أحمد المدينى
لو جئتِنى الآن لأجلستك حيث لا أجد، لفرشت لك ما لم أجد. وغطّيتك، ورحلنا، سمعت أناملك تطرق باب القلب، ترغب، فهرع(تُ) إليك سريعًا ليفتح فلم يجدك، كنت بداخله، تشوشت رؤيته هو المغمور بك.
من غباء سألك يومًا عن اسمك، هو الذى يعيش بين تأرجُح الأسماء.
وكنت أنتِ، وآخر، وأُخرى، وجميعَ الخلق، ومن لم يُخلق بعد.
من يَعِزُّ على التسمية. عاليةٌ ملءَ الرحابة.
شعّ الضوء كلُّه منك، امتدّ حتى لا نهاية الشعاع.
البرق وقد تلألأ وشاحًا لسماء فوقنا مظلمة، دونها أرضٌ ظالمة.
الشمس تقبس منك ما به تُضىء تُضاء.
والاسم العَلَم، كيف وأنّى يسطُره حِبرٌ، هيهات!
الورق الأبيض لو خُطَّ عليه جُنَّ. ورق ذاهلٌ. هاربٌ فى الشوارع. كأنْ تخطّفه جن.
سمعوه جميعًا يهذى. الراغبون فيها، المكتوون بها. سعيرُها فيهم ولا من يُطفئ الغُلّة.
ورقٌ هائجٌ تغيرت سحنتُه. غاض ماؤُه. تورّمت أجفانُه. السُّهاد مثواه، وقتُه مداه كلُّه.
ساوموه، نعطيك غيرها. ـ لا. ـ نُعمِّر مضجعك بالغانيات، الفاتنات، ربّات الحِجال؟
لا ولا. ـ الجِنانُ الموعودةُ وما حوت؟ ـ ألف لا. لا أحد َسواها عِوَضًا.
ورقٌ يذرف الدمعَ، ثم ما يفتأ يغضَب، يصخَب، كالمتظاهر فى زمن الصمت الصّموت.
أضف إليه ألفةً مبرمةً بمواثيق الدم المغدور.
أين رأيتم شيئًا من هذا؟ هنا، عندكم، طبعًا. ـ هنا؟ أين يوجد هنا؟ ـ أنت، إذن، تمزح!
لا. بلى، يوجد فى هذا الهُنا الفاردِ جناحَيه علينا. مختصٌّ به، يراه وحده، لذلك لا يرى.
انظروا، من أعالى البحار إلى قيعان الفيافى حيث لا شبرَ لا ركنَ يلوذ به نزف دمه. الناطق باسمه وحده يعرفه. كذا، المتأبِّط دمه، المرتدى كفنه، يمشى ويمشى إلى أن تُسعفه جثته.
لن يُسعِفه أحدٌ منّا. فات أوانُنا. توافقنا من وقت بعيد على محو الأسماء، وزدنا عليها أجرًا:
شيَّعنا نسياننا فى اضمحلال الذاكرة، وأعفيكم مما حوته الأوراق والمحادثات من الكلمات المقيتة وعناوين يَحسُن السكوتُ عنها لن تغفلها عينُ الرقيب، معها احتمال أن تُقصَّ الرقاب.
لو جئتنِى الآن، لوجدت النهر فى انتظارك. ما إن تُهلِّين يخشع لرؤيتك. هوla seine. أجل.
يصبح لك وحدك. بقدومك سنُعمِّده إن شئت باسمك. سيهجُر حبَّ المدينة التى أنشأها الرّبُّ مجدًا للعراقة ومعبدًا للجمال. لن يشفع البتّة لُمدُن القبح والأضرحة المحنَّطة الأخرى.
من لك. اختارى وحدك من أين تمخُرين عُبابه. يقينًا، لن تضِلّى منبَعَه، مجراه أو مَصبَّه. فحيث تنظرين يكون. تشيحين عنه يزول. المدائن القديمة ستنهض من رُقادها. سيتحرر التراب قليلًا من إدمان الأبدية. ستتوحّد العناصرُ الخمسةُ فى صحوة نَحسبُها كمال القصيدة، وليس للقصيد اكتمال. وجهك أفقٌ للأخيلة وسماء تحلق بالاستعارات.
الأحلام التى تلاعبت بخيالات طفولاتنا سنراها تمرَح ونحن خلفها نتأرجح. افتراضُ أسرابٍ لا تتوقف عن الطيران. قبائلُ اقتتلت مدى الدهر ولا دِيَّة تُعوِّض ثأرها المفقود. النّدى جمعٌ هو مفردُك يمسِد وجنةَ البرُعم.
