قبل نحو 44 عامًا، أجرى الكاتب الصحفى الراحل مأمون غريب، حوارًا صحفيًا مهمًا نشره فى باب «كلام فى الأدب» بمجلة «آخرساعة»، مع العالم الكبير الدكتور مصطفى محمود (27 ديسمبر 1921-31 أكتوبر 2009)، كان أشبه بـ«جلسة روحية» أضاءت مساحات عريضة من رؤيته كأديب وفنان وعالم.. نص هذا الحوار النادر نعيد نشره باختزال وتصرف محدود فى السطور التالية:
الدكتور مصطفى محمود كاتب وأديب وفنان وعالم، يحاول أن يجعل العلم والفن فى خدمة الدين أو بمعنى آخر وسيلة لفهم الدين فهمًا مستنيرًا، ومن هنا تحمس له البعض وهاجمه البعض أيضًا.. بعضهم رضى بمنهجه والآخر هاجمه بعنف، لكن مهما يكن من شيء فالرجل علامة من علامات فكرنا المعاصر، له اجتهاداته، وله أفكاره، وهو على كل حال يريد أن يقدم من خلال إنتاجه الفكرى ومن خلال ممارسته العملية فى الحياة خدمة للإسلام وللمسلمين.
◄ سألت الدكتور مصطفى محمود عن آخر أعماله الفنية فقال:
• «نار تحت الرماد»، عن موجات التطرف الدينى فى العالم، وأريد أن أقول فى هذا الكتاب إن التطرف وليد ظاهرتين، ظاهرة مادية عارمة وفساد استشرى فى العالم كله من ناحية، وعطش دينى عند الشباب من ناحية أخرى مع غيبوبة المؤسسات الدينية وعدم محاصرتها للمشكلة.
◄ اقرأ أيضًا | فى ذكرى رحيله: اعترافات محمد مستجاب الكاذبة وتحولات مصطفى محمود!
◄ هل يمكن أن يوجد جسر بين الفن والدين أو بمعنى آخر هل يمكن أن يقوم تعايش بين الدين والفن؟
• لا بُد أن يكون هناك تعايش بين الفن والدين، وهذا التعايش كان دائمًا علامة التقدم الحضارى، فنرى مثلًا فى مصر الفرعونية الفن يضع نفسه فى خدمة الدين، فنغنى الأناشيد ونكتب الكتب ونبنى المعابد وننحت التماثيل ونرى حتى الرقص شعيرة دينية.
ونرى فى مرحلة أخرى فى أوروبا كبار الرسامين مثل روفائيل، ومايكل أنجلو، يرسمون التحف البديعة ويجملون الكنائس، ونرى موسيقارًا عظيمًا مثل هاندل يكتب الألحان للقداس، ثم عندنا نحن فى الإسلام ماذا تكون المساجد إلا تحفًا من الفن المعمارى، ثم ألم يبارك النبى عليه الصلاة والسلام الخنساء ويستزيد شعرها ويقول لها: إيه يا خناس.
وكيف استقبلت المدينة النبى عليه الصلاة والسلام، وهل كان استقبالها إلا أناشيد وأهازيج وأغانى ودفوفًا، فهل زجر النبى اللائى يغنين وقال لهن قرن فى بيوتكن ولا تغنين!
إنما يختصم الدين مع الفن الهابط فقط.. فن الكباريه والهزليات التى تقتل أوقات الناس بلا فائدة والبروجرام الفاحش والغناء المبتذل، وقد ذم القرآن الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، لكنه مدح الشعراء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهذا الاستثناء ينسحب على الفن الخيِّر بإطلاقه.
ثم إن الأحاديث التى تحرِّم الصور إنما تحرم الصور التى تُعبد، أما الفن الجميل الذى ليس فيه شبهة شرك فلا ينسحب عليه الحديث، هذا رأيى والله أعلم.
◄ هناك من يعترض على تفسير القرآن بواسطة العلم، على أساس أن العلم أو نظريات العلم قابلة للتغيير بينما الحقائق القرانية حقائق ثابتة؟
• ليس العلم كله مستنيرًا إنما الجانب المتميز هو النظريات والفروض، أما الحقائق العلمية فهى ثوابت، فالماء يغلى فى درجة مئة، والمعادن تنكمش بالبرودة وتتمدد بالحرارة والأرض كروية، وتلك الثوابت لن تتغير، لن تصبح الأرض فى يوم ما مثلثة أو مربعة، وهذا الكلام دائمًا عن الحقائق وليس على الفروض.
◄ هل لو عدت من جديد فاخترت طريق حياتك أو استقبلت من أمرك ما استدبرت كما كانوا يقولون، هل كنت ستبدأ الرحلة بنفس الطريقة من الشك إلى اليقين؟
• لو بدأت من جديد، فلن أبدأ من الشك، لأننا كنا فى حرف الألف، أما الآن فلعلنا قد وصلنا إلى حرف الدال أو الراء، ومن هنا نبدأ، وأنا لا أحاول أن أعتسف فى حياتى، لا أفتعل شكًا وأنا أنساب مع فطرتى وعقلى.
◄ عندما تقرأ كتب الصوفية ألا تشعر بأنها مليئة بالألغاز أو الرموز التى يصعب فهمها؟
• قراءة كتب التصوف بالنسبة لى راحة، وألغازها تفضى إلىّ بإلهامات جميلة ومعانٍ جديدة، فهى مفاتيح أكثر من كونها مغاليق، وقراءة كتب التصوف هى جلسة سر مع أهل السر، لها جمالها وخصوصيتها، وهى نوع من الهمس فى عالم من الصخب والضوضاء والغلظة.
◄ تمر على الإنسان لحظات يراها أسعد لحظات حياته، ما هى تلك اللحظات فى حياتك؟
• حين يوفقنى الله فى عمل شيء، أو أن يورد على خاطرًا جديدًا، أو يشرق علىّ بفكرة، أو أن يلهمنى بمقال أو كتاب، أو أن يصدنى عن غواية، أو يقيمنى خاشعًا فى صلاة.
(«آخرساعة» 16 يوليو 1980)