تاريخ سوق باب اللوق.. هل تم تسجيله أثراً؟

سوق باب اللوق
سوق باب اللوق


وسط زحام شوارع القاهرة القديمة، وبالقرب من أحياء تزخر بالتاريخ والثقافة، يقف سوق باب اللوق شاهداً على تقلبات الزمن وأحداثه.

 يُعد السوق أحد أهم الأسواق المغطاة في مصر، ويمثل رمزاً للتعايش بين الماضي والحاضر، منذ إنشائه في أوائل القرن العشرين وحتى يومنا هذا، يحتفظ سوق باب اللوق بسحره الخاص رغم الإهمال الذي أصابه. هل يمكن أن يعود السوق إلى سابق عهده؟ وهل يسعى أحد إلى تسجيله كأثر يُحافظ عليه للأجيال القادمة؟

 

◄ تاريخ سوق باب اللوق

 

بدأت حكاية سوق باب اللوق عام 1912 على يد رجل الأعمال المصري يوسف أصلان قطاوي، الذي استوحى تصميمه من الأسواق الفرنسية التي رآها أثناء زياراته إلى أوروبا. لم يكن السوق مجرد مكان لشراء البضائع، بل كان بمثابة مركز ثقافي واجتماعي واقتصادي لسكان القاهرة من مختلف الجنسيات، صُمم السوق على الطراز الأوروبي، وجاء على شكل حدوة حصان بمساحة 6200 متر مربع، مع سقف جمالوني ضخم وفتحات تهوية لضمان تجديد الهواء والإنارة.

وكان السوق ينقسم إلى دور أرضي يُستخدم كمساحة للمتاجر، ومخزن تحت الأرض عمل كثلاجة لحفظ الفواكه والخضروات، أما الأدوار العليا، فقد شُغلت في البداية بمتاجر للملابس وأخرى لتجارة الجلود، مما جعل السوق وجهة متكاملة تلبي احتياجات أهل القاهرة.

 

◄ أصل التسمية وأهميتها التاريخية

 

يرتبط اسم باب اللوق بتاريخ يعود إلى عصر الدولة الأيوبية، حيث كانت المنطقة تُعرف بأرضها الخصبة واللينة التي "تُلاَق لوقًا"، أي تُبذر فيها البذور بسهولة. ومع مرور الزمن، أصبحت المنطقة تحمل اسم «باب اللوق» نسبة إلى البوابة التي أنشأها الملك الصالح أيوب لدخول الفرسان والجمهور إلى ميدان ألعاب الكرة والفروسية.

ومع تعاقب العصور، شهدت المنطقة تحولات كبيرة. في عهد المماليك، أُلغيت ميادين الفروسية، وحل مكانها مبانٍ وساحات زراعية. ومع بداية عصر الخديوي إسماعيل، تحولت المنطقة بالكامل إلى جزء من خطته لتحديث القاهرة، حيث شُيدت القصور والمباني الحديثة.

 

◄ سحر السوق في الماضي

 

في بداياته، كان سوق باب اللوق يعج بالحياة والنشاط، حيث يضم أكثر من 200 متجر متنوع بين محلات للخضر والفواكه، مقاهٍ، مخابز، مكاتب للبريد والتلغراف، ومتاجر لاستيراد وتصدير البضائع. وكان السوق وجهة مفضلة للسياح والمصريين على حد سواء، بفضل تصميمه المميز وتنوع بضائعه.

السوق لم يكن مجرد مكان للتسوق، بل كان أيضاً مصدر إلهام للفنانين والأدباء. فكثيراً ما تجد في لوحات الفنانين وفي نصوص الكُتاب إشارات إلى هذا السوق الفريد، الذي جمع بين البساطة والأناقة.

