أبو سنة ورماد الأجوبة

محمد إبراهيم أبو سنة
محمد إبراهيم أبو سنة


أحمد سراج

«تأمل كل الحظوظ التي
لم تكن عادلة
رماد على موقد العمر 
هذا حصاد السنين
الذى لم يكن أمله

تلفت لا شيء إلا الرماد» قصيدة حصار ص 52، ديوان «رماد الأسئلة الخضراء» الشروق 1990، وفى هذا الرحيل الذى رآه صاحبه؛ محمد إبراهيم أبو سنة (1937 – 2024) بكثرة قبل نهاية القرن العشرين بأعوام، وعبر عنه بأكثر من صيغة، أجلاها؛ إهداء ديوانه شجر الكلام، علينا أن نقف أمام جلال الموت معتبرين، وأمام ما جرى متسائلين لأننا أبناء الحياة وإن كان الموت تتمتها، ولأن السؤال حق الحياة على الأحياء: لماذا اختفى أبو سنة قرابة ربع قرن عن عيون النقاد وعن الشعراء، ولماذا اختفى هو عن الحياة الثقافية؟ هل قصر النقد فى حقه وعادته التقصير أم قصر نص أبى سنة ذاته؟ لماذا يذكر الناس الاسم ولا يستطيعون تذكر عملين أو ثلاثة؟ هل ظلمت الحياة أبا سنة بوجوده إلى جوار شعراء كبار كعبد الصبور وأمل دنقل، وبوجوده بجوار إذاعيين متمرسين كفاروق شوشة؟ 

(1)
خُنَّا سرائرَنا
فحاصر خطوَنا
شوك الطريق 
وخاننا صفو الوئام
طالت بنا الأيام
بين وجيعة تكوى
وأحلام تضام
وحدى أنازل ما تبقى من سنين العمر
فى حرب تدوم بلا سلام.

(قصيدة شجر الكلام 20 /12/ 1998، من ديوان شجر الكلام، دار الشروق، 2000
مات فى هدوء كما عاش، زاهدًا متواريًا، كثيرًا ما يتساءل القارئ والباحث عن سر اختفاء اسمه من الندوات والمؤتمرات، ورغم حصوله على جائزة النيل ارفع الجوائز فى مصر، إلا أن حضوره الواقعى رحمه الله اقتصر على تدريس نص له فى مرحلة الثانوية العامة تطبيقًا على المدرسة الواقعية، وحتى هذا الحضور وجهت له ضربة قاصمة بذلك القرار غير المدروس لوزارة طارق شوقى بالمجيء بنصوص غير المقررة.
منذ مطلع الألفية الثالثة وهو حاضر غائب تتضاءل ذبالة مصباحه حتى تكاد تظهر لمن يتذكر الجيل الثانى من شعر الرواد أو ما عرف بجيل الستينيات.

(2)
«عاش الإنسان طوال تاريخه يواجه قيود الزمان والمكان ينشد الحرية ويخشى الموت، يبدأ طفولته بالحلم ويختتم حياته بالتسليم، يضيء قلبه بالحب لحظات فانية ثم تتحول الحياة إلى عبء مرير، وكلما تقدم به الزمن زادت حكمته ونقصت ثمرته... وفى عصرنا الراهن حوصرت الحواس ووقعت الروح الإنسانية فى الأسر، وفى سبيل الخلاص التاريخى الذى ظل ينشده الإنسان تنوعت الوسائل ولكن الكلمة التى تمثل الجمال والحقيقة معًا ظلت أكبر عون لنا فى المحنة والمجد على السواء» بهذه الكلمات ختم أبو سنة كتابه النقدى «ومضات من الجديد والقديم»  الصادر عن دار الشروق عام 1998.
هل هذه الكلمات التى جاءت تحت عنوان «حكمة الوجود الإنساني» تعبر عن نظرة أبى سنة للحياة والشعر؛ فالحياة قيود والحب لحظات خاطفة والزمن محاصرٌ للإنسان؟ والصراع الأساسى للإنسان مع قوى غيبية غير مرئية ومع ذلك القدر الهوميري، ما أشبه هذه الكلمات بالحكمة التى لخص بها حكيم حياة الإنسان: «يولد الإنسان ليقاسى ويموت».
 تتناثر هذه المضامين فى شعر أبى سنة منذ بدايته حتى دواوينه الأخيرة فحين أصدر ديوانه شجر الكلام عن دار الشروق فى طبعته الأولى (2000) صدَّره بإهداء يدعو للتساؤل: « إلى الأرواح الخضراء التى تهيم حول روحي؛ إلى روح أمى وأبى وأخي» كتب الشاعر هذه الكلمات منذ ربع قرن وبعدها توقف أو كاد إلا من ظهور اسمه فى الحصول على جوائز مجمل المشروع الشعري، ولست أقدح فى شاعريته أو فى شخصه؛ فقد عاش كما رأيته كريم النفس، لكن المعيار هو الشعر لا جوائزه، خصوصًا حين تعطيها جماعة لأحد أفرادها، أما ما يعطيها من دون الشعر والنقد ويحوز لقب المفكر عنوة؛ فهو وجائزته من سقط المتاع.

