الساحات تؤدى دورا اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا ونفسيا فهى مكان فضّ المنازعات الثأرية والمشكلات الطارئة بين أطياف المجتمع .
هل هذه الألعاب عادية؟
دعانى ابنى لمشاهدة مباراة مايك تايسون وجيك بول واستجبت له على مضض فما الذى يجعلنى أشاهد «مَقْتلة» بين اثنيْن يكيل كل منهما لَكَمات شبه قاتلة للآخر وقد سبق هذا النزال المرتقب مباريات بين ملاكميْن حوّلت لكَماتُهما وجهيْهما إلى دُمى تغطيها الجراح والدماء، ثم جاءت ملاكمتان كانتا فى غاية الجمال فصارتا فى أثناء المباراة مَسْخا من القُبح الدامى بل إن إحداهما لكَمت الأخرى فى حاجبها فتساقط حاجبها الأيمن فوق عينها فى جرحٍ غائر ظل ينزف طوال المباراة واضطر الحكَم الذى أُشفقُ عليه إلى استدعاء طبيب، والعجيب أنه أكمل المباراة والدماء تغطى وجهيهما، هل رؤية الضرب تُبهج المشاهدين وتفرحهم؟ كيف تتحقق الفرحة مع الفرجة على الوجوه الدامية والضلوع المُكسّرة والأرجل والأيدى المُخلَّعة؟ أين تكمن البهجة؟، أتذكر أنى حضرت مباراة فى حلَبة الثيران بالأندلس كان الصراع مدوّيا بين الإنسان والثوْر الهائج الذى يجرى نحو الخرقة الحمراء التى يلوّح له بها المقاتل وبعد كرٍّ وفرٍّ يدخل الفرسان فوق خيولهم ليمطروا هذا الثور المُتعب من الركض والدوران فى الحلبة، يمطرونه بالسهام فيخرّ صريعا، وقد زرتُ متحفا بالأندلس يحتفظون فيه بصور الرجال الذين قُتلوا فى حلَبة السباق وبرءوس الثيران التى قتلتهم.. ما هذا العنف، لقد كان الأمر فى العصور السابقة أسوأ حيث كان الناس يجتمعون لمشاهدة مباراة بين رجلين لا تنتهى المباراة إلا بموت أحدهما هل لدى كل منا ساديّة مخبوءة يودّ تغذيتها بمشاهدة المصارعات الدموية؟ والجمهور يصفق فرحا بينما تغطى الدماء وجوه المتصارعين الذين يفقدون حياتهم وعيونهم من أجل بضعة ملايين وتصفيق المعجبين والمعجبات؛ ولم أستطع أن أشاهد مباراة الرجل العجوز مايك تايسون وجيك بول فتركت ولدى يكمل المشاهدة وخلدت إلى تفكير عميق «وللناس فيما يعشقون مذاهبُ».
بالمندرة عزاء شقيقة الإمام الأكبر
فى ساحة الشيخ الطيب الحسانى بالطارف بالأقصر أقيم عزاء شقيقة فضيلة الشيخ محمد وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب الحسانى حيث يجلس الجميع على «دِكَك» من الخشب يجلس عليها الوزراء والسفراء والفقراء جنبا إلى جنب وقد أراد الشيخان أن يضربا مثلا فى الأصالة والتواضع والزهد فقد كان بوسعهما إقامة العزاء فى قاعات وفنادق النجوم السبعة والسبعين نجمة لكنهما لم يبرحا الساحة التى وفد إليها الناس من كل صوب وحدب حيث يجلس الجميع ذاكرين الله تعالى مستمعين للقرآن الكريم فى خشوع يحيون الجميع فى محبة وود، فهل يصل هذا الدرس إلى المتباهين فى الجنائز على حساب مال الورثة الذين يكونون صغارا وإذا بهم يكتشفون عندما يكبرون أن جنازة والدهم صرفت الآلاف وربما الملايين؛ جلس الشيخان يستقبلان المعزين وفى تواضع يقفان احتراما للكبير والصغير. الساحات تؤدى دورا اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا ونفسيا فهى مكان فضّ المنازعات الثأرية والمشكلات الطارئة بين أطياف المجتمع وبها راحة الأرواح بالذِّكر والصُّحبة الطيبة ومجالس العلماء وهى ملتقى الناس مع شيخهم وإمامهم الذى يستمع إليهم فى إنصات ويحل مشكلاتهم بكلمة منه فهو محل احترام وإجلال بين الناس فلا يحكمون إلا بعدل ولا يقولون إلا حقا؛ الساحات جلسات علاج نفسى لكثير من الناس وملجأ ذوى الحاجات الذين يعودون فرحين فقد حُلّت مشكلاتهم؛ هل هناك حصر بعدد الساحات فى مصر؟ لم أعثر على إحصائية، لكنها بالمئات وأحرى بالدولة أن تدعمها ماديا ومعنويا فهى تحمل عنها أعباءً تنوء بحملها؛ عودٌ إلى هذا العزاء الدرس الذى طبّقه مولانا دون كلمة واحدة، فرحمات الله تعالى على الفقيدة وعزائى القلبى لآل الطيب الحسانى الذين لقّنوا المُرائين والمتفاخرين بالجنائز درسا لن ينسوه.
