د. محمد سليم شوشة
فى ديوانه الجديد «الموت سبوبة للعايشين» الصادر 2024 عن هيئة الكتاب يقدم الشاعر المصرى القدير مسعود شومان تجربة شعرية متفردة تضاف لمجمل مشروعه الشعرى وصرحه الإبداعى اللافت وشديد الخصوصية، وإن كنت أرى أن هذا الديوان يمثل ذروة إبداعية فى مشروعه لكونه قد بلغ به حدودا بعيدة من الجمال الشعرى الخالص شكلا ومضمونا أو بنية ومحتوى دلاليا.
هذا الديوان النغمى والغنائى بطابعه لا يتخلى عن طاقات التأمل والتدبر فى شئون الخلق وظواهر الكون وتجليات الحياة وتدفقاتها أو موجاتها الأبدية واللانهائية، حتى وإن كان يصدر الشاعر فى قصائده عن إحساس بالراهن وتفاعل نابض وحيوى معه لكنه لا ينحصر فى حدود التجربة اللحظية وظلالها الشبحية المتجسدة فى إحساس الذات الفردية، لكنه يتماس كذلك مع حدود الوعى الجمعى وحدود الوعى التاريخى وتراكمات الزمن، بمثل ما يتماس مع معطيات الطبيعة بطابعها الأبدى ورسوخها فى الوجدان الإنسانى، ليكون قد قدم فى النهاية نصوصا تلامس إحساسا ووعيا مغايرين لدى المتلقى، وينبه إلى مشاعر جديدة، ويبلغ بؤرا غائرة فى مدارك القارئ وذهنيته دون مجهود أو دون معاناة مع الكلام، بل يحدث هذا بعفوية بالغة وتدفق شعرى نادر.
قد يبدو الشعر التأملى صعب المنال فى خطاب الفصحى، لكنه ربما يكون أكثر صعوبة فى خطاب العامية على مستوى الإنتاج والتلقى، لكن الشاعر العاكف على صوته الداخلى والمرهف السمع لذاته وخلجاته الأقرب لأن يكون غارقا ومستغرقا فى تجربته يصبح هذا النمط من الشعر بالنسبة له فى أقصى درجاته سهولة وتدفقا وتأتيا.
والأكثر أهمية أنه يبقى محافظا على سمته الجمالى والإيقاعى وبنيته الشعرية المؤثرة والنابضة التى تخرج به من شعر الحكمة الجاف أو الفلسفى الخالص، ليبقى فى تلك الدائرة الأثيرة الموروثة للشعرية العربية المتمثلة فى أبرز عظماء الشعر العربى من أبى تمام والمتنبى وأبى العلاء المعرى وأحمد شوقى، وصولا إلى فؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم، وإن كان فى النهاية ليصبح مصبوغا بصبغته الخاصة وسماته المختلفة التى تجعله عنوانا لمدرسة قائمة بذاتها فى شعر العامية المصرى تكمل مراحله وتنتقل بخطاب شعر العامية إلى مستوى جديد.
لا يتصل خطاب مسعود شومان الشعرى بالشعرية العربية الأصيلة ولا أقول القديمة فقط، بل يتصل كذلك بتراثنا الشعبى من المواويل والسير وفنون القول الشعبية كلها، يمتص منها روحها ويدمجها فى الرؤية العصرية ويعطّرها بحساسية اللحظة الراهنة ونبضها.
يسرد ويصنع حوارا ويتغنى ويندمج مع الطبيعة وعناصر المكان وأشيائه ومفردات الوجود من الجبل والصحراء والنهر، الماء والعطش والظل والشجر والقطط والحيوانات وغيرها مما يحوله الصوت الشعرى الهادر إلى إحساس ومصادر للتعاطف وإنتاج المعنى واستكشافه أو البحث عنه أو البحث عن إجابة.
يتأمل جمال الكون فى إعجاب مرة وفى أسى وحزن مرات، فى حنين وشعور طاغ بـ النوستالجيا أحيانا، وفى تطلع إلى المستقبل وأمل فى صفّ الحقائق وتدوين تاريخ شعرى للأشياء فى أحيان أخرى.
فيما يشبه موج البحر تتوالى دفقات القصائد بشعريتها الباذخة، تقارب الفرد والجماعة، تتماس مع الذاكرة الفردية والأنا فى عزلتها، أو ترتد إلى الذاكرة الجماعية فى حشودها وحركتها الدائبة لتشكيل صورة الوطن أو منح القرية أو المدينة ملامحهما وألوانهما المستخلصة من ألوان حركة الإنسان وطموحه وألمه وعاداته وطقوسه أو ناموسه اليومي.
ومن أبرز معالم الجمال الشعرى وملامحه فى هذا الديوان الخيال الشعرى والصور الشعرية المختلفة عن السائد، فهى كلها صور ابنة الحال الشعرية التى يصدر عنها مسعود شومان فى نصوصه، وأتصور أنها تحتاج إلى دراسة خاصة قائمة على الفحص الإدراكى وفكرة المزج المفهومى بين المجرد والحسى، المزج المفهومى والتمثيل الذهنى للمعانى، وتحويل المادى الملموس إلى حسى أو العكس، فيما يمكن أن يشكل دراسة مهمة فى الاستعارة الشعرية أو المجاز الشعرى عند مسعود شومان، وكيف يندمج هذا التخييل الشعرى ويتكامل مع بقية عناصر القصيدة.