(3)
فى عام ١٩٦١ أحال العقاد قصائد عبد الصبور وحجازى إلى لجنة النثر، وانتقل الأمر إلى محاصرتهم خارج مصر درجة تقديمه استقالته لوزير الثقافة احتجاجًا على سفرهما لإلقاء أشعارهما، لم ينتظر عبد الصبوركثيرًا ليرد ولتشتعل معركة أدبية ضروس محورها جدارة الشعر الحر بجنسه الأدبي، كانت سن أبى سنة وقتها أربعة وعشرون عامًا، ورغم اشتداد المعارك حول الشعر الجديد خصوصًا مع بعدها بقرابة خمسة عشر عاما مع ظهور حركة السبعينيات وكتابة أصحابها لقصيدة النثر فإن أبا سنة التزم القرار نفسه؛ الصمت، رغم أنه أصبح شاعرًا ومسؤولاً يشار له بالبنان.
لماذا آثر أبو سنة الابتعاد عن المعارك الأدبية مشاركة أو تعليقًا خلال برامجه الإذاعية؟

(4)
حين سألته رحمه الله، عن محفزات كتابة القصيدة قال: شيء أقرؤه أو أسمعه فيثيرني، وربما يبدو هذا متوقعًا من شاعر يعيش فى دولة رفاهية واستقرار، أما وقد عاش الحروب المصرية الحديثة معظمها، فقد بدا لى الأمر غريبًا، ودفعنى لتأمل كتاباته وبرامجه، فوجدت أننا أمام شاعر «أليف بالفطرة» لا يحاول الاقتراب من التابوهات ومحاورتها مجرد المحاور، يدور فى فلك حدده لنفسه منذ البداية فلا هو شاعر بلاط يسعى خلف أمراء النفط أو حظيرة المثقفين، ولا هو شاعر يرى فى الشعر أداة لتغيير العالم، وليست مصاعب الحياة وهمومها ولا أحلام الإنسان التى يعاصرها الشاعر من ملهماته.

(5)
حين تطالع دواوين الشاعر فستجد شاعرًا رومانسيًّا يقف عاجزًا أمام مشكلات واقعه؛ فلا هو بالرومانسى الغارق فى الحب والطبيعة والحنين، ولا هو بالواقعى المجابه؛ فلا ظهور واضح لقضايا الوطن ومشكلاته، إنه أشبه بجسر بين عالمين لكن هذا الجسر كان عليه أن ينحاز لجهة من الجهتين وهو ما لم يسع الشاعر، لقد ظل يكتب قصيدة بمنطلقات ثابتة لا تنبو عن ذلك غير قصائد قليلة، والغريب أنها كانت فى بدايات كتابته.

(6)
حين تطالع كتبه غير الإبداعية فستجد عرضًا لكتاب أو تعريفًا بشاعر، كتابة هادئة متزنة تعنى بالفن وقضاياه الجمالية كأنها كما قال فى عناوين أحدها (ومضات) يجمعها بجهد جهيد أنها من (القديم والجديد) وهى لا تعدو عرضًا إذاعيًّا لعمل أو لفكرة دون الدخول فى منطقة (الصراع) أو (التورط) وحتى حين يقرر أن يعلق عام 1998 على المعارك الأدبية فى مصر فإنه ينقلنا إلى آراء فاليرى ورامبو دون أن يحاول جعل نفسه طرفًا فى معركة؛ وحتى حين يجد نفسه مضطرًا للتعليق يكتب: «إن الحوار الذى يتسم بالفهم والموضوعية واحترام الآخرين هو وحده الذى يعطى لهذا الصراع جانبه الإيجابي، بينما العدوانية والسخرية والتعلاى لبغيض فضلا عن كونها رذائل أخلاقية فهى ضد رسالة الشاعر الحقيقى مهما كانت دعواه» (مقال: معنى الشعر الخالص والحداثة الشريدة، ص 65، من كتاب ومضات من القديم والجديد)

(7)
«شراع وحيدٌ
يحاول أن يجرح.. الأفق
فى الزرقة المائجة
ليرسم فى آخر الموج..
هذا الوداع الأخير
الذى أغرقته
الأظافر فى اللجة

«الهائجة» قصيدة رحيل ص 14، ديوان «رماد الأسئلة الخضراء» الشروق 1990.

أحسب طبيعة الشاعر المسالمة، وطبيعة ظروف عمله المبكرة محررًا سياسيًّا فى هيئة الاستعلامات، ثم انتقاله للبرنامج الثقافي، جعلتاه يبتعد بشعره ونقده وحياته عن المناطق الملتهبة فى الإبداع والواقع الأدبي؛ فبادله الواقع تحفظًا بتحفظ، وبعدًا ببعد؛ لنضف إلى ذلك شراسة المعارك الأدبية والوصول بها إلى حد أبعد من السباب؛ فحين يؤلف الرافعى مقالات لمهاجمة العقاد يسميها «على السفود» وهو هنا يصور نقده بالسيخ الذى يخترم العقاد، ولن تستطيع مهما حاولت أن تكمل المقالات أن تتجاهل هذه النبرة العدائية، ناهيك عما يمكن أن يحدث لشاعر معارض فى ظل ظروف متقلبة ومعقدة.

وسواء خاف أبو سنة من عواقب التجديد، أو اختار المياه الدافئة؛ فإنه لم يخض البحر كما قال لنفسه، فعاش واحدًا من الشعراء، ومات رحمه الله كما عاش.