■ بقلم: صبحي موسى
تهزنا الريح الخفيفة ونحن فى طريقنا إلى المدرسة بمرايلنا التيل الصفراء، مرايل قام بتفصيلها أخى الأكبر
• الثلاثاء
◄ كوخ صغير
كان بيتنا فى وسط غابة من الأشجار، نعم غابة بالمعنى الحرفى للكلمة، فثمة أشجار كانت تحيط به من جميع الجهات، أشجار طويلة وممشوقة كأنها تسافر إلى السماء، وهو صغير ككوخ مكون من غرفتين وفسحة صغيرة، لكنه مليء بالأشباح الصغيرة. لا أعرف ما الذى يجعلنى أتذكره الآن، كان صغيرًا للغاية، ربما بحجم راحة يد، وكان يهتز فى الشتاء من حركة الأشجار بجانبه، لم تكن حركة بالمعنى الحرفي، لكنها كانت زلازل متوالية، خاصة فى أشهر الشتاء العظيم، طوبة وأمشير، حيث الريح التى تضرب بكل قوة، فيميل الشجر كما لو أنه سيقتلع من مكانه، كنا من الفزع نمسك بأجساد بعضنا، على وجه التحديد كنت أرتعد من فكرة أن تقتلع الريح البيت وتقذف به بعيدًا فى الحقول، كنت أبكى بصوت مكتوم من هذا المصير الذى يشبه مصائر الأشباح فى حكايات أمى وجدتي، لكن مع الصباح كل شيء يتوقف، أو على الأقل يبدو مقبولًا، حيث تخفت الريح، ولا تصبح أصواتها كأصوات الشياطين، وتنشر الشمس أشعة دافئة فى كل الأماكن، وأمى تتحرك ما بين حظائر الدجاج والأوز والبط والماشية التى تخرجها إلى مرابطها فى ضوء الشمس الذهبي، حيث الندى ما زال عالقًا على أوراق الزرع والحطب والثرى الناعم، بينما أبى يتمطى فى سريره كأنه طيلة الليل يجاهد، وآن له الآن أن يخلد إلى النوم.
• الأربعاء
◄ اصوت أمي
صوت أمى يملأ الكوخ الذى كنا نسميه بيتاً، تنادى علينا كى ننهض، قبيلة من الذكور ليس بينهم سوى أخت واحدة، بينما أختان أخريان تقيمان فى بيتى زوجيهما، تتأفف أختى كثيرا من فكرة أنها الأنثى الوحيدة بجوار أمى فى البيت، بما يعنى أن عليها مسئولية المساعدة فى كل شيء، يكفى أن تغلى الماء كى نغسل وجوهنا وأيدينا فى الصباح البارد بماء دافئ. والدى حريص على الصلاة، لكن ليس كحرصه على إسباغ الوضوء على المكاره، رغم أنه بالأساس لا يحب المكاره. أخى الأكبر هو المناضل الأعظم، عادة ما يكون قد غادر البيت فى الصباح الباكر جدا، الوحيدة التى تراه فى خروجه هى أمي، أحيانًا كنا نراه حين نستيقظ لصلاة الفجر، أو اللحاق بالمدرسة فى توقيتها الصحيح، نلمحه واقفًا على ناصية الطريق فى انتظار مرور سيارة صاحب العمل، كى يلتقطه هو وثلاثة آخرين ممن يعملون فى حقله، لكنهم فى نهاية المساء يعودون وحدهم سيرًا على الأقدام.
• الخميس
◄ قطرات الندى
يستيقظ أبى فى الصباح على السابعة والنصف، فقد تشبعت أعضاؤه بدفء الفراش، وبددت الشمس كل آثار البرودة التى على أوراق الشجر، يلملم عباءته بكسل واضح، وينخع نخامة طويلة كانت تبيت فى حلقه طيلة الليل، يبصقها بعيدا إلى جانب الباب، بينما الراديو يصدح بصوت سلوان محمود «قطرات الندى»، وضحكة إيناس جوهر وهى تردد رباعية صلاح جاهين (غمض عينيك وامشى بخفة ودلع، الدنيا هى الشابة وانت الجدع، تشوف جمال خطوتك تعبدك، لكن انت لو بصيت لرجليك تقع) وعجبي.
• الجمعة
◄ يربح بقرة
لا يعير والدى المارة انتباهًا، يولى وجهه شطر بيتنا الذى لم تعد تهزه الريح، باحثا عن آنية تكفى لحمل ماء الوضوء، يضرب طلمبة المياه بضع مرات، ويسم الله رافعًا كُم جلبابه الطويل الواسع إلى ما بعد المرفقين، طالبًا من الله المغفرة والرحمة لوالديه، ولابنه الذى مات منذ سنوات صغيرًا، طالبًا الستر فى اليوم المشهود، ثم يلحق بالمسجد سريعًا قبل أن يصعد الخطيب إلى المنبر، عسى أن يربح بقرة أو حتى بيضة.
