«اعتدت ارتياد المقاهي بسبب تأثري وارتباطي بعمالقة الأدب العربي والعالمي الحكيم وموباسان ومحفوظ وهيمنجواي والغيطاني»
على المقهى !
كان مقعدى الدائم على هذه الطاولة المميزة بمحازاة باب المقهى الخشبى المطوى العريض وقد اخترتها بعناية فلا هى فى الداخل تماما .. ولا هى على الرصيف فى الخارج .. وإنما تمنحنى الفرصة لإطلالة على الشارع حيث المارة وضوضاء السيارات العابرة وأيضا رؤية أخرى داخل المقهى حيث البار المرتفع والذى يقف خلفه «عم صلاح» هكذا ينادونه هذا الرجل الخمسينى أشعث الشعر الماهر في «صناعة» المشروبات الباردة والساخنة بمختلف أنواعها فى سرعة وبراعة مذهلة .. حيث الـ ضوضاء الأخرى التى يحدثها خبط ورزع الأكواب والصحون والملاعق فضلا عن الحوارات الجانبية بين الجرسونات !..
اعتدت ارتياد المقاهى وارتبطت بها منذ زمن بعيييد !.. ربما كان ذلك بسبب تأثرى بكتابنا وأدبائنا الكبار العمالقة من المصريين والأجانب أمثال توفيق الحكيم الجد الأكبر للأدب كما كان يحب أن ألقبه .. والذى روى لى أنه ألّف أعظم أعماله وإبداعاته مثل عودة الروح وأهل الكهف ويوميات نائب فى الأرياف وغيرها وهو جالس على مقعد صغير فى مقهى «تريانون» بمحطة الرمل بمدينة الإسكندرية التى ترجع جذوره لها .. وأذكر أننى عندما سألته: وكيف لك «يا جدو» -هكذا كنت أناديه-… أن تبدع وسط هذه الأجواء الصاخبة والدوشة !؟.. فقال لى مبتسما وهو يشير بيديه : عندما أكتب .. أفصل تماما عن كل من حولي .. غير أننى أأنس بهذه الضوضاء الخارجية فهى فقط تكون فى الخلفية مثل الموسيقى التصويرية.. وقد اعتدت على ذلك منذ الصغر !..
كما كان يجلس على المقهى الأديب الفرنسي المبدع جى دو موباسان وطبعا أديب نوبل العالمى نجيب محفوظ وأيضا الروائى الأمريكى الكبير إرنست هيمنجواى وكاتبنا وصديقنا المبدع أستاذ جمال الغيطانى .. ولأننى عرفت كلا من الحكيم ومحفوظ والغيطاني عن قرب وأمضيت معهم بعضا من سنوات رحلتى فكان من الطبيعى أن أتأثر بهم !.. وبالتالى أصبح الجلوس على المقهى بكل تفاصيله وأجوائه جزءا مهما بالنسبة لى وعادة مألوفة ساهمت فى تشكيل وتكوين شخصيتى !..
بوترى كافيه
بعد التردد على العديد من المقاهى .. استقر بى الحال فى مقهى « بوترى كافيه»-بعد أن تم استبدال كلمة مقهى العربية الفصحى بكافيه الفرنسية-وهو مقهى صغير من المفترض أنه يطل على نهر النيل العظيم بحى الزمالك العريق .. لكن الحقيقة الواقعة أنه لايرى من النيل قطرة بسبب انخفاض منسوب مياهه أولا .. وكثرة الإشغالات على ضفته والتى حجبت رؤيته تماما وأنت جالس هنا .. رغم ذلك لم تستطع هذه العشوائية أن تمنع الطاقة الإيجابية التى تحدثها ذبذبات جوار مياه النيل العذبة الجميلة .. !
بات هذا مقعدى وتلك طاولتى .. محجوزة لى .. فيضع النادل صديقى «كمال» الشاب العشرينى زجاجة مياه صغيرة وفنجان شاى نصفه ممتلئا فى إشارة لانشغال الطاولة .. حتى لايجلس عليها أحد قبل حضورى .. يفعل ذلك بعقد إجتماعى صامت .. فلم أطلب منه يوما ذلك .. وعند وصولى يستقبلنى بإبتسامة عريضة مرحبا: أنا حجزت الترابيزة لحضرتك .. منتظرا تقديرى اليومى ببقشيش خاص لما فعله إرضاء لى !..
العمل والترفيه !
كان من الطبيعى .. أن أقلد «جدو» توفيق الحكيم-كما طلب منى أن أناديه-.. فأتردد على المقهى يوميا حتى أصبح يمثل رمزا للتفاعل الاجتماعى والثقافى والمنصة الأساسية فى حياتى .. فأبدا لم يكن يوما مجرد مكان لتناول المشروبات أو الهروب من روتين الحياة اليومية وإنما مثل شيئا مهما جدