مفاجآت صادمة متتالية فجرها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب منذ فوزه الكاسح فى الانتخابات الرئاسية قبل نحو أسبوعين، حيث يواصل الإعلان عن ترشيحاته للمناصب الرئيسية فى إدارته القادمة، وهى الترشيحات التى أشعلت الداخل وأثارت المخاوف فى الخارج، وعلى النقيض من ولايته الأولى التى بدأها ترامب مفتقرا للخبرة السياسية والمعرفة بتعقيدات الحكم فإن الرئيس العائد للبيت الأبيض بعد 4 سنوات قضاها خارج السلطة استعد جيدا لولايته الجديدة.
وبعد ما شهدته إدارته السابقة من أزمات واستقالات وإقالات وضع ترامب معيار الولاء أساسا لاختياراته التى استعان فيها بنجله الأكبر دونالد ترامب جونيور، الذى لعب دورا بارزا خلال حملة والده بعد غياب ابنة الرئيس المنتخب إيفانكا وزوجها جاريد كوشنر عن المشهد الذى كان حكرا عليهما قبل 8 سنوات، وبغض النظر عن الخبرة والكفاءة، جاءت تعيينات ترامب من داخل التيار اليمينى المحافظ التى يقوده الرئيس المنتخب والمعروف باسم «ماجا» أو «لنجعل أمريكا عظيمة مجددا»، وعلى طريقته فى إثارة الجدل منذ دخوله عالم السياسة، جاءت تعيينات ترامب لتقدم لمحة عن شكل إدارته وسياساته المرتقبة داخليا وخارجيا.
◄ اختبار قوة
وفى الداخل أشعل ترامب البلاد باختياراته التى تختبر مدى قوته بعد فوزه الكاسح الذى جاء فى ظل غضب شعبى واسع من سياسات الرئيس جو بايدن، حيث أشارت استطلاعات الرأى قبل الانتخابات إلى اقتناع 70% من الأمريكيين بأن البلاد تسير فى اتجاه خاطئ، واعتبر موقع «أكسيوس» الأمريكى أن اختيارات الرئيس المنتخب تشترك جميعها فى شيء واحد هو الرغبة فى هدم وتجديد الوكالات المكلفين بقيادتها والقيام بذلك بطريقة تتفق مع خطاب حملة ترامب.
وتضمنت الاختيارات الصادمة لترامب النائب مات جيتز لوزارة العدل وهو أحد نجوم تيار ماجا بسبب جهوده العام الماضى فى الإطاحة برئيس مجلس النواب الجمهورى كيفين مكارثى، وأثار اختيار جيتز غضبا واسعا بين أعضاء الكونجرس من كلا الحزبين، خاصة أن وزارة العدل التى سيقودها نائب فلوريدا المستقيل كانت قد حققت معه فى اتهامات جنسية، لكن المدعين رفضوا توجيه اتهامات، كما كانت لجنة الأخلاقيات فى مجلس النواب تحقق مع جيتز بتهمة سوء السلوك الجنسى وتعاطى المخدرات، ومع الإعلان عن ترشيح جيتز للمنصب، قال ترامب فى بيان إن الأولوية القصوى لوزير العدل الجديد ستكون «إنهاء تسليح نظام العدالة لدينا»، فى إشارة إلى ملاحقاته الجنائية إضافة إلى استئصال «الفساد النظامى» فى الوزارة، وكان ترامب قد أدان خلال حملته ما وصفه بـ«تسييس» وزارة العدل ودعا إلى مقاضاة أعدائه السياسيين، مشيرا إلى أن وزير العدل سيتولى هذه المهمة.
أما وزير الدفاع الجديد بيت هيجسيث، وهو من قدامى المحاربين فى الجيش والمذيع بقناة «فوكس نيوز»، فسبق واتهم قادة الوزارة بتخريب الجاهزية العسكرية والتجنيد من خلال إعطاء الأولوية للعدالة الاجتماعية والتنوع وهى مبادرات لمنح الفرص للنساء وللأمريكيين من أصول إفريقية، كما دعا هيجسيث إلى إقالة رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال تشارلز براون، وهو أول رئيس خدمة من أصول إفريقية فى تاريخ الولايات المتحدة وإقالة أى ضابط «متورط فى مبادرات التنوع والمساواة والشمول».
ومن التعيينات المثيرة للجدل اختيار تولسى جابارد لقيادة الاستخبارات الوطنية، وهى ديمقراطية سابقة شاركت فى حرب العراق وتعد من أشد المعارضين للتدخل فى شئون الدول الأخرى، ولم تشغل جابارد أى مناصب رفيعة المستوى فى مجال الأمن القومى ولاحقتها الانتقادات بسبب اجتماعها سرا مع الرئيس السورى بشار الأسد فى 2017، وبسبب تحميلها للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطى (ناتو) مسئولية اندلاع الحرب فى أوكرانيا. ووفقا لرؤية ترامب فإن جابارد ستلعب دورا خطيرا لأنها ستكون مسئولة عن تطهير مجتمع الاستخبارات الذى يعتبره ترامب أكبر خصومه فى الداخل ويشير إليه باعتباره «الدولة العميقة».
