منى عبد الكريم
«كانت تمطر ريشاً..عندما رقصتِ فى آخر مرة..لأنك تحولتِ من فرط الغبطة إلى حمامة.. وطرتِ»
أستعيد كلمات الشاعر العراقى عبد العظيم فنجان وأخال أن روح الفنان مصطفى الفقى التى غادرت إلى السماء قد تجسدت فى واحدة من تلك الحمامات المسكونة بالوداعة والسلام.. وقد كان رحمه الله ممن عشقوا الحمام الذى سكن وجدانه ورافقه فى رحلته الفنية فظهر بتجليات مختلفة فى لوحاته ضمن الكثير من الأعمال المهمة التى شكلت منجزا فنيا ضخما، إذ حفر الفنان مصطفى الفقى اسمه فى سجل الرموز الخالدين كما ذكر د. وليد قانوش رئيس قطاع الفنون التشكيلية، بما أسهم به بشكل كبير فى الحركة الفنية التشكيلية المصرية وبما تميز به طابعه ولمساته الفنية المتفردة، كما كانت حياته مثالا للمثقف والمبدع فحظى دوما باحترام كافة المثقفين والفنانين.
وقد كان الفقى مسكونا بمصر فسجل تفاصيل الأماكن التى مر بها، فللمكان أثر كبير عليه حيث ولد بمدينة طنطا بمحافظة الغربية وانتقل بعدها للإسكندرية قبل أن ينتقل للقاهرة ويعيش فى حى السيدة زينب تلك المنطقة الثرية بمفردات الحياة الشعبية والتى ظهر أثرها فى كثير من أعماله التى انحاز فى كثير منها إلى البسطاء والمهمشين الذين انشغل بهم وعبر عنهم ببراعة، وظهروا فى كثير من الأحيان وكأنهم مولودون من رحم النور النابع من أرواحهم الطيبة.
كذلك فإن جانبا مهما من تجربته ارتبط بإقامته فى السعودية لمدة ست سنوات حيث عمل أستاذا بالجامعة هناك، وقدم مجموعة كبيرة من الأعمال التى استلهمها من روح المدينة المنورة ومكة مقدما مناسك الحج تشكيليا ومنها رمى الجمرات والطواف وغار حراء.. تلك المجموعة التى عكست ذلك الحس الصوفى الروحانى الشفاف فى تجربته، والحقيقة أن لوحات الفنان مصطفى الفقى - الذى رحل عن عالمنا فى السابع من نوفمبر الماضى عن عمر 87 عاما - كشفت فى مجملها عن حس صوفى عميق فهى على تنوعها كشفت عما يتجاوز الظاهر إلى الباطن، فقد كان أسلوبه كما قال عنه من قبل د. خالد سرور قادرًا على جذب المُشاهد إلى ماهية الأشياء وليس شكلها الظاهري، وفق رؤية فلسفية وتأملات صوفية تخاطب الروح والوجدان.
والفنان مصطفى الفقى يعد أحد رواد الحركة التشكيلية المصرية، فقد تخرج من كلية فنون جميلة عام 1964، ومنذ ذلك الوقت وهو فى جهد مستمر لا ينقطع، فهو دائما يعمل فى حماس حيث أنتج عددًا كبيرًا من الأعمال متنقلا ببراعة بين الأدوات والخامات وكذلك المدارس الفنية. إذ يقول عنه الناقد محمد سالم: قدم الفنان مصطفى الفقى فى أعماله الفنية عبر مسيرته مع فن التصوير المصرى أسلوبا فريدا من الواقعية التعبيرية والتعبيرية التأثيرية والتى تعتمد فى صياغتها وتركيبها ومضمونها على الوجود الإنسانى والمتمثل فى تصوره للمحيط والبيئة فى زمان يؤكد موروثه الحضاري.. مضيفا أنه رغم انتقالاته المهمة فى محطات ومراحل تجربته الفنية والطويلة ظل اسم الفقى مرادفا بشكل رئيسى للمحطة الأكثر إنتاجا والأطول عمرا والتى اعتمد فيها واقعية تأثيرية خاصة وتعبيرية شرقية فيها تأكيد على التفاصيل التى استوحاها من التراث المصرى والعربى ومن روح الذاكرة الجمعية.
