منظمة الأنهار الدولية تابعت باهتمام بالغ تطورات أزمة سد النهضة الاثيوبي منذ بدايتها وكتبت سلسلة من التقارير والتحليلات حول هذه الأزمة وحول تأثير السد علي النهر وعلي البيئة والأفراد في كل من دول المنبع والمصب. وقالت المنظمة ان الحكومة الاثيوبية تعمدت إطلاق مشروع السد في خضم الثورة المصرية، وذلك بغرض استغلال اضطراب الوضع السياسي في مصر التي وصفتها المنظمة بالدولة الاكثر قوة بين دول حوض النيل والتي ظلت لفترة طويلة الدولة ذات الهيمنة والحقوق الاكبر في مياه النيل. وأضافت المنظمة ان هذا الوضع طالما أغضب إثيوبيا، التي هي مصدر 85٪ من مياه هذا النهر. وأكدت المنظمة في تقريرها انه علي الرغم من انه لا توجد دراسات معروفة عن تأثيرات السد علي تدفق النهر، الا ان ملء الخزان الضخم للسد (حوالي 67 مليار متر مكعب من المياه، ومع وصول فترة الملء إلي 7 سنوات) بالتأكيد سيؤثر علي مصر، التي تعتمد كليا تقريبا علي النيل لتوفير المياه. وأشارت الي ما ذكرته مجلة «التطور اليوم» من ان كم الماء المتدفق إلي مصر سينخفض بنسبة 25٪ خلال فترة الملء.

وفي تقرير لها تعقب فيه علي تقرير الخبراء الدوليين الذي نشرته أخبار اليوم الاسبوع الماضي، أكدت «منظمة الانهار الدولية» ان الحكومة الاثيوبية تعمدت حجب الكثير من التقارير الرئيسية الخاصة بالسد عن فريق الخبراء الدوليين عنداعدادهم لهذا التقرير الهام الذي أكد بالفعل علي وجود الكثير من المخاطر والنواقص المحيطة بالسد، ومن بينها عدم كفاية دراسة التأثيرات الهيدرولوجية (وهي وثيقة رئيسية لفهم مدي تأثير السد علي الناس والنظم الإيكولوجية في دول المصب). ومن بين تلك الوثائق التي تم حجبها، التقارير الخاصة بالتقييم الجيوتكنولوجي، والذي يعّد ضرورياً في مشاريع انشاء السدود، وكذلك تحليلات التكلفة وفوائد المشروع.

وأوصت المنظمة في تقريرها بإيقاف عملية البناء في المشروع حتي يتم الانتهاء من جميع الدراسات اللازمة التي أوصت بها لجنة الخبراء الدوليين. مؤكدة انه بالنظر الي النتائج التي توصل لها الخبراء، فإن دعوة مصر للوساطة هي امر معقول، ويجب علي الحكومات المانحة والهيئات الدولية أن تدعم مثل هذه العملية.

هجوم حاد

اللافت انه في أعقاب نشر هذا التقرير تعرضت منظمة الانهار الدولية لهجوم حاد من قبل اثيوبيا، حيث قامت لجنة الخبراء القوميين الاثيوبية بإصدار بيان «مسرحي» تتهم فيه المنظمة بالانحياز لمصر لانها تتلقي الدعم المالي من ممولين مصريين، بالاضافة الي عدد آخر من الاتهامات التي أكدت المنظمة انها استفزازية ولا أساس لها من الصحة، لافتة الي ان بيان اللجنة الاثيوبية تعمد ألا يتطرق الي أي من المخاوف التي أثارها تقرير الخبراء الدوليين. وأكدت المنظمة في بيان لها: « اننا لا نتلقي دعماً مالياَ من أي مؤسسة أو حكومة، بما فيها مصر. كما اننا نلتزم بالحياد التام عندما يتعلق الأمر بانتقاد اي مشروع «مدمر» وينم عن فقر في إدارة اي نهر في العالم، بما في ذلك مصر والسودان. ونهر النيل هو واحد من بين العديد من الانهار التي تنشأ حولها الصراعات بسبب استغلال النهر لاغراض ضيقة لمصلحة مجموعة محدودة من المستفيدين، فيما تترك مجموعة أكبر من الناس تعاني من الآثار».. وقالت المنظمة ان تطوير السدود هي قضية مسيسة بشكل كبير في إثيوبيا، وليس لدي منظمات المجتمع المدني أي مساحة حقيقية لانتقاد خطط الحكومة. فالقمع الحكومي والقوانين المقيدة تجعل من الصعب للغاية بالنسبة للمواطنين أو المنظمات غير حكومية ان تتحدث علنا. وفي حال خرج السكان عن الاطار المرسوم لهم وابدوا اعتراضاتهم يكون القمع هو الوسيلة الوحيدة لمجابهة ذلك، كما حدث في الاحتجاجات الاخيرة في مدينة “سولولتا ” وإقليم “بني شنقول”، حيث استعانت قوات الشرطة الإثيوبية، وفقًا لما نقلته صحيفة “أديس نيوز الحكومية بالطائرات المروحية لقمع المحتجين وأطلقت النار عليهم متسببة في مقتل اكثر من 75 شخصاً، بالاضافة الي اعتقالها أكثر من 400 شخص، واعلان حالة الطوارئ القصوي.