«خلَفَ الله يا مُحبين»
هكذا كانت الأفراح تُقام بصعيد مصر، بتجمّع الرجال فى «مندرة العائلة» مُهنّئين آل العُرس فى فرح وسرور، قبل يوم يقام فى بعض الأفراح مرماح الخيول ويتسابق الشباب فى القرية والقرى المجاورة لمجاملة العروس وعلى وقْع المزمار البلدى ترقص الخيول فى منظر لا يُنسى وفى الليل يتجمع الناس بالمندرة ويتناولون العشاء وبعد انتهائك من العشاء تجد الطاهى وقد أحضر صحنا كبيرا مُغطى بفوطة وتدس ما تشاء من نقود فى هذا الصحن.. لا أحد يعرف كم أعطيت؟ قد يكون المبلغ قليلا أو كثيرا لكنه «جَبْر الخاطر» وكلما دسست يدك فى الصحن شكرك الطاهى بصوت مرتفع قائلا «خَلَفَ الله يا مُحبين» وبعد زفاف العروس وتوصيلها لبيت زوجها يدخل أهلُها ليسلموا عليها ويهنئوها ثم «يُنقّطونها» أى يعطيها مالا فى نظام اقتصادى رائع، فالعروس فى حاجة إلى المال لمصاريف العُرس وما تجمعه فى يوم الفرح سيرده أهلها فى مناسبات سعيدة أخرى للدافعين وكأنها «جمعية» غير مُعلنة فى تكافل اجتماعى آمل أن يستمر وأن نعود إلى أفراح المنادر التى لا تكلف إلا قليلا قياسا إلى ما يُنفق فى الصالات والقاعات بالفنادق الكبرى وهذا أمر ينبغى أن نفكّر فيه برويّة، فالشباب لا يستطيع الزواج لما يُنفق فى ليلات الأفراح إلى حد يصل إلى السّفَه والإسراف؛ يسّروا نفقات الزواج حتى يتزوج الشباب وعودوا الى المنادر؛ يسّروا ولا تعسّروا.
محمد إبراهيم أبوسنة وداعا
يترجل الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة عن صهوة جواد الشعر إلى ملكوت الجمال الذى ظل طوال حياته ينشده شاعريةً وسلوكًا، لم يدخل فى صراعات تستنزف الوقت والعمر لأنه ظل مبحرا فى شعره، حينما دعوتُه مع الشاعر الراحل فاروق شوشة والروائى الراحل جمال الغيطانى والإعلامى الأستاذ مصطفى عبدالله، كان المسرح فى كلية الآداب وكليات فرع جامعة أسيوط بقنا يعج بالطلاب والأساتذة الذين عاشوا مع تجليات الغيطانى وشاعرية أبو سنة وحضور فاروق شوشة الشعرى والنقدى وإضاءات مصطفى عبدالله وبلاغة الإعلامى الكبير الفصيح الأستاذ فهمى عمر الهمامي، وحينما قرأ أبوسنة قصيدته «غريبٌ أنى من قنا» وقف الطلاب مصفقين له لإحساسه الشاعرى وجمال إلقائه كان أبوسنة حالة شعرية؛ جاء طيفا شاعريا وألقى علينا قصائده ومضى، ألقى علينا درسا سلوكيا كيف يترفع الشاعر عن الصغائر ولا يلتفت إلى النبّاشين الذين لا ينجحون فى شيء ويُميتهم أن ينجح الآخرون، فى حفل تكريم الحاصلين على جوائز الدولة بحثت عنه كى أسلّم عليه، لم يجئ وكانت ابنته التى استشعرتُ من كلامها أنه فى «عافية»؛ قُبيل فترة هاتفنى فى حوار طويل حول الشعر والصعيد وفى نهاية المهاتفة قال لي: «لا تنس يا أبا الفضل أنى أحبك» ولم أكن أدرى أنها جملة الوداع واليوم أقول لك: يا صديقى الأعز إنى أحبك، فإلى لقاء.
فى النهايات تتجلى البدايات
قال الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة:
البحرُ موعِدُنا وشاطئُنا العواصفْ/ جازفْ فقد بعُد القريب ومات من ترجُوه واشتدَّ المُخالفْ/ لن يرحم الموجُ الجبان ولن ينالَ الأمنَ خائفْ/ القلب تسكنه المواويل الحزينة والمدائن للصيارف/ خلَت الأماكن للقطيعة من تُعادى أو تُحالف؟/ جازفْ ولا تأمنْ لهذا الليل أن يمضى ولا أن يُصلحَ الأشياءَ تالفْ/ هذا طريقُ البحر لا يُفضى لغير البحر والمجهول قد يخفى لعارفْ/ جازفْ فإن سُدّتْ جميع طرائق الدُّنيا أمامك فاقتحمها.. لا تقف كى لا تموت وأنت واقفْ.