فنجد أن هذه الصورة فى تلاحم تام وانصهار كامل مع السرد والأصوات ووجهة النظر فى القصيدة، مع الموقف الشعرى أو الانحياز العاطفى والشعورى الذى تمثله القصيدة أو تصبح بؤرة له.
يقول مثلا فى قصيدة «مع السلامه»:
قالت الغنوة الصبايا
شوفت دمعتها اللى نزلت
لما دارت جرحها جوه المرايه
التجاعيد ابتدت تحكى الحكاية». الديوان، ص26
دارت جرحها فى المرايا صورة شعرية طريفة، فالحقيقة أن المرايا إنما توضح الخفى وتكون مجالا للاستكشاف وليس للإخفاء والمداراة، ولكن حين نتأمل هذه الصورة فى أعماقها، فنجد أنها تمتلك منطقها الخاص ومن المفاجئ أن هذا المنطق الخاص الذى تفرضه القصيدة هو أكثر عقلانية وأكثر قربا للحقيقة، فالجرح الحقيقى يكون أكثر ألما حين يكون ألمه منكفئا للداخل، منكفئا على الشعورى والعاطفى، فمن لديه ألم جرح ولو حتى بفرض أن هذا الجرح حرفى أى إصابة جسدية، فإن ألمها ربما يقل ويتوارى إذا انشغل صاحبه بمظهر هذا الجرح وحاول فحصه فى المرايا، لأن الانشغال بالداخل ربما يصرف المخ عن التركيز على الألم الداخلى، ويصنع نوعا من التشتيت، فكأن الألم بالفعل يتوارى ويتدارى حين يطالعه الإنسان فى المرايا لأنه ينشغل بالصورة والمظهر عن الألم والشعور به، وإذا تصورنا أنه ألم نفسى دون إصابة جسدية حقيقية، فإن الصورة الشعرية تظل محتفظة بمنطقها، لأن مطالعة الإنسان لصورته فى المرايا وتركيزه على تأمل المظهر الخارجى يؤدى الدور نفسه ويصرف الاهتمام والانكفاء الشعورى عن الداخل وما فيه من ألم.
والتجاعيد ابتدت تحكى الحكاية هى صورة واضحة فى منطقها بعكس الصورة السابقة، لأن التجاعيد تحمل من التفاصيل ما يوحى بقصة كاملة، أى أن وراءها حكاية مكتملة تحكيها، وهذا مفهوم ومألوف، ولهذا نجد أن النص الشعرى لا يعمد إلى التغريب أو يدفع المخيلة إلى تشكى صور بعيدة فى تصورها على الدوام، بل تصبح الصورة ابنة المعنى الكلى الذى يقود الحال الشعرية من البداية إلى النهاية ويتحكم فيها تحكما كاملا.
الحقيقة أن كل قصيدة بها من الصور ما يحتاج إلى تأمل طويل سواء فى ذاتها أو تكوينها المنفصل أو فى إطار ارتباطها الوظيفى مع العناصر الشعرية الأخرى.
ومن الصور الشعرية المدهشة برغم سلاستها وتأتيها، قوله: (والنخل باح بالرطب ودوّق المساكين أول كلام الدم ع السكين فتحوا البلاد وشردوا ناسها)، فيما يمثل نوعا خاصا من الشعر ينتمى لمسعود شومان الذى يطمح لأن ينتج خطابا شعريا أقرب للصوت الشعرى التأريخى الذى يختلف فى الوقت نفسه عن السيرة والموال وينتمى للقصيدة الغنائية الحديثة، لكنه بمقومات تراثية خاصة وتوظيفات جديدة للتاريخ.
ومن النماذج المدهشة التى تدل على مقدرة كبيرة عمده لتصوير ودمج حركة الكون وأصواته ومحاكاتها ودمجها فى الطاقات الإيقاعية والموسيقية للقصيدة على نحو ما نجد فى النموذج المبهر فى قصيدته «يعرف بلاد الخلق فى الضلمه» التى يهديها إلى جده، ومن مطلعها يصنع مخاتلة متفردة توحى بطلعة الموال فى حين أنها مجرد حكاية لقول الجدّ وسرد أحداث يومه، وهو هنا يتماهى مع المساحة الدافئة الفاصلة بين حميمية الموال وبين دفء السرد البطولى، حين يقول (أول كلام للفجر بيقوله يجعل صباح الطيبين نادى)، وصولا إلى تلك اللمحة الطريفة التى يدمج فيها إيقاع الحصان الذى يجرّ العَربة مع إيقاع القصيدة، ليخلق عالما طاغيا بالحياة وفى غاية النبض والحيوية داخل القصيدة، حين يقول: ماشى تخبّط حدوته على الأرض يقوله حاضر حاغنى للشجر ويّاك تك تك تتك وللضلمة اللى ماشية هناك تك تك تتك.. تك تك تتك بيخبط المفتاح ف جسم الصاج). فيما يشكل من حركة الجد مع حصانه حركة أبدية دائبة ومتوحدة كأنها حركة الكون وليست مجرد حركة لبطل القصيدة، فكأن الصوت الشعرى عمد إلى تخليد الجد بأن دمجه فى ناموس الكون وقوانينه وحركته الأبدية.