• السبت
◄ مرايل صفراء
تهزنا الريح الخفيفة ونحن فى طريقنا إلى المدرسة بمرايلنا التيل الصفراء، مرايل قام بتفصيلها أخى الأكبر، هذا الذى نجا وحده من مملكة الرعب التى نعيشها ليلا، حيث التحق مبكرا فى المدينة، تعلم الخياطة والتفصيل على يد ناجين سابقين، وحين احتاجت أمى إلى شراء مرايل لنا أخبرها بأن هذه المكرمة لديه، ظللنا ننتظره حتى جاء، حمل شريطا ملونا ووضعه على أذرعنا وصدورنا وخصرنا، وقال إنه سيفصلها بنفسه، بدا منتصرا وهو يفض المرايل أمام أعيننا كما لو أنه سرقها ولم يفصلها، كانت قوية وجديدة، مكونة من قطعتين، بنطلون وجاكت، حين ارتديتها نظر الجميع نحوى وابتسم، قالوا حلوة وهم يضحكون، لم يلفت نظرى سوى أن لها زرا بحجم فنجان شاى فى أعلى سلسلة الظهر، لكننى لم أكن أره، وضعت يدى فى الجيبين الأماميين، وشعرت بغربة حين رفرفت اللياقة نصف الدائرية أمام عيني، ربطت الحزام من الخلف، واحتجت إلى عام كامل كى أدرك أنها مريلة بنات.
• السبت
◄ يشبه حلمًا جميلًا
أول يوم فى المدرسة، يشبه حلمًا جميلًا، ما زلت أتذكره، كنت بصحبة أمي، وبدا كما لو أن كل أبناء القرية ذاهبون إلى المدرسة، مرتدين المرايل الصفراء، واقفين أمام نوافذ مغطاة بالزجاج، يجلس خلفها أساتذة يتحدثون بصوت عالٍ، بينما الأهالى يحملون ملفات من الورق المقوى فى أيديهم، أمى كان تمسك بى فى يد، وبالملف الأصفر فى اليد الأخرى، تجرنى خلفها من باب إلى شباك. أخيرا سمعت أحدهم يخبرها برقم الفصل، جرتنى من يدى فى اتجاه منطقة الفصول، صف طويل به نحو خمسة أبواب، كل باب يؤدى إلى فصل، وكل فصل مكون من ثلاثة صفوف، وعلى الجانبين أربعة شبابيك، وفى الأمام سبورة بعرض الحائط، حين وصلنا إلى الرقم الذى قال عليه، دخلنا نتفحص المكان، لم يكن فى الفصول سوانا، كأنها هجرت قبل أن نأتى إليها، حين وصلنا قررت أن تبحث عن الدكة الأفضل، دكة نظيفة وحمراء، حين وصلنا إلى الدكة ما قبل الأخيرة فى الصف الأوسط، رأينا عليها شيئاً دائريا ولامعا، كأنه طبق اليوم، لكن له رائحة رديئة، نظرنا باشمئزاز غريب، وبصقنا على الأرض، قالت أمي: لا أعرف ما الذى يدعو طفلًا للصعود كى يفرغ أمعاءه على دكة لامعة وحمراء كهذه؟
• الأحد
◄ بيتنا العتيق
أجلس على مقهى الخواجة الشهير بمقهى «عم صالح» فى شارع شامبليون، أنظر إلى قصر سعيد باشا حليم المعروف بقصر شامبليون، أتذكر أنه كان إلى وقت قريب مدرسة، وأنه كان مليئا بالفصول والدكك النظيفة الحمراء، وربما بأطفال سيئين يتركون أمعاءهم فى الفصول، أتذكر بيتنا العتيق، وكيف كان صغيرًا وسط الحقول، حتى أن الأشجار كل ليلة كانت تكاد أن تقتلعه وتلقى به بعيدًا، لكنه ظل ثابتا فى وجه الريح.
• الاثنين
◄ قصر شامبليون
أجلس إلى مقهى عم صالح، أتأمل أعمدة القصر الذى ترك مهجورًا لسنوات، فقد بناه الصدر الأعظم الأمير حليم باشا عام 1895 لزوجته على الطراز الإيطالي، لكنها رفضت أن تقيم فيه، تسبب ذلك فى صدمة لمهندسه أنطونيو لاشياك، وظل المكان مهجورًا حتى أصبح مدرسة «الناصرية الإعدادية بنين» عام 1916، لكن قيل أن وزارة الثقافة أخذته من وزارة التعليم عام 2000، ثم تركته مهجورًا من جديد، فلا هو أصبح متحفًا ولا مركزا ثقافيا ولا حتى مدرسة اعدادية، تركته للأشباح، أشباح المثقفين التى تجلس حوله طيلة النهار، وتحلم بالدخول إليه والعمل فيه طيلة الليل.
كاتب وروائي