إذا أردت أن تتعلم الجغرافيا في مصر فعليك الالتحاق بإحدى كليات الآداب بجامعات مصر، لتجد نفسك بين مجموعة من علوم الأرض، التي تتطلب وجود قدر مناسب من العلوم والرياضيات وعلوم الحاسب الآلي بجانب المعرفة بالجغرافيا والتاريخ، ما يجعل وجود أقسام الجغرافيا ضمن كليات الآداب في مصر هو بالأمر الغريب.
فمجال الجغرافيا، لمن يجهله لا يقف عند (شمال، جنوب، شرق، غرب) كما هو شائع لدى البعض، وإنما هو كما يسمى في كثير من جامعات العالم المتحضر (علم الأرض) نظراً لأنه يشتمل على مجموعة متنوعة من العلوم والمعارف، التي تتشابك معاً لتلعب دور بارز في صبغة مجالات المعرفة النظرية بالبعد المكاني، ما يجعلها أدق وأكثر ارتباطاً بالواقع الحياتي.
وليس من الغريب أن تجد أن جغرافيا العمران هو أحد العناصر الرئيسة لعلم التخطيط العمراني والحضري، وجغرافيا النقل والاتصالات وما لها من دور فاعل في تخطيط هندسات الطرق والشوارع وحل المشكلات المتعلقة بها. وجغرافيا التجارة وجغرافيا السياحة وجغرافيا الصناعة وأدوارهم الفاعلة في كثير من مجالات التنمية الاقتصادية. أما الجغرافيا البيئية وجغرافيا الإيكولوجيا الحضرية وجغرافيا البحار والمحيطات فهي شديدة الصلة بعلوم البيئة والبحار والحياة البرية والزراعة. كما إن جغرافيا المناخ تعتبر أساساً لا غنى عنه، يُعتمد عليه في الدراسات المناخية والمترولوجية.
ومن جانب آخر فإن الجيمورفولوجبا وهي فرع أصيل من فروع الجغرافيا له صلاته المباشرة بعلوم الجيولوجيا والهيدرولوجيا وعلوم الأنهار والأودية والسدود. أما جغرفيا السكان فهي من العلوم الرياضية، شديدة الصلة بالديموجرافيا، وجغرافيا الجريمة فهي إحدى محركات العلوم الأمنية، كما إن لجغرافيا الانتخابات علاقتها الرئيسة بالعلوم السياسية، والجغرافيا الطبية، تُعد إحدى ركائز تفسير بعض مسببات الأمراض في العلوم الطبية. وغير ذلك الكثير والكثير.
وعلى الجانب الآخر فإن الكارتوجرافيا (علم الخرائط)، ذلك العلم التوأمي للجغرافيا، فهو من العلوم، التي لا غنى عنها في معظم المعارف البشرية، فمن مِنا لا يستعمل الخريطة، تلك التي تعتبر رسالة لها مرسل ومستقبل ومحتوى يتباين وفقاً للهدف منها. ذلك العلم الذي يتقاسمه العديد من العلوم تصميما وانتاجا، وقراءةً، وتفسيراً، كعلم النفس وعلم التصوير وعلم الألوان، وعلم التصميم، وعلوم الطباعة وغيرها، ما يساعد على أن تكون الخريطة أداة فاعلة للقيام بدورها وإيصال الرسالة التي تحملها على خير وجه، فيما يعرفه الجغرافيون المحنكون بـ "دورة الاتصال الكارتوجرافي".
وقد امتدت أيادي الجغرافيا نحو علوم المساحة، بفروعها الأرضية، والجوية، والبحرية، إذ يتم تدريس مجموعة كبيرة من علوم المساحة للطلاب، كالمساحة المستوية، والجيوديسية، والتاكيومترية، والمساحة الجوية، والمساحة البحرية، تلك الفروع المعقدة رياضياً، ما كانت نتيجته أن يتحمل خريجو أقسام الجغرافيا مسئوليات فنية شديدة الحساسية في هيئات المساحة العامة، والمساحة الطبوغرافية، والمساحة الجيولوجية، وغيرها.
والمتابع لتطور أقسام الجغرافيا بجامعات العالم يجد هذا التزاوج حديث النشأة بين علم الجغرفيا ونظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد والذكاء الاصطناعي منذ ثمانينيات القرن العشرين، ما صبغ الجغرافيا بصبغات أكثر حداثة، اتسمت بالاعتماد على الرقم والبيان الدقيق والنماذج الرياضية والبصرية بأنواعها في إجراء تحليلات أكثر شمولية ودقة في العديد من المجالات ذات البعد المكاني، وأصبح للجغرافيين القدرة على اختراق المستقبل بتصاميم محاكاتية أكثر واقعية وصياغة سيناريوهات نمو وتطور هي الأقرب للحدوث، يمكن الاعتماد عليها في التخطيط في كثير من المجالات الرئيسة للتنمية المستدامة (الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية). ومعالجة القضايا المعقدة التي تتراوح من التنمية الحضرية إلى الاستدامة البيئية، هو ما جعل اعتماد كثير من المشروعات التنموية على خريج قسم الجغرافيا، الذي أصبح من العناصر الفاعلة في هيئة الاستشعار عن بعد والمركز الاقليمي لاستخدامات الأراضي، والجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، هيئة الطاقة النووية، ومصلحة الخبراء وغيرهم.
