نقاش ساخن فى الجزائر بعد منع حوريات كمال داود

كمال داود
كمال داود


د. ياسين سليمانى

فاز كمال داود ب الكونكور، أرفع الجوائز الأدبية فى فرنسا، عن روايته «حوريات» التى منعت الجزائر طرحها فى المعرض الدولى للكتاب الذى أقيم بين 6 و16 نوفمبر من هذا العام، وثارت ثائرة رواد التواصل الاجتماعى الذين تحولوا إلى نقادٍ واغتالوا الناقد التقليدى الذى يبدو أنه انزوى وانسحب إلى قوقعة لا يدخلها الهواء فى ظل مناخ ثقافى لا يشجع على الكتابة الرصينة.

لكن ثورة نقاد الفيسبوك لم تكن احتجاجاً عن المنع ولكن تهجماً على الفوز، وفجأة وجدنا أن كمال داود حسب هؤلاء ليس جزائريا ولكنه عميل فرنسى صهيونى يردد السردية الإمبريالية ولا ينتبه للتقتيل والتشريد الذى يحدث، حتى ان بعض هؤلاء وهم أساتذة فى جامعات جزائرية وهم فى الأغلب معرّبون ولم يقرأوا الرواية التى لم تُترجم بعد رأوا أنه كُرّم بهذه الجائزة لعمالته لقوى الشر العالمى، لا لقيمة روايته بينما عبّر آخرون ببؤس معرفى شديد أنهم غير مهتمين بفوزه أو عدم فوزه وأن الأمر لا يعنيهم مع أنهم يدرّسون الأدب ، رغم أن القارئ الرصين والمتابع لكتابات داود منذ أكثر من ربع قرن فى الصحافة أولاً ثم فى الرواية سيجد أنه ظل حتى وهو فى بلاده يكتب فى صحافتها ناقداً شرساً لا يهادن ولا يراوغ، ويكتب بقلم شديد الرصانة، يمكن الاختلاف معه فى بعض المواقف لكن لا يستطيع القارئ العادل أن يشكك فى جدارة كتابته والترسانة الإنسانية والفكرية واللغوية التى يبنى بها أعماله، وهو إلى جانب مصطفى بن فوضيل الذى يزاوج أيضاً بين الكتابة الصحافية والروائية بالفرنسية (أجدد رواياته: المحطة الأخيرة بابل) أهم كاتبين فى الجزائر فى هذه الفترة.

منعت الجزائر رواية حوريات» بدعوى أنه يفتح موضوع الأزمة الأمنية التى واجهتها البلاد والمسماة فى الثقافة الجزائرية بالعشرية السوداء (1991 إلى حوالى 2001) التى تورط فيها الإسلاميون فى تقتيل الشعب الجزائرى وراح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى وتبعاً لمنع الرواية قامت الدار الناشرة للرواية «غاليمار» بالانسحاب من المشاركة فى المعرض كما امتنعت كل مؤسسات النشر التابعة لها من المشاركة أيضاً.

فى ذات المضمار من المنع والإلغاء وجدنا كتاب «الجزائر اليهودية» للباحثة هدية بن ساحلى الصادر عن منشورات فرانز فانون الجزائرية وهو وإن لم يُمنع من التداول لكن تم إلغاء ندوة متبوعة ببيع بالتوقيع فى مكتبة «الشيخ» المعروفة فى العاصمة، وتم الإلغاء بدعوى أن العنوان، والجو العام الوطنى والإقليمى وما يحدث فى الشرق الأوسط يثير شبهات، خاصة بالنظر ـ كما قال رواد الفيسبوك الذى يبدو أنه أصبح الموجه للثقافة فى الجزائر- إلى أن كاتبة تصدير الكتاب إسرائيلية كانت مجندة فى الجيش الإسرائيلي.



فى أية دورة من الدورات الماضية فى الجزائر لم يحدث أن عرضت أية دار أكثر من خمسين نسخة من أى كتاب، ونادراً ما تصل عددٍ النسخ من الكتاب الواحد إلى مائة لسبب بسيط أنها ملزمة بإحضار عددٍ من النسخ من كل كتاب أصدرته، وهو ما يستحيل معه جلب كل النسخ، وبالتالى ما كانت غاليمار ستبيع أكثر من بضعة عشرات من الرواية وكان سيمر مثل غيره من الأعمال بالنظر إلى وجود عدد هائل من دور النشر والكتب التى قد ينتظرها القارئ المفرنس خاصة من غاليمار نفسها، علما بأن رواية «حوريات» قد تمت قراءتها فى الجزائر مقرصنة مما يعنى احتمالات قراءتها ورقياً تتناقص بالنظر أيضا للقدرة الشرائية التى تزداد انهياراً يوماً بعد يوم.

