تكون محظوظاً لو كنت رفيقه فى سفر، فهو فنان فى جعل الرحلة حلماً جميلاً لا تريد أن تستيقظ منها
«لما أموت يا حاج هشام مش عايزك تكتب عنى كلام يبكّى الناس،، بالعكس عايزك تخلى اللى يقرأ يبتسم !» هكذا كان الحاج محمد ربيع يداعبنى كلما كتبت مقالاً لرثاء صديق أو قريب،، يقولها ضاحكاً من أعماقه.. فإذا سألته: كيف يكون الرثاء بدون دموع؟! يقول بنفس الثقة: مليش فيه،، ده شغلك اتصرف.. هو أنا اللى صحفى ولا انت، الناس مش ناقصة والدموع مش بتصحى ميت، فأضحك على هذا الطلب الغريب وإن كان ليس غريباً على شخص بأخلاق الحاج محمد ربيع الذى رحل عن دنيا البشر الشهر الماضى وتم زفافه إلى المقابر بزفة لم تشهد مدينة البياضية بالأقصر مثلها منذ زمن طويل.
لن تندهش عزيزى القارئ من هذا الطلب لو كنت تعرف عن قرب تلك الشخصية الفريدة التى تخصصت فى نشر البهجة والسعادة حيثما حلت. يمتلك من الحنان ما لو وُزّع على العالم لفاض، لذا تعلق به الصغار قبل الكبار. لا يوجد فى العائلة فرد لا يحب محمد ربيع حباً حقيقياً، وكان رحمه الله يبادل الجميع حباً بحب ممزوجاً بالحنية والمسئولية. لذا ليس غريباً أن تجد لقبه على موبايلات شباب العائلة الكبير، وعلى تليفونات الأولاد والبنات، بابا محمد، وعلى موبايلات أولاد وبنات الأخوات، خالى حبيبى، وعلى تليفونات الأحفاد جدو حبيبى، كل ذلك لطيبته التى كان يتصف بها. هو الجميل، الشهم، البشوش المتبسم دائماً، الشيك، النزيه المحب للجميع، صانع البهجة، تكون محظوظاً لو كنت رفيقه فى سفر، فهو فنان فى جعل الرحلة حلماً جميلاً لا تريد أن تستيقظ منها. أطفال العائلة يتهللون فرحاً لو كان جدو محمد مسافراً معهم للمصيف، فهو العطوف إذا قسى الآباء، الملبى لكل طلبات الصغار لو اعترض الكبار. ولو قوبل طلب الصغار الخروج ليلاً لسينما أو لمسرح بالرفض بسبب تعب النهار المرهق على الشاطئ، تعلق الكل برقبته فيلبى النداء بابتسامة راضية، وبمجرد دخولهم السينما ينام الرجل من التعب ولا يستيقظ إلا مع نهاية الفيلم فيعود بهم للبيت وهو فى قمة السعادة فقط لأنه أسعدهم.
لم أكن أحب محمد ربيع فقط لأنه ابن عمتى ولا لأنه أخى الأكبر ولا كونه زوج شقيقتى الكبرى ولا باعتباره خال زوجتى ولا حتى جد بناتى بل كان شخصية يستحق الحب لذاته. فعندما توُفيَت الحاجة توحيدة، جدتى لوالدى، أصبحت عمتى زينب أماً لوالدى بعد أمه، ولأن محمد ربيع كان أكبر أولادها الذكور فقد كان مقرباً جداً من خاله الذى كان يقول لى دائماً أن محمداً ليس فقط ابن عمتك بل هو الأخ الأكبر لك ولشقيقاتك، لذا عندما تزوج من شقيقتى لم يزد ذلك حب محمد ربيع فى قلوبنا حباً فقد سبقت مكانته الغالية جداً فى قلوبنا ذلك الزواج بكثير جداً.
لم يفقد محمد ربيع أى صفة من صفاته حتى وهو يفقد كل يوم بعضاً من صحته، وكان كلما مر بنجاح من أزمة صحية يهاتفنى متهللاً كالأطفال: لقد «نطيت» منها بسلام ياحاج هشام. يقصد أنه تجاوزها، هذا تعبير متعارف عليه بيننا فنقول ضاحكين: فلان «نط» أى قفز من الموت بأعجوبة. ولأن محمد ربيع كان محباً للحياة فكلما تجاوز أزمة من تلك التى تهاجمه أثناء الغسيل الكلوى يعود بعدها لممارسة حياته بشكل طبيعى كأن شيئاً لم يكن. ولأنه يستطيع أن يرى فى كل معاناة شيئاً جميلاً كان يحتفل سنوياً بذكرى اليوم الذى بدأ فيه الغسيل الكلوى وكان يفاجئ زوجته وهو يضحك قائلاً لها: اليوم عيد ميلاد الغسيل! فتضحك قائلة: يا راجل حد يحتفل بحاجة زى كده ؟!
كان الحاج محمد ربيع من هؤلاء المحبين الذين تحن قلوبهم وكل جوارحهم لسيرة مكة والمدينة، تترقرق عيناه فرحاً وشوقاً عندما يحكى عن الحرمين الشريفين فتشاهدهما فى عينيه وهو يحكى عن ذكرياته. نشهد يا رب أنه كان متعلقاً أيما تعلق بمكة المكرمة والمدينة المنورة وأنه أحب رسولك الكريم حباً جماً. وأنه مات على لا إله إلا الله محمد رسول الله، فاغفر له يا رب بقدر حبنا له واجعل آلامه فى ميزان حسناته وارزقه الفردوس الأعلى من الجنة وإنا لله وإنا إليه راجعون.