 

◄ الوضع الحالي للسوق

 

للأسف، تغيرت ملامح سوق باب اللوق مع مرور الزمن. اليوم، يعاني السوق من الإهمال الشديد، حيث اختفت معالمه الأصلية وبدت الجدران متهالكة والنوافذ محطمة. الحريق الذي نشب فيه خلال أحداث الثورة كان بمثابة الضربة القاضية، حيث دمر العديد من المحلات وأدى إلى تدهور الحالة الهيكلية للمبنى.

ومع تراجع النشاط التجاري، أصبحت الأدوار العليا مهجورة بالكامل، بينما يعتمد السوق حالياً على عدد محدود من المتاجر التي تقدم البضائع الأساسية.

 

◄ قصص من داخل السوق

 

التجول في سوق باب اللوق يكشف عن قصص إنسانية مؤثرة. يقول «عم محمود»، أحد أقدم الحرفيين في السوق: «كنت هنا منذ السبعينيات، السوق كان يعج بالزبائن، وكان كل ركن فيه ينبض بالحياة. الآن، الأمور تغيرت، والمحلات أصبحت شبه خاوية».

أما «عم أيمن»، أحد الجزارين القدامى، فيؤكد أن الحريق الذي نشب في السوق كان كارثياً: «النار أكلت المحلات والخامات، ولم تعد الحركة كما كانت. الجميع هنا يعيش يومه بيومه، ولا أحد يعرف متى سيعود السوق إلى سابق عهده».

 

◄ محاولات التطوير والمخاوف

 

على الرغم من المحاولات الفردية لتطوير السوق، إلا أن هذه الجهود تصطدم بالكثير من التحديات. يخشى أصحاب المحلات أن تؤدي أي عملية تطوير إلى إخلاء السوق بالكامل، ما يهدد أرزاقهم.

ويؤكد الخبراء أن تسجيل السوق كأثر تاريخي قد يكون خطوة مهمة للحفاظ عليه، ولكن ذلك يتطلب إجراءات جادة من قبل الحكومة وأصحاب السوق على حد سواء.

 

◄ لماذا يجب تسجيل السوق كأثر؟

 

يمثل سوق باب اللوق جزءاً من التراث العمراني والثقافي للقاهرة، فهو ليس مجرد مبنى قديم، بل شاهد على حقبة زمنية مهمة في تاريخ المدينة. تسجيل السوق كأثر سيضمن الحفاظ على طرازه المعماري الفريد ويمنع أي محاولات هدم أو تغيير قد تؤثر على هويته التاريخية.

يتطلب إعادة إحياء سوق باب اللوق خطة شاملة تشمل الترميم، وتحسين البنية التحتية، وإعادة توظيف الأدوار العليا بطريقة مبتكرة. يمكن أن يتحول السوق إلى وجهة سياحية وثقافية تجمع بين التسوق والترفيه، مما سيعيد إليه الحياة ويعزز دوره في المشهد الحضري للقاهرة.

 

◄ البُعد الثقافي والاجتماعي للسوق

 

لم يكن سوق باب اللوق مجرد مركز تجاري، بل كان نافذة تطل منها القاهرة على الحداثة خلال بدايات القرن العشرين. كانت الحياة الاجتماعية في السوق تُدار عبر شبكة معقدة من العلاقات الإنسانية. فالتجار كانوا أشبه بعائلات مترابطة، وعادة ما يجتمع الأهالي في السوق للتسوق والدردشة، مما جعل السوق نواة مجتمعية غنية بالتفاعل البشري.

اقرأ أيضا| «باب اللوق»| من أكبر «سوق شعبي» إلى مكان «مهجور» تسكنه الأشباح

السوق أيضاً شهد تنوعاً ثقافياً فريداً، حيث كانت الأحياء المحيطة به تضم جنسيات مختلفة، مثل اليونانيين، الأرمن، والشوام، مما انعكس على تنوع البضائع المعروضة في السوق، بدءاً من المنتجات المحلية وحتى المستوردة.

 

◄ أهم الحرف والمهن القديمة في السوق

 

كان سوق باب اللوق مقراً للعديد من الحرف والمهن التي اشتهرت بها القاهرة. ومن بين هذه المهن:

- صناعة الجلود: كان السوق موطناً لمحلات الجلود التي اشتهرت بتصديرها إلى أوروبا.