تماثيلٌ هي، ملائكة حدائقles tuileries ارتعشت فى أطرافهنّ أرواحُ الأزل، فطفقن يمشِطن سوالفهنّ انتشرت ضبابًا خفيفًا تخلّل هواء ساحة Trocadéro. بقُربهنّ النهرُ تحت جسره يحسب ماؤه أنه يعبُر دونه لم ترقُبيه يجرى فيك. نهرُك. فخفَقن بأجنحتهنَّ فوقك.
حولك. سربُ حمام أو ربّما يمامٍ، وعيونُهن البلّورُ تقود خطوتك. ينتظرن الصورَ الفائتةَ. جميعُها تنتظر هبوبَك. إقبالك على ارتداء النهر. السّين أنشودةُ حنين. على ضفتيه باريس تنضو عنها ثيابها قطعةً، قطعة. تَعرَى. ولها تولُّهٌ حين غدا فى بؤرة المشاهدة.
قلت هُيام، سلام، فأوشك الكلام على الرفيف. أوشكنا معًا على احتساء الغيمة الماطرة، قبل العبور نحو هذه الضفة المِحرقة. لم نجد غيمًا هنا حين وصلنا. ترابٌ كالحٌ، ووجوه أكلحُ منه. تناسخٌ للعمر من شحوب الوقت. ازدراءٌ هذا أم زمانٌ مقبرة لطَمر رماد الأنام. علّ الريح قليلًا تستريح من عُواء لها فى الفناء.
رائحتانا، لو تعلمين، ما زالتا على الجدران معلقةً. مبهمةٌ فى شقتنا ب Neuilly –sur-Seine . مبهمةً كانت مثل نظرة la jocande. نافرة. جامحة. ولا فتكة Guernica. النظرات تُرى مبصومةً على المائدة. فرشاة الأسنان، رنينُ الهاتف لضمير الغائب. أو جرسُ الباب يثير هواجس فى الرأس وقلاقل فى القلب، قبل أن يكُفّ، إذ يتدلّه بسماع الصوت: وعلى الستارة لو أزحتَها تدفقت زهراتُ حديقتنا التى تحبّين. غرسناها معًا ووهبنا للأغراس أسماء الشعراء. ولكل مشتَل نعوتَ الحِقب الأدبية والتشكيلية.
الفصولُ وحدها لم نكن نسمّيها فنحن كُنّاها. وأجملُ ما فينا، منّا، الخريفُ بداهةً. الربيع طبعًا يغار من الأصُص عند مدخل الدارة. أسلسُ من هواءٍ يحُفُّ بثوبك يصبح. ترتفع الأصُص إليك وتعود تنحنى وماءُ الإبريق يندلق عليها، سقياها من عينيك لترينها تراك. الشتاء فى « Neuilly-Sur-Seine»غيرُه فى باريس الضّاجّة. سبع سماوات طِباقًا رمادًا. حبالٌ غليظةٌ تتدلّى من السماء تلفُّ الأعناق. لكنه رمادٌ مفروكٌ وصائت.
غبشُ مِلحٌ فى الصباح، وهو مضىءٌ فى الدواخل. قدَحُ نبيذ لشريحة فى الظهيرة، وفى الليل يكفى كونشرتو لدخول خِدر الحبيبة؛ فما أعذبه من رماد. وأعرفه رغم هذا الحُسن يغار من فحيحٍ سيسمعه بعد قليل. متلصِّصًا من العتبة. جهنمّ ُالداخل هنا أبردُ وأسلَمُ من حريق تلك البلاد. رويدًا، رويدًا، تسلّلت النغمة من أقصى الرّدهة. هذه نغمتُنا وحدنا من إهداء Chopin. كل مساء نسمع قُدّاسًا نهديه روحيْنا لتتشبّثا بالأرض ما أمكن، ما دام لا حواجز، الطريق سالكةٌ إلى السماء.
وهو أمرٌ مختلفٌ عند جارتنا الفيتنامية سونغ، تعزف دائمًا لحنًا لـBach ترحُمًا على ابنها الذى افترسته الإبادة الأمريكيةـ طبعًا، حدث هذا قبل أن يصبح البيت الأبيض هو الوكيل الشرعى لتحرير الشعوب من العبودية والدكتاتورية وينصب كاميرات فى الشوارع وتحت الوسائد لمراقبة التطبيق السليم لحقوق الإنسان، وهلمّ جرًّا(!).
