د. جمال أبو شقرة
وتتعدد وسائل النصب التى يستخدمها المتسولون بشكل قد لا يخطر على بال البشر
يمتد تاريخ مصر لأكثر من سبعة آلاف سنة وعبر هذه السنوات الطويلة تكونت الشخصية المصرية وتبلورت مجموعة من السمات التى ميزت الثقافة المصرية عن غيرها، ورغم التباين بين ثقافة المدن والقرى الحدودية ومدن الصعيد ومحافظات الوجه البحري، إلا أن هناك قواسم مشتركة تدفعنا إلى القول بوجود قيم وسمات وسلوكيات مصرية متوارثة عبر الأجيال.
وليس بعيدا عن الصحة القول بإن كل حقبة من حقب التاريخ ورثت مجموعة من السمات، من الحقبة السابقة لها وأورثتها مع ما أضافته للحقبة التالية وهكذا حملت جينات الأجيال المعاصرة هذا الإرث العظيم من القيم والعادات والتقاليد التى رسمت خريطة الثقافة المصرية، وملامح الشخصية المصرية، فالمصرى متدين تدينا معتدلا، ومرتبط بالأرض، والأرض عنده كالعرض، والمصرى محب للحياة، وقادر على التحدي، وقادر على الإنجاز ولا تنقصه الشجاعة والذكاء، فضلا عن إنه يحترم الكبير، وقادر على الصبر والتحمل والتكيف مع الظروف الصعبة.
إلا أنه لقد لوحظ تبدل سمات الشخصية المصرية فى فترات الأزمات، وفى مراحل الاضطرابات، ولعل أهم السمات التى تتغير فى هذه الظروف هى سمة الذكاء حيث يتحول الذكاء إلى فهلوة، وتتحول القدرة على الإنجاز والتحدى والعمل لكسب المال إلى القدرة على الاحتيال ومع إنه يصعب التعميم إلا أن تتبع علاقة المصريين بالمستعمر وبالسلطة المستبدة يؤكد وقوع هذا التحول عند الغالبية العظمى من المصريين، ويؤكد انصراف المصريين إلى كل ما يمكنهم من مواجهة الظروف الصعبة.
لقد سادت ثقافة الفهلوة فى مراحل الفوضى والاضطراب وفى تاريخنا المعاصر فرضت هذه الثقافة نفسها بعد الانفتاح الاقتصادى وتحت تأثير ظهور طبقة الانفتاح التى زاوجت بين الثروة والسلطة.
لكن ما الذى نقصده بمصطلح الفهلوة؟
- الكلمة مشتقة من كلمة فارسية الأصل «الفهلوية» ومعناها أن الشخص « الفهلوي» هو الذى يمتلك خبرة عميقة ويعلم أشياء لا يعرفها غيره، إذا فالفهلوة والفهلوية فى الفارسية تعنى القدرة على الإنجاز والتكيف مع ظروف الآخرين.
لكننا نُعرف الفهلوة بالمصرى بأنها الاحتيال والفهلوى هو الشخص المحتال والماهر والبارع والقادر على التكيف السريع مع متغيرات المجتمع.
ويعرفها البعض بأن صاحبها هو الشخص الذى يتميز بالدقة واليقظة والذكاء، لكن أى نوع من الذكاء. الحقيقة أن الاستخدام المصرى للمصطلح ليس استخداماً إيجابياً، فالفهلوى هو من يستطيع تحقيق أهدافه بأى طريقة حتى لو كان فيها تحايل على القانون، والمبادئ والأخلاق والعادات والتقاليد، أى إنه الشخص الذى « يعرف من أين تُؤكل الكتف»، وقد يصل الأمر إلى « النصب» على الآخرين « كمن باع ميدان العتبة والمطافى والترامواى فى الفيلم لإسماعيل ياسين».
ورغم قدم ظاهرة الفهلوة والنصب والاحتيال إلا أن عدد النصابين والمحتالين والشطار الذين حولوا الذكاء إلى فهلوة قد ازداد بشكل ملحوظ بعد الانفتاح الاقتصادى. لقد راكم عدد كبير من رجال المال والأعمال ثروات هائلة، فبعضهم وضع يده على أرض الدولة من دون وجه حق، وبعضهم مستغلاً الفساد والرشوة اشترى آلافا من الأفدنة مقابل مبالغ هزيلة، وعدد آخر ينصب على المصريين وتعاقدوا معهم على مساكن وهمية، وسرقوا منهم « تحويشة العمر» باعتبارها «خلو» أو «مقدم» للشقة الوهمية.
وفريق آخر لجأ إلى أسوأ صور الاحتيال وكون الشركات الأشهر فى مصر وقتئذ، أقصد شركات توظيف الأموال، حيث جمع هؤلاء ملايين الجنيهات من المصريين وهربوا تاركين خلفهم مأسي.