وأعمال الفقى شديدة الإنسانية كشخصه النبيل، الأمر الذى أكد عليه الناقد صلاح بيصار الذى ذكر أن أعماله تمثل حالة خاصة فى الفن المصرى المعاصر وهى تعد بحق فى عمق «التعبيرية» التى يقفز فيها الفنان بنفسه فى الفضاء التصويرى بمشاعره وأحاسيسه ليعبر عما يعيشه من خلال ما حوله من عناصر وأشياء وكائنات وما توحى به الطبيعة وصور الحياة اليومية، وأعماله تمثل إشراقة من التفرد فى فن التصوير بهذا العالم الذى يمتد من دنيا الحمام إلى قاهرة المعز التاريخية والتى جعل منها ببساطة شديدة أسطورة فنية فيها روح الحياة وبهاء العمارة التى تتنفس فى ملاحم من الأضواء والظلال بثراء فى التشكيل ورصانة فى الإيقاع ولغة لونية خاصة مع حركة البشر ممن يشكلون «عطر الأحباب» بالتعبير الجمالى ليحيى حقى.
والحقيقة أن عظمة الفقى وتفرده فنيا لا ينفصل عن إنسانيته الشديدة ورهافة إحساسه ودعمه الحقيقى لكل من عرفه، الأمر الذى تجلى مثلا فى تأثر الفنان أحمد البدوى بشخصه النبيل لدرجة أنه قام برسم أربع بورتريهات فنية له فى مراحل مختلفة كان أولها بخامة الجواش حيث رسمه ضمن أحد مشروعات الكلية بينما يدرس بالسنة الرابعة بقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة. ولكل بورتريه حكاية إذ يقول الفنان أحمد البدوى: «أذكر مثلا أنه كان دائم الجلوس على كرسى بقسم التصوير بجوار الشباك، لتسقط عليه الاضاءة بصورة ملهمة تضفى على شخصيته غموضا، وقد أحببت تلك الإضاءة وودت لو أسجل تلك الحالة فى أحد البورتريهات».
ويضيف البدوى: «تعلمت منه كيفية توظيف الإضاءة لخلق دراما فى اللوحات، ومن خلال النور وتحليل الشخصيات اتسمت أعماله بحالة من العمق كما كانت الأعمال تتسم بروحانيتها وصوفيتها».
ولعل السمة التى جمعت بين البورتريهات التى رسمها البدوى لأستاذه حين تأملتها هو ذلك النور الذى يشع من قلب اللوحات وكأن لسان حالها يقول إن بطلها هو ذاته مسكون بكل هذا النور. يقول البدوي: «لم يكن الفقى أستاذا فحسب بل كان بمثابة الأب بالنسبة لي، علاقتى به امتدت لأكثر من 17 سنة منذ أن التحقت بالكلية وتتلمذت على يديه قبل أن أعمل معيدا معه بقسم التصوير، وقد كان شخصية متفردة على الصعيدين الإنسانى والفني، فعلى قدر عظمته الفنية كان شخصية فى قمة التواضع، وكان محبًا لطلابه وللتدريس ولم يحدث أن تأخر عن المحاضرات أو الأيام العملي، بل كان يأتى باكرا ويقوم بمتابعة الطلاب عن قرب ولم يبخل بعلمه أو مساعدته على أحد».
ويضيف: «أما فنيا فكان رحمه الله شغوفا بالفن وبالتجريب وحين كنا نقوم بفرز وتصوير أعماله ببيته وشاهدت عددًا مهولًا من الأعمال سواء الاسكتشات أو اللوحات التى تضعه بحق فى مصاف عظماء الفن، وحتى مع تقدمه فى العمر لم يشكل الأمر له عائقا، فقد ظل يمارس الفن حتى اللحظات الأخيرة فى حياته، ففى زيارتى له قبل وفاته بعشرة أيام، وبالرغم من اشتداد تعبه كان متحمسا للغاية لتجربته الأخيرة التى يعمل عليها، وأطلعنى آنذاك على الاسكتشات، ووددت لو يتم عرضها بمعرض وهو ما طالبته به». ويرى البدوى أنه: «كان رحمة الله عليه «دينامو» وكان يعمل بكل جد فى هدوء بعيدا عن الأضواء، ولذا أرى أنه ظلم فنيا بعدم تسليط الضوء على تجربته بما يليق بفنه وأستاذيته».
الجدير بالذكر| أن الفنان مصطفى الفقى بعد أن تخرج فى كلية الفنون الجميلة قسم التصوير عام 1964، حصل على الدكتوراه من روما عام 1979، وأشرف على العديد من الرسائل العلمية وناقش الكثير منها كذلك بمختلف جامعات مصر، وقد أقام العديد من المعارض داخل مصر وخارجها حيث أقام معرضاً خاصاً بقاعة تابعة للفاتيكان بروما، ونذكر من معارضه التى أقيمت بمصر معرضه الاستعادى الذى استضافه جاليرى ضى تحت عنوان «بين الذاكرة والحلم» فى 2017، ومعرض «ذكرى المكان» بقاعة بيكاسو بالزمالك فى 2018، ومعرض «هديل الحمام» بقاعة (الباب - سليم) بمتحف الفن المصرى الحديث بدار الأوبرا المصرية فى 2019.