تقول إنه عزفٌ آتٍ من العالم الآخر، لو عرفناه. وفى الخارج للريح صفيرٌ بعد أن تعوى وهى تهمَد يُسمَع صوتٌ مثل نحيبٍ يتلاشى. بوسعنا هذه الليلة أن نجوب دهاليز. بوسعنا هذه الليلة، كلّ ليالى الشتاء، أن نجوب دهاليز العالم السفلى، وأن نصقُل لآلئ رؤانا بنظرات مرتبكة منها إِلى منِّى مثل يافعَين يجترحان القبلة الأولى. يهبط الصمت ملاكًا وينشر عليهما بياض السلام.
اطرُد من حولَك يلغو وأنت تقرأ هذه الكتابة بصمت. كم قلت للضّاجين، الزّاعقين، إن القصيدة هديلُ الصمت. فإن لَغَت فلا شعرَ فيها، وهذا أحدُ وجوه الخلاف بينى وبين الصراصير. يقينًا إن للشعرـ مثل البيت الحرام - ربًّا يحميه، لكنى بتُّ أخشى عليه من طول المفسدة وخروج أنياب الأرضة.
اعطِ للكلام شساعةً فى صدرك. تنفّسه كأنه ريحُ الصَّبا. وافسِح له فى المجلس. حبيبى تعال هنا، فهذا مجلسك. زيّنتُ المائدة المهاجرة إلى السّين بصُحَينات ملؤها زيتون وفستق، ولوز، وحلماتُ رمّان، ومذاقاتٌ صينية، مع رخويات. وحملت مبخرةً ضاع منها المِسك والعنبر، ولم يكن ينقص كاحلها وهى تغدو وتروح سوى خلخالٍ يرنّ بإيقاع.
ثم إنها انتبذت ركنًا ففتحت الكتاب المعلوم. من عجبٍ فتحته على صفحة بيضاء وهو المكتوب. قالت ابْر قلمَك قبل أن أغلقه، تعال سطِّر كلمتك قبل أن يعبث به العابثون، «صمٌّ بُكمٌ عُمى فهم لا يعقلون» ويُحفظ إلى الأبد، عندئذ يفوتك الوجود، ومن غاب عنه هو غير موجود. فوالله ما إن أوشكتُ على فعلى، أو لعلى فعلت، حتى فاضت مُهجتى، كذلك مهجتُها معى، وبارحتْ مكانها، رغم أنى واصلت بعد ذلك رؤيتَها وهى تغدو أمامى وتروح. تارةً مفردةً، متجرِّدةً، أخرى متماهيةً مع باريس(نا)، لا فكاك منها ولا منّى أنا؛ وطورًا، طيفًا بكل ألوان الطيف واختلاجاته. له مطلق الحلول بين الحضور والغياب.
له صفاءُ الصورة، رقّةُ الأثير، شطحةُ الرؤيا؛ جذبةُ المأخوذِ عن نفسه، المأهولِ بسِرٍّ مكنون، يسمع، أسمع، كلانا نسمع هلاك هوانا. يصدُر الصوتُ عنّا، ويرتدّ الصّدى إلينا. نرى انسياب السّين نحو منبعه ونحن نسبح فى مجراه، نمرُّ تحت جسر AlexandreIII، ثم التقطنا نَفسًا، الحق، قطفنا قبلة ًتحت جسر Le pont neuf، وأرسلناها تحيةً بأكُفِّنا إلى المبنى الشامخ La samaritaine.
وعند ضفة كنيسة Notre dame تلَوْنا بسماحٍ:« بسم الآب والابن والروح القُدس»، وفى خطّ العودة جسدُنا صار سفينةً منها تلوْنا بانشراح: « بسم الله مجراها ومرساها» فمشت بإذن ربّها سَرَت فى عروقنا غبطةٌ وشعورٌ أننا جعلنا الأديان تتحابّ.
والآن، وقد طاف المنادى يستنفر الأحياءَ قبل الأموات، معلنًا حولنا ما هلك أو تبقّى من الأسماء، أعود إليكِ وما فارقتك قطّ. استخرجتك نُطفةَ الدم الأولى التى بها وُلِدت، ثم كبرق سحابةٍ لم تمطر اختفيتِ، ما رأى، درى، خمّن أحدٌ كيف ولِمَ اختفيت. انتظرتُك وهمًا طويلًا فى مقهاك، مكثت طويلًا وما عيل صبرى. يجلب لى النادل يختلس إلى سحنتى متعاطفًا الفنجانَ تِلو الفنجان، فأرى صورتك فيه، تشْخَصين كأمس قبالتى فأراها وُعولًا تركُض فى عينيك كلما أوشكتُ أن أحبِسك مطلقًا فى هوانا، وأفهم متأخرًا أنك عدت إلى غابتك طليقةً بينما أبقى هنا الأسير.