واحتال فريق آخر وكسب بالفهلوة ملايين من الجنيهات ببيع الفراخ الفاسدة، وأكل الكلاب والقطط على إنها طعام آدمي، كما باع الأغذية منتهية الصلاحية الأمر الذى أضر بصحة عدد كبير من المصريين.
وبهذا الصدد يحتال عدد آخر ويستخدم « الفهلوة» بالتسول، وبين الحين والآخر تقرأ خبرا عن متسول رحل تاركاً ملايين الجنيهات، وتتعدد وسائل النصب التى يستخدمها المتسولون بشكل قد لا يخطر على بال البشر.
حكاية الكتكوت الرقاص
من الأمثلة المشهورة والدالة على تحول الذكاء إلى أداة للنصب والاحتيال والفهلوة فى زمن الانفتاح.
حكاية الشاب الذى تفتق ذهنه عن بيع « الكتكوت الذى يرقص طوال اليوم» وفى ميدان رمسيس افترش الأرض ومعه مجموعة من «الكتاكيت الصغيرة» ونادى إنها ليست كتاكيت عادية، وإنما هى ترقص وباع عشرات منها كل كتكوت بجنيه، وكان للجنيه قيمة وقتئذ، لكن سرعان ما انكشف أمره عندما جاء أمين شرطة وكشف للجمهور أن النصاب يستخدم شمعة يضعها مستترة داخل صندوق ويلسع بها أقدام الكتكوت فيقفز الكتكوت إلى أعلى وكأنه يرقص.
وحكاوى جحا بهذا الصدد كثيرة أيضاً.
لكن لماذا انتشرت الظاهرة بعد الانفتاح الاقتصادى؟
- يرى البعض أن الفقر والاستبداد الذى عانت منه الطبقة الوسطى وفقراء الريف والمدينة بعد التخلى عن مبادئ ثورة 23 يوليو وإقرار سياسة الانفتاح الاقتصادى الذى وصفه أحمد بهاء الدين بأنه» انفتاح سداح مداح « كان وراء ظاهرة التحايل على الحياة حتى يستطيع البعض مواصلة الحياة فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، هذا بالنسبة للفقراء أما الأغنياء ففى ظل الاستبداد ينمو الفساد ويستخدم الفاسدون ذكاءهم وإن شئنا الدقة يمارسون الفهلوة والاحتيال والنصب لتحقيق الثراء السريع، والأسماء كثيرة للطبقة التى أثرت بطرق غير مشروعة طوال هذه الفترة.
وثمة ظاهرة تستحق أن نتوقف عندها ونحن بصدد رصد سلوك الفهلوي، حيث سعى البعض إلى سرقة الألقاب العلمية، فهذا خبير استراتيجي، وهذا خبير أمن عقلي، وعشرات من الحاصلين على ليسانس علم نفس من كلية الآداب أو التربية أصبحوا خبراء فى الطب النفسي، وعلاج المشكلات الأسرية، وآلاف ممن لا نعرف لهم شهادة علمية تؤهلهم أعلنوا عن أنفسهم خبراء تنمية بشرية، وآلاف أيضا منحوا لأنفسهم لقب دكتور دون أن يحصل على شهادة دكتوراة من جامعة حكومية، أو جامعة معترف بها، وزملاء كلية الجراحين البريطانية والأمريكية لا نعرف من منحهم هذه الزمالة، لقد وصلت مهزلة الألقاب أيضا إلى المناصب القضائية، لقب مستشار تمت استباحته أيضا، ولقب مهندس منح لصبى ميكانيكى لم يحصل على الإعدادية ولقب كابتن منح لسائق توكتوك.
بالفهلوة استخدم الفيسبوك لدعم المتعالمين فتحول الجاهل إلى أستاذ جامعة يمتلك الحقيقة المطلقة ويقدم الفتاوى والنصائح فى كل قضايا المجتمع، ويحافظ على الأمن العقلى والاستراتيجي، ولن ننسى المشايخ الذين هم ليسوا بمشايخ الذين غزوا الفضائيات وأصدروا عشرات الآلاف من الفتاوى التى أزعجت الأسر المصرية حيث أنصب معظمها على المرأة والعلاقات الزوجية.
إنها ظاهرة تستحق الدراسة، ظاهرة الفهلوة فى مجتمع يحاول اللحاق بالتقدم العلمى وتنفيذ خطط تنمية مستدامة حقيقية.
وأخيراً يجب إعلاء واحترام القانون والمعايير الأخلاقية لتصبح الحد الفاصل بين الذكاء والفهلوة والاحتيال.
أستاذ التاريخ جامعة عين شمس