أكبر همومها، «قبل أن أهبط عليها من السماء»، مصير أوراق ناجى التى حافظت عليها على مدار أربعة عقود. والآن هى على ثقة أنها تضع أوراق ناجى فى أيد أمينة.
أدركت أننى حصلت على كنز، فأرشيف ناجى نجيب لا يوفر مادة لكتابة بورتريه لموسوعة جرمرسهايم للمترجمين فحسب، بل يكشف كذلك عن حلقة مفقودة من حلقات تاريخ ترجمة الأدب العربى إلى الألمانية، ويقدم فصلا منسيا من التاريخ الثقافى والأدبى لألمانيا، لو اعتبرنا أن هذا التاريخ ليس تاريخا نقيا يتكون مما هو ألمانى صرف، بل من تفاعل الأدب والثقافة الألمانية مع آداب وثقافات أخرى، ومنها العربية.