يعود إلىَّ النادل وقد طال مُكثى، يهمس: قم أيها السيد، سنغلق الآن، وانتظارُك هنا لا معنى له لأنى رأيت المشهد بعينى هاتين، محال أن يأتى/ تأتى من تنتظر، وأيًّا كان هو ليس «غودو». أنت مثقف لا شك، تعرف المسرحية، أنا شاهدتها وغادرت وسط العرض، لأنى متعوّدٌ فى عملى على مشاهده ، ولا أفهم الذين يصفونها بالعبث، أنا هو الخبير فى العبث عندى ثلاثين عامًا خدمة تعلمت الكثير من طلبة السوربون القريبة من هنا، هل أنت أستاذ فى السوربون أم أفلت منك الزمام؟! هنا خطر ببالى أن أنبهه أن بعض المسلمين يقضون حياتهم فى الانتظار ولا يملّون، وأن شعوبًا كاملة تنتظر لا المنقذ من الضلال.
كما فى بعض أدبيات الأديان، ولكن المخلِّص من الحِطّة والهوان. ازدحمت عند باب رأسى الأفكارُ وفى نفسى الهواجسُ المشوّشة، وقبل أن أحسم أمرى معها صدر الأمر المحسوم من النادل وهو يطفئ الأنوار. قمت مطوّفًا شارع Saint-Germain وما تفرّع عنه من أزقة وزوايا رغم ما يسببه لى هذا من شجن واكتئاب. كنت سيدَ المكان فى شبابى، وما زلت أتوهّم أنى مُتوّجٌ هنا فى مملكة الراحلين والأشباح، رغم الرأس منى اشتعل شيبًا. ما همّنى بعد أن يتسلّق الأغرار شجرة الأنساب، ولا أن تموء القطط وهى تتنازع على العفن.
بدت الطريق التى شققتُها نحو نَسَب الغريب طويلةً مبتداها فى عُروة الستينات، هناك فى جبل «ظهر المهراز» كان ثكنةً عسكرية فرنسية ونقل إليها بعد الاستقلال وزير للداخلية الطلابَ من الرباط إلى فاس كى لا يكونوا مشاغبين، فخاب مرادُه وانقلبوا متمردين. من هذا المرجل قبست جذوةَ الرفض والغضب. فى فاس التى لها فى القلب منازل زادتها الدار البيضاء اشتعالًا ولهبًا فهى مدينة العمال والمقاومة قبل أن تُمسخ متروبول الدّعة والسماسرة والأموال.
لذا، نحن لا يمكن ولا نستطيع إلا أن نكون أبناء أمس، لأن أمس حقًا كان، واليوم لكم أن تسمُّوه ما شئتم وليكن الهوان. منذ ذلك التاريخ الميلاد، بعد أن سِرت فى جنازتين: أبى والشهيد، وأنا فى كلّ خطوة يغدِق على من وله البحث عنه، فلأسلك إليه، نحوه، خرائطَ كل المدن. بعد الدار البيضاء، باريس أضحت عندى قلبها.
وكلما رأيت قبوًا، أو قبرًا، أو مطمورةً، أو نفقًا، أو جنائنَ مشانقَ معلقة، أو بنادقَ مصوّبة، أو خيلًا مُسرَجةً، أو جموعًا محتقنه، أو أسرابَ حمام فرحٍ محلِّقة، أو شوارعَ تحمل أسماء ملفقة عوض الرموز المقلقة، أو دمًا هو لى بعلامة اسمى يستصرخنى يبغى افتداءه.. قلت هو.
سأظل أقول، أصرخ فى البرارى حتى بلا حياة لمن أنادى: هو. الضمير الحاضر ما غاب قطّ. سيظل أناى، مثلها أنا(هى)، تلك الغاوية، نارى فما أحلاها الحامية. سأظل أقول وأترنّح بنسوة مازوخية فوق حُمَمٍ بُركانية فى هذا الزمن الماحق الذى لا سبيل فيه للنجاة من الحريق، هو الزّادُ، وروح البلاد، والرحيق .
هذا بعض سيرتى ومذهبى، ولا شفيع لى فى العيش بدونه غير قول شيخى سميِّى أبى الطيب المتنبى:
« لا الحِلم جاد به ولا بمثاله/ لولا ادّكار وداعه وزِيالِه
إن المعيد لنا المنام خيالَه/ كانت إعادتَه خيلَ خيالِه»