وليس من دليل على تشعب علم قدرة علم الجغرافيا بفروعه ومعارفه المتنوعة على اختراق معظم المجالات أكثر من مشاركة الجغرافيين في صياغة استراتيجية التنمية الحضرية المستدامة في مصر لضمان تحقيق التوازن بين التحضر والحفاظ على البيئة. وفي فرنسا، لعبت الجغرافيا الحضرية دوراً بارزاً في تصميم مشروع باريس الكبرى لتخطيط أنظمة نقل جديدة وتخطيط المناطق السكنية، بهدف تقليل الزحف الحضري وتحسين الاتصال بين باريس وضواحيها. كما قامت شركة مترو دلهي للسكك الحديدية (DMRC) في الهند بتوسيع البنية التحتية للنقل الحضري اعتماداً على دراسات في جغرافيا النقل وتحليل شبكات النقل وأنماطه، من خلال ما تم المساهمة به من طلاب أقسام الجغرافيا طوعياً. وقد قلل المشروع من الازدحام والتلوث، ما أدى إلى تحسين نظام النقل الحضري بشكل كبير.
وفي الصين، فقد تم تطبق مبادرة الحزام والطريق، بإرساء بالأخذ بنتائج بعض بحوث الجغرافيا الاقتصادية لدعم الربط التجاري بين آسيا وأوروبا وأفريقيا. وتضمن المشروع تطوير البنية التحتية للنقل مثل السكك الحديدية والموانئ، مما يدفع النمو الاقتصادي في المناطق المعنية.
ومن جانب آخر فقد كان للجغرافيا الثقافية دورها عند التخطيط لكأس العالم لكرة القدم 2014 في البرازيل، وهو ذلك الفرع من الجغرافيا، الذي يبحث في الطرق التي تتشكل بها الثقافات في الفضاء الجغرافي، لفهم الديناميكيات الثقافية من أجل التخطيط الحضري الفعال والمشاركة المجتمعية. فكانت الجغرافيا الثقافية جزءا لا يتجزأ من فهم احتياجات المجتمعات المحلية وتراثها. وليس من دليل أكبر من الاهتمام باستخدام الجغرافيا الطبيعية أيضاً في إدارة مخاطر الكوارث في اليابان، حيث نفذت قوانين بناء صارمة وتخطيط لاستخدام الأراضي بناء على التقييمات الجغرافية للتخفيف من آثار الزلازل وأمواج تسونامي.
وعلى الجانب الآخر فقد أصبحت نظم المعلومات الجغرافية (GIS) ذات القدرات الفائقة في جمع البيانات الجغرافية وتحليلها باستخدام تقنيات ذكية تلعب دورا محوريا في التخطيط الحضري والمراقبة البيئية في كثير من دول العالم.
وبعد هذا العرض، نأتي لمسالة غاية في الأهمية، ألا وهي تبعية أقسام الجغرافيا لكليات الآداب في الجامعات المصرية، فهل هو المكان الصحيح لها مع كل ما تم استعراضه من جوانب علمية شديدة الخصوصية تحتم على دارس الجغرافيا التعمق في علوم الرياضيات والجيولوجيا والهندسة وحساب المثلثات والأحياء وعلوم الحاسب؟ وربما ساعدنا في الإجابة على هذا السؤال استعراض جولة في أقسام الجغرافيا في دول وقارات العالم، التي لا تؤل تبعيتها لكليات الآداب:
فيتبع قسم الجغرافيا كلية العلوم الطبيعية، بجامعة كامبريدج. وكلية العلوم الاجتماعية بجامعة لندن في بريطانيا، بينما يتبع كلية العلوم الاجتماعية في جامعة أكسفورد الأمريكية. ويتبع قسم الجغرافيا كلية العلوم في جامعة ماكجيل وجامعة ألبرتا في كندا. كما يتبع كلية العلوم في الجامعة الوطنية الأسترالية وفي جامعة ملبورن وجامعة سيدني وجامعة كوينزلاند باستراليا.
أما في أوروبا، فيتبع قسم الجغرافيا كلية العلوم في جامعة كوبنهاجن (الدنمارك). وكلية زيورخ للعلوم والهندسة في النمسا، بينما يتبع كلية الرياضيات والعلوم الطبيعية في جامعة هومبولت في برلين (ألمانيا). أما في اليابان، فقد صُنِف قسم الجغرافيا، كأحد أقسام كلية الدراسات العليا للعلوم في جامعة طوكيو. بينما حرصت الصين أن تكون أقسام الجغرافيا داخل كلية العلوم الحضرية والبيئية بجامعة بكين، وضمن أقسام كلية العلوم الاجتماعية، بجامعة هونج كونج. حتى في جنوب أفريقيا، فكان قسم الجغرافيا هو أحد أقسام كلية العلوم.
وهنا لابد لنا من وقفة مع هذا التخصص، الذي يُعد من التخصصات التائهة في الجامعات المصرية، يُنظر لخريجه على إنه خريج لإحدى الكليات النظرية، على الرغم من هذا الزخم المعلوماتي الذي يتشبع به، فهل آن الأوان لنقل أقسام الجغرافيا إلى كليات العلوم؟؟؟
حفظ الله مصر وحفظ الجامعات المصرية
كاتب المقال: الدكتور هاني سامي أبو العلا- أستاذ نظم المعلومات الجغرافية وخبير التنمية المستدامة بمنظمة اليونسكو