- محلات العطارة: حيث تجد العطارة المصرية الأصيلة، التي تقدم التوابل والأعشاب الطبية.

- تجارة الملابس الراقية: التي كانت تُعرض في الأدوار العليا من السوق، وتستقطب النخبة.

 

◄ دور سوق باب اللوق في دعم الاقتصاد المحلي

 

في ذروة نشاطه، كان السوق يلعب دوراً مهماً في دعم الاقتصاد المحلي، حيث وفر آلاف فرص العمل للتجار والحرفيين والعمال. كما ساهم في تعزيز حركة التجارة بين القاهرة وبقية المحافظات، حيث كانت البضائع تُنقل منه إلى الأسواق الأخرى.

ظهر سوق باب اللوق في العديد من الأفلام المصرية التي عكست روحه الشعبية. ومن أبرز هذه الأفلام، فيلم «اللص والكلاب» المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، حيث كانت الأسواق الشعبية، بما فيها باب اللوق، مسرحاً للكثير من الأحداث. كما كان السوق خلفية تصويرية في العديد من الأفلام التي تتناول الحياة اليومية للمصريين.

 

◄ مستقبل السوق كوجهة سياحية

 

مع التحولات التي تشهدها القاهرة في السنوات الأخيرة، يمكن أن يصبح سوق باب اللوق وجهة سياحية مميزة. يمكن استغلال مساحاته المهجورة في إنشاء معارض للفنون والحرف اليدوية، أو حتى إنشاء متحف صغير يوثق تاريخ الأسواق القديمة في مصر.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تُعقد مهرجانات سنوية تُعيد إحياء التراث الشعبي للسوق، مثل عروض الأزياء التقليدية أو فعاليات الطهي المصري، مما سيجذب السياح المحليين والأجانب.

من أكبر التحديات التي تواجه سوق باب اللوق هي المحافظة على هويته المعمارية. تصميمه الجمالوني، الذي استُوحي من الطراز الأوروبي، أصبح مهدداً بسبب التعديات والإهمال. ومع ذلك، فإن تسجيل السوق كأثر تاريخي سيساهم في حماية هذا المعلم الفريد، وسيضمن الحفاظ على جمالياته الأصلية.

 

◄ رؤية شاملة لتطوير السوق

 

1. ترميم المبنى: يجب أن يتم ذلك باستخدام مواد تتماشى مع الطراز المعماري الأصلي.

2. تنظيم المحلات: توفير دعم للتجار المحليين مع وضع خطط لتنظيم عرض البضائع.

3. إدخال التكنولوجيا: تركيب أنظمة تهوية حديثة وإنارة موفرة للطاقة دون المساس بالتصميم التاريخي.

4. الترويج السياحي: إدراج السوق ضمن جولات سياحية تسلط الضوء على تاريخ القاهرة وأسواقها.

 

◄ شهادات من سكان المنطقة

 

تقول «أم علاء»، التي تعيش بالقرب من السوق: «أفتكر زمان لما كنا نجي السوق مع جدتي، كنا نحس إننا داخلين عالم تاني مليان حياة وروائح مختلفة. السوق كان بيجمعنا كلنا».

أما «الحاج سيد»، أحد أقدم البائعين، فيقول: «السوق محتاج الناس ترجع تهتم بيه، ده تاريخنا، ولازم نحافظ عليه».

بين عبق الماضي وتحديات الحاضر، يبقى سوق باب اللوق رمزاً حياً لجمال القاهرة القديمة، وليس مجرد سوق قديم، بل هو رمز من رموز القاهرة يعكس تاريخها الغني وتنوعها الثقافي، إن الجهود المبذولة للحفاظ عليه يجب أن تكون بحجم قيمته التاريخية والمعمارية، ليظل شاهداً على عبقرية تصميم الماضي وأصالة الحاضر.