تجسد التسامح بين المصريين فى حدائق الإنشاد الدينى، والمنشدين العظام الذين مزجوا بين الحالة الروحية وتذوق جمال الذكر والعبادة، وخلق أجواء من السكينة والطمأنينة، بجماليات صوتية تنبع من مشاعر الحب لله والعشق لرسول الله، فصارت الموشحات فنًا دينيًا أصيلًا يعبر عن الروح المصرية.
الشيخ طه الفشنى المتوفى ١٩٧١ كان يتمتع بصوت رخيم يمتاز بالقوة والوضوح، مع قدرة استثنائية على الانتقال بين المقامات، واشتهر بإحساسه العميق أثناء الإنشاد والابتهال، مما جعل مستمعيه يشعرون بجمال الكلمات، وكان يستطيع التأثير فى مشاعر مستمعيه وإيصال روحانيات الإنشاد.
الشيخ سيد النقشبندى المتوفى عام ١٩٧٦ أحد أعظم المنشدين والمبتهلين فى تاريخ مصر والعالم الإسلامى، واشتهر بصوته القوى وأسلوبه المؤثر الذى يمزج بين الروحانية والبلاغة، وكان لقاؤه مع الموسيقار بليغ حمدى علامة فارقة فى تاريخ الإنشاد الدينى، حيث أسفر عن أعمال تُظهر اندماج الإنشاد التقليدى مع الموسيقى الحديثة، مثل «مولاى إنى ببابك».
أما الشيخ على محمود المتوفى ١٩٤٨ فقد كان إمام العاشقين الهائمين فى حب رسول الله وقال عنه العالم الجليل الأزهرى عبد العزيز البشرى: «صوته من أسباب تعطيل المرور فى الفضاء، لأن الطير السارح فى السماء يتوقف إذا استمع لصوته»، وكان صاحب مدرسة عريقة فى التلاوة القرآنية وابن الجمالية بحى الحسين، وتتلمذ على يديه العمالقة الكبار طه الفشنى وكامل يوسف البهتيمى ومحمد الفيومى، ومن أعضاء بطانته إمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد.
وصار الشيخ على محمود أشهر أعلام مصر قارئًا ومنشدًا ومطربًا، وقارئ مسجد الإمام الحسين الأساسى، وبلغ من عبقريته أنه كان يؤذن للجمعة فى الحسين كل أسبوع أذانًا على مقام موسيقى لا يكرره إلا بعد سنة، كما صار منشد مصر الأول ولا يعلى عليه فى تطوير وابتكار الأساليب والأنغام، ومن أشهر النوابغ الذين اكتشفهم القارئ العملاق الشيخ محمد رفعت، وتنبأ له بمستقبل باهر وبكى عندما عرف أنه ضرير، وتعلم الشيخ رفعت فى بداياته كثيرًا من الشيخ على محمود، وصار سيد قراء مصر وصوت الإسلام الصادح بالخشوع.
هذه هى مصر التى تسرى سماحة الإسلام فى عروق شعبها، إسلام الحياة والخير والخضرة والنماء، فأضفوا من روحهم على المناسبات الدينية معانى البهجة والفرح والخشوع، خصوصًا رمضان الكريم الذى تضرب محبته أوتار القلوب، وتعزز وحدة المجتمع فى المناسبات الدينية، كرافد من أهم روافد التعبير الثقافى والدينى والتاريخى، بشكل يجعل لكل قصيدة دينية وقعًا خاصًا فى قلب المستمع، تجربة موسيقية وروحية متكاملة.
هذه هى مصر التى قال عنها الشيخ الشعراوى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أهلها «أنهم فى رباط إلى يوم القيامة، مَن يقول عن مصر أنها أمّة كافرة إذًا فمَن المسلمون؟ مَن المؤمنون؟، مصر التى صدرت علم الإسلام إلى الدنيا كلها، صدرته حتى إلى البلد الذى نزل فيه الإسلام».