الموقف السياسى

محمود بسيونى يكتب: المغامرة بالشعـوب

محمود بسيونى
محمود بسيونى


ما تشهده سوريا اليوم يستدعى التريث فى الحكم عليه حتى ينجلى الغبار الكثيف المصاحب للتحولات الجارية، حيث لا تزال الاشتباكات دائرة والدماء تراق وقوات الاحتلال الإسرائيلى تتقدم على مشارف دمشق.

بينما المخطط يسير نحو هندسة جديدة للشرق الأوسط، تخدم مصالح إسرئيل، وتحقق حلم مؤسسى الحركة الصهيونية فى إنشاء إسرائيل الكبرى الممتدة من سوريا والعراق شمالًا وإلى مصر جنوبًا.

فى الماضى كان المخطط تتداوله الألسنة فى السر، وربطه بعض المثقفين بنظرية المؤامرة، لكن الواقع الآن يقول إن المخطط يعلن عن نفسه فى العلن و«ببجاحة» منقطعة النظير، حيث تتحدث إسرائيل عن احتلال كامل لهضبة الجولان ومنطقة عازلة على بعد 20 كيلو مترًا فقط من دمشق، فى الوقت ذاته تسعى لتهجير أهالى غزة قسريًا نحو سيناء، حتى تتخلص من عبء القطاع إلى الأبد، وتمهيد الأرض أمام مزيد من الاستيطان على الأراضى الفلسطينية.
استغلت إسرائيل أوضاع الدولة السورية، وحطمت الجيش هناك تمامًا لتضمن أولًا استدامة الفوضى داخل سوريا، وثانيًا غياب أية قدرة مستقبلية لها على تحرير أراضيها المحتلة، وثالثًا وجودها على أية طاولة تناقش تقسيم سوريا، وهو ما تبشر به تحركات رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو على الأرض من طموح لابتلاع الأراضى السورية، وحصده لمكاسب مشاركته فى إسقاط حكم الأسد.

سجل التاريخ مشاهد الاحتلال الإسرائيلى للأراضى السورية والفلسطينية، وأن ذلك الكيان تلاعب بالشعوب العربية بعد ٧ أكتوبر، حينما صَدّر للعرب أن القضية أهم من الناس، وسقط بسبب ذلك أكثر من 45 ألف شهيد فلسطينى.

نفس الأبواق المنافقة بررت احتلال إسرائيل لأرض سوريا بأن الإنسان أهم من القضية، وأن استقرار سوريا أهم من المقاومة، بينما الدبابات الإسرائيلية على بعد أمتار من احتلال عاصمة عربية.

كلفت الحروب الإسرائيلية المنطقة فاتورة ضخمة، تدفعها كل شعوب المنطقة من أمنها واستقرارها، فضلًا عن خسائر مادية وصلت إلى أكثر من 800 مليار دولار بين هدم وإعادة إعمار.

لا يضع المخططون الشعوب فى حساباتهم، بعدما أصبح من السهل تحريك الشعوب عبر أدوات التواصل الرقمى المختلفة، والشائعات لتهدم دولها من الداخل، وتخرّب مجتمعاتها، وعندما ينقشع الغبار تجد نفسها قفزت إلى الفراغ، وسقطت داخل بركان الفقر، وغياب الخدمات، وضياع التنمية، لتسبح وحيدة فى النهاية بين حمم العوز، ولتستكمل حلقة الإفقار الجهنمية دورتها، ويتأخر العرب قرونًا أخرى.

لا أحد يرى مَن يخاطبه عبر أدوات التحريض الاجتماعى، لكن مَن يحرك تلك الدمى الرقمية يجيد استنفار الغضب، وذلك من خلال ملاحقة السابحين داخل هواتفهم المحمولة بمشاهد وصور وبيانات مضللة، تصنع فجوة بين الشعوب وحكوماتها، ومؤسساتها الوطنية، وتعبئ مشاعر الناس باتهامات الفساد والتخوين، وتدفعهم نحو هدم دول وطنية صنعتها الشعوب نفسها، وناضلت من أجل تقويتها لتحمى مصالحها وتدافع عن سيادتها.