هذا يعنى أن الجزائر التى تمنع هذه الدار تعطى فرصة لسهام النقد أنها توجه لها أكثر فأكثر فى ظرف تاريخى وسياسى خاص (خاصة ما يتعلق بالاحتفال بمرور سبعين سنة عن الثورة الجزائرية العظيمة ضد الاحتلال الفرنسي) ومن المعيب حقاً فى هذا الزمن الذى لا يمكن لمعلومة أو فكرة أن تُحجب أو أن تُصادر، أن يتم منع رواية لم يفعل صاحبها شيئا سوى أنه فتح ملفات من ملفات الذاكرة الجماعية بغض النظر عن أية تأويلات غير أدبية للنص الذى كتبه صاحبه أو لمواقفه التى قد لا تكون موفقة دائما.

من جهة ثانية وفى السياق ذاته، سياق المنع والرجعية فإنّ كتاب «الجزائر اليهودية» لبن ساحلى صادر فى الجزائر، ولديه رقم إيداع فى المكتبة الوطنية الجزائرية أى أنه كتاب شرعى حاز على موافقة الدولة، يتم منعه من التقديم فى مكتبة فى الدولة نفسها، الدولة التى أجازت الكتاب هى ذاتها التى تمنع أصحابه من الاحتفاء به مع القراء ومناقشته.

هذا يبيّن أن المواقف من هذا النوع ليست إلا مواقف عشوائية تصدر عن عقول غائبة أو مغيّبة، فإذا صدقنا الأكذوبة التى تسعى بعض الجهات إلى تسويقها والقائلة بأنّ الإصدارات فى فرنسا يُشم فيها رائحة الخيانة وموالاة مستعمر الأمس فإنّ إصدارات الجزائريين فى الجزائر لا يمكن أن يُنظر إليها بالمنظور نفسه إلا من طرف الحمقى والمجانين، إضافة إلى أن الدار لم يُعرف عنها أبدا أنها تشجع على أفكار أو تنشر آراء راديكالية أو متطرفة أو تسيء للذاكرة الجمعية، يكفى أن الدار اتخذت اسمها من اسم واحد من أكبر الوجوه المناهضة للاستعمار وهو الطبيب والناشط السياسى فرانز فانون، ولا نظن أن دار نشر يسمى أصحابها مؤسستهم باسم مناضل كبير مثل فانون، وتعودت على نشر العديد من الكتب فى التاريخ الجزائرى المعاصر ببطولاته وانتصاراته تأتى لتنشر كتاباً مسيئاً وهى تعلم أن أى خروج عن الإطار الذى تحدده القوانين سيعرضها للتوقيف ويعرض أصحابها للمساءلة، أى أن أصحاب الدار لن يجازفوا بنشر كتاب مسيء وذلك لدواعٍ براجماتية فى أبسط الأحوال.
 
إننا فى كابوس حقيقي، يجب ألا نهوّن منه، كابوس طغيان الرعاع والغوغاء على المشهد الثقافى، بحيث يتم المنع والحجب تبعاً للفيسبوك. وللأسف لم يعد الغوغاء من قليلى الثقافة وعديمى المعرفة، بل تورط فى هذا أساتذة جامعات أيضا ناهضوا كمال داود ليس بسبب روايته ولكن لبعض مواقفه التى سمعوها فى الإعلام، وشجعوا على منع إقامة جلسة المناقشة والبيع بالتوقيع للكتاب الآخر بالنظر إلى عنوانه فقط فأى فرق بقى بين النخبة والعامة إذا كان موقف الطرفين واحداً وهو الحكم قبل القراءة.

تبقى الخسارة كبيرة للساحة الثقافية الجزائرية وللمثقفين الجزائريين، فعندما تمتنع دار كبيرة مثل غاليمار عن حضور معرض الكتاب، وعندما تعلن مكتبة «الشيخ» (وستتبعها مكتبات أخرى بلا شك) التى تعودت على إقامة جلسات مناقشة للكتب وبيع بالتوقيع، أنها ستمتنع عن إقامة أى جلسات من هذا النوع وأنها ستكتفى ببيع الكتب فقط، نصبح أقرب ما نكون إلى قعر الهاوية وهذا ما يسعى إليه الظلاميون.