ومثلما تعهد فى حملته، كلف ترامب حليفه الجديد وأحد أكبر داعميه فى السباق الرئاسى المليادرير المثير للجدل إيلون ماسك بقيادة «وكالة الكفاءة الحكومية» الجديدة التى تهدف إلى تقليص القوانين الفيدرالية. ويحذر الخبراء من أن تولى ماسك للمنصب الجديد قد يعتبر نوعا من تضارب المصالح لأنه قد يؤدى لاتخاذ قرارات حكومية تؤثر إيجابيا بشكل مباشر على مصالحه التجارية، وهو ما دفع البعض للمطالبة بفرض تدابير مثل إلزامه بالتنازل عن مصالحه التجارية أو استبعاده من القرارات ذات الصلة. ومع ذلك قد يقرر ترامب منح إعفاءات قانونية نادرة لاستثناء ماسك من قوانين تضارب المصالح.
كما أثار ترشيح ترامب لوزارة الصحة المزيد من الجدل بعد اختيار روبرت كينيدى جونيور المعروف بتشكيكه فى اللقاحات واعتماده على نظريات مؤامرة تشكك فى هيئة الغذاء والدواء الأمريكية. وقال ترامب إن كينيدى سيسعى لحماية الأمريكيين من المواد الضارة وسيعمل على التصدى للأزمة الصحية فى البلاد، وكينيدى هو سليل العائلة السياسية الديمقراطية الأشهر فى الولايات المتحدة ترشح فى الانتخابات الديمقراطية التمهيدية قبل أن يشارك فى سباق البيت الأبيض كمستقل لينسحب فى النهاية ويعلن دعمه لترامب.
الشرق الأوسط
وتمتد انعكاسات تعيينات ترامب على ملفات السياسة الخارجية وخاصة فيما يتعلق بأزمات الشرق الأوسط، فخلال ولايته الأولى قدم ترامب دعما منقطع النظير لإسرائيل تضمن نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل والانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران إضافة إلى تنظيم اتفاقيات إبراهيم للسلام مع عدد من الدول العربية فى المنطقة.
ومع ذلك فإن إحباط الأمريكيين المسلمين والأمريكيين من أصول عربية من سياسات إدارة الرئيس جو بايدن بشأن الحرب فى غزة ولبنان دفع هؤلاء للتصويت لصالح ترامب على أمل أن تصدق وعوده فيما يتعلق بإنهاء الحرب فورا.
وبالفعل اعتبر بعض المحللين أن سياسة ترامب الانعزالية التى يعكسها شعار «أمريكا أولا» ستدفعه لعدم التورط فى دعم حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة التى تأمل أن يطلق الرئيس المنتخب يدها فى الشرق الأوسط، إلا أن تعيينات ترامب جاءت محبطة ومنحازة بشكل كبير لإسرائيل بداية من السيناتور ماركو روبيو كوزير للخارجية، وهو المعروف بمواقفه المناهضة لوقف إطلاق النار فى غزة، حيث دعا إسرائيل لتدمير عناصر حماس قائلا «هؤلاء الناس حيوانات شرسة ارتكبوا جرائم مروعة».
أما وزير الدفاع بيت هيجسيث فدافع دائما فى برنامجه على قناة «فوكس نيوز» عن إسرائيل ودعا الولايات المتحدة إلى الوقوف إلى جانب حليفتها وهو نفس موقف السفيرة الأمريكية الجديدة لدى الأمم المتحدة النائبة إليز ستيفانيك التى سبق وانتقدت قرارات المنظمة الأممية فيما يتعلق بإسرائيل واتهمتها بتعزيز ما وصفته بأنه «العفن المعادى للسامية»، كما انتقدت ستيفانيك قرار بايدن وقف إرسال شحنة قنابل إلى إسرائيل وقادت أيضا جهود مكافحة ما يسمى بمعاداة السامية فى الجامعات الأمريكية.
وهناك أيضا المبعوث الأمريكى للشرق الأوسط ستيف ويتكوف وهو رجل أعمال يهودى وقطب للعقارات، أما الطامة الكبرى فكانت اختيار مايك هاكابى سفيرا للولايات المتحدة فى إسرائيل، وهو المعروف بمواقفه المؤيدة بشدة لإسرائيل والذى قال فى برنامج تلفزيونى بعد الإعلان عن ترشحه رفضه فكرة حل الدولتين كأساس لحل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى.
ونقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن هاكابى قوله لإذاعة الجيش الإسرائيلى إن «ضم الضفة الغربية لإسرائيل محتمل بالطبع فى ولاية ترامب الثانية». وهاكابى هو أحد أبرز المؤيدين للمستوطنات الإسرائيلية وضم الضفة، وقال فى عام 2017 لشبكة «سى إن إن» إنه «لا يوجد شيء يسمى المستوطنات ولا يوجد شيء يسمى الضفة الغربية إنها يهودا والسامرة»، وهو مصطلح توراتى يشير إلى الضفة المحتلة.
هذه المواقف المعلنة لهاكابى جعلت من ترشحه لمنصب السفير الأمريكى خبرا سعيدا لأنصار اليمين المتطرف فى إسرائيل، الذين اعتبروا اختياره إشارة لفترة جديدة من السياسة الأمريكية تتماشى مع رؤيتهم وأهدافهم فى المنطقة خاصة أن التعيينات جاءت بعد كشف مسئولين إسرائيليين بارزين عن خطة لضم الضفة الغربية بعد تنصيب ترامب.
ووفقا للخبراء، فإن هذه التعيينات تكشف عن التوجهات المحتملة لإدارة ترامب المقبلة التى من المتوقع أن تغض الطرف عن سلوك إسرائيل فى غزة.
وبالنسبة لإيران، فإن ترقبا حذرا يسود البلاد من السلوك المرتقب للرئيس الأمريكى المنتخب تجاهها، وما إذا كان سيفرض المزيد من الضغوط عليها خاصة بعد التوتر الكبير الذى شهدته الولاية الأولى لترامب الذى انسحب من الاتفاق النووى وأمر باغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليمانى.
وفى ضوء التعيينات الجديدة فإن إدارة ترامب الموالية لإسرائيل ستضم أيضا المناهضين لإيران مثل مارك روبيو ومايك والتز مستشار ترامب للأمن القومى، الذى دعا دائما لاتخاذ مواقف أكثر حزما ضد طهران.
◄ الصين
وفيما يتعلق بالصين فإن تعيينات ترامب تتضمن بعضا من أشد منتقدى بكين، وهو ما يعكس نهجا سياسيا أكثر تشددا لاحتواء طموحات المارد الصينى وهو الأمر الذى يثير المخاوف من مواجهة محتملة.
ويعد كلٌ من ماركو روبيو ومايك والتز من أنصار السياسة الصارمة تجاه الصين، ودائما ما دافع كلٌ منهما عن ضرورة أن تعيد واشنطن بوصلتها لتصب تركيزها الدبلوماسى والأمنى على آسيا، بهدف مواجهة النفوذ المتزايد لبكين. ويؤمن الرجلان بضرورة تحول السياسة الأمريكية من أوكرانيا إلى التركيز على الاستعداد لهجوم صينى محتمل لتايوان.
وفى حال موافقة مجلس الشيوخ على تعيينه سيكون روبيو أول وزير خارجية يتولى المنصب فى ظل خضوعه للعقوبات الصينية التى تتضمن حظرا للسفر. وكانت بكين قد فرضت فى 2020 عقوبات على عدد من المشرعين من بينهم السيناتور ماركو روبيو فى إطار تبادل الاتهامات بيت البلدين بشأن العقوبات الأمريكية على المسئولين الصينيين، وغالبا ما تشير وسائل الإعلام الصينية إلى روبيو المعروف بدعمه لحركة الديمقراطية فى هونج كونج باعتباره «مناهضا للصين». أما والتز فقال العام الماضى إن الصين «دخلت فى حرب باردة» مع الولايات المتحدة.
وإلى جانب روبيو ووالتز فمن المتوقع أن تواجه ستيفانيك الوفد الصينى فى الأمم المتحدة، حيث يتزايد نفوذ بكين التى تتمتع بمقعد دائم وبحق النقض (الفيتو)، وحيث يتنافس البلدان بشأن عدد من القضايا الرئيسية العالمية، ويُعرف الثلاثة بدعمهم القوى لحظر تطبيق التواصل الاجتماعى الصينى الشهير «تيك توك» الذى تعهد ترامب خلال حملته بإلغائه.
ومع ذلك يرى بعض الخبراء أن هذه التعيينات إضافة إلى تعهده بفرض تعريفات جمركية بنسبة 6٠٪ أو أكثر على السلع الصينية يمكن أن تكون ورقة فى يد ترامب للضغط على بكين لإبرام صفقات معها. ولمواجهة هذه التعيينات المتشددة فقد تعمل الصين على اختيار شخصيات أخرى للتعاون معها لنقل الرسائل وتعزيز الدبلوماسية الخلفية من خلال الاعتماد على وسطاء محتملين من بين المقربين من ترامب الذين لديهم علاقات اقتصادية كبيرة مع بكين مثل إيلون ماسك.