أخطر ما يواجه الشعوب العربية الآن هو شعورها باهتزاز الثقة فى نفسها، وقدرتها على البناء والإصلاح، لقد لاحقتنا دائمًا عقدة التخوين، واستغلها محركو الدمى فى إفقاد أية تجربة وطنية ناجحة قدرتها على التأثير، وصناعة القدوة والنموذج، الذى يعيد للإنسان العربى ثقته فى نفسه وقدرته على بناء دولته.
يغذى محركو الدمى الرقمية مشاعر العدمية واليأس والإحباط ليقيد حركة الشعوب عن البناء والتنمية والعمران، التى هى أصل مهمة الإنسان على الأرض، ويدفع طاقات الناس إلى الهدم والتخريب المستمر، ليظل احتكار التقدم عند دول بعينها، وتظل الدول العربية حبيسة دوائر التخلف والفقر والعوز.

هكذا تسير المغامرة بالشعوب العربية، تتحرك لتهدم، وما يتم هدمه لا يعود، انظر إلى حال العرب اليوم، ومَن يتلاعب بمصيرهم، كم دولة ما زالت موحدة على الخريطة؟، كيف نجحت مخططات التقسيم العرقية والطائفية فى فرض أمر واقع جديد يزيد من آلام المنطقة، ويهدد أمنها واستقرارها لسنوات وسنوات قادمة؟، وكيف يعجز النظام الدولى - الذى يشجع على الهدم ويهلل للتغيير- أن يقدم الدعم لبناء الدول من جديد؟، وكيف يغلق أبوابه أمام المهاجرين واللاجئين، بل ويقف مشلولًا أمام تقديم المساعدات الواجبة للأشقاء الفلسطينيين المحاصرين بقوات الاحتلال فى غزة؟.

إن أهم دروس سنوات ما بعد الربيع العربى هو أن كيان الدولة ومؤسساتها هو ما يحفظ للإنسان حقوقه وكرامته وأمنه الشخصى، وأن التفريط فى الأمن هو ما يشجع الإرهاب على النمو والتكاثر، ويمنح أى عدو متربص الفرصة للتقدم والاحتلال، ومن ثم السيطرة على الموارد، ولا يوجد أدل على ذلك مما شهدته سوريا قبل أسبوع، حينما ذهبت كاميرات الإعلام لتغطية البحث عن السجون السرية فى سوريا بينما الجماعات المسلحة تنهب المصرف المركزى، ثم يفاجأ الجميع فى النهاية أنه لا يوجد أثر للسجون السرية، وأن خزانة الدولة خاوية !.

قبل سنوات، حذر الرئيس عبدالفتاح السيسى من فكرة الانتحار القومى والدولة الفاشلة، وهما مرادفان لما تشهده المنطقة من تخريب متعمد للدول ومؤسساتها الوطنية، الذى يتم - للأسف - بأيدى الشعوب، لتصحو من غفوتها على واقع مؤلم ومرير، وهو أنها تقف وحيدة بعدما خسرت كل شىء، ومَن كان يشجعها على التدمير يغلق أبوابه أمام مساعدتها، ويتخلى عن حماية حياتها حينما تلجأ إليه.

حينما استشهد الرئيس السيسى ذات مرة بالمثل الشعبى المصرى «العفى محدش يقدر يأكل لقمته» كان يقصد تمامًا ما تشهده المنطقة من صراعات هدفها التقسيم والتفتيت والاستيلاء على مقدرات الشعوب، وأن الدول تقاس بقدراتها على قطع أية يد تمتد لحدودها أو تمس مصالحها.

بل إنه وضع روشتة المواجهة، حينما دعا الشعب المصرى مرارًا وتكرارًا إلى التوحد والتماسك والترابط ككتلة واحدة، من أجل مواجهة أى تحد أو خطر، لأن المتربص دائمًا ما يبحث عن الثغرة، وهى لا تنشأ أبدًا إلا فى أجواء الفتن والتفريق والانقسام.

حتى تعيش الشعوب اليوم فى عواصف الشرق الأوسط يجب أن تتعلم من الخبرات السابقة، وأن تتأمل مصير المغامر والمقامر بوطنه وتردى أحواله بعد ضياع دولته وأمنه واستقراره، وأن تتسلح بفقه الدولة القائم على خضوع الجميع للدستور والقانون، واحترام المواطنة، وأن «الاختلاف» يسع الجميع و«الخلاف»  لايقبل القسمة على وطن والإيمان بأن بقاء الوطن مستقرًا موحدًا يساوى حياة الشعوب.