مشروع فاشل

وتقول منظمة الأنهار الدولية ان خبرتها في دراسة السدود الكبري في أفريقيا، تؤكد فشل مثل هذه المشاريع الضخمة في الحدّ من الفقر، بل هي مجرد حلول مكلفة وغير فعالة في تحقيق هدفها وهو توصيل الكهرباء لملايين الناس في القارة. واعربت المنظمة في تقرير لها عن ايمانها العميق بأن التركيز علي الحلول اللامركزية لتوليد الطاقة سيساعد بشكل أسرع وأقل كلفة واكثر فاعلية علي إغلاق الفجوة المتسعة من فقر الطاقة في أفريقيا.

ولفتت المنظمة الي امتلاك اثيوبيا لامكانات ضخمة لمصادر الطاقة المتجددة النظيفة، والتي لها فائدة إضافية تتمثل في كونها أصغر واكثر لامركزية، وبالتالي أكثر ملاءمة لتلبية احتياجات الغالبية (وأكثر ملاءمة للتكيف مع المخاطر الهيدرولوجية لتغير المناخ). فالدولة منحها الله الكثير من الطاقة الحرارية الأرضية، والشمسية وطاقة الرياح.

تمويل غير مشروع

وحول تمويل المشروع قالت المنظمة ان تكلفته (5 مليارات دولار) تفوق قدرات هذا البلد الفقير، وتقديرات التكلفة الحالية تساوي الميزانية السنوية للبلاد بالكامل، مشيرة الي حقيقة احتكار هذا المشروع المكلف للتمويل الحكومي المخصص لقطاع الطاقة، تاركاً العديد من المشاريع الأخري التي تعالج فقر الطاقة العالي في البلاد بصورة مباشرة، بدون تمويل.. كما أشارت المنظمة الي ان ارتفاع احتمالات اندلاع صراع حول السد، والذي كان علي الارجح السبب الرئيسي الذي صرف اهتمام الممولين الدوليين عن دعم هذا المشروع، اجبر الحكومة الاثيوبية الي البحث عن سبل لتمويل السد بنفسها. وفي سبيل ذلك وضعت خطة لبيع سندات للمشروع، كما قامت برفع الضرائب، وشجعت الإثيوبيين علي دعم السد من رواتبهم.. وقالت المنظمة انها بصدد اصدار تقرير حول السياسيات الاثيوبية المثيرة للجدل التي تتبعها الحكومة لتمويل السد محلياً، والتي تري انها وصلت في بعض الحالات، الي انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، مع وجود أدلة واضحة علي استخدام الإكراه.

جدير بالذكر ان الحكومة الأثيوبية، وفي محاولة لاستغلال زيادة الحاجة للغذاء، وامتلاك أفريقيا لـ 60% من الأراضي الزراعية الخصبة، قامت بتأجير مساحات كبيرة من الأراضي لمستثمرين أجانب من الهند والصين ودول من الشرق الأوسط، وهو أمر ليس من حق الحكومة ويعتبره النقاد «وضع يد» علي الأراضي المملوكة للغير. هذا التوجّه الحكومي كان سبباً في اندلاع الانتفاضة الشعبية الاخيرة التي بدأها أفراد أقلية “الأورومو» بعد قيام الحكومة بمصادرة أراضيهم.

وعود كاذبة

وشككت المنظمة في الوعود والتعهدات التي تجاهر بها الحكومة الاثيوبية لتهدئة مخاوف الجانب المصري.. وقالت ان الأدلة الدامغة علي ذلك يمكن استنباطها من تاريخ إثيوبيا مع بناء السدود، والذي يقول لنا أن نكون حذرين بشأن الوعود الإثيوبية.. ودللت المنظمة علي ذلك بالاشارة الي سد «جلجل جيب الثالث»، مشيرة الي ما دأبت اثيوبيا ان تفعل، فإن الدراسات الخاصة بتقييم الأثر البيئي والاجتماعي للسد (ESIA) لم تخرج الا بعد عامين علي البدء في تشييده. كذلك، فإنه حتي اليوم، لا تزال حكومة إثيوبيا غافلة عن آثاره العابرة للحدود، رغم أنها تعرف ما سيكون له من تأثيرات كبيرة علي بحيرة توركانا في كينيا المجاورة. علاوة علي ذلك، قدمت الدراسات الخاصة بتقييم الأثر البيئي والاجتماعي للسد معلومات مضللة عن الأثر الفعلي له علي سكان وادي أومو، وحرمت المجتمعات المحلية المتضررة من أي فرصة للمشاركة في صنع القرار حول التطورات التي من شأنها أن تؤثر بشكل أساسي علي مستقبلهم. لهذه الأسباب وكثير غيرها ذات الصلة، تمنح معطيات قضية سد «جلجل جيب الثالث المشينة، لدول المصب اشارات حول ما سيؤول اليه الحال فيما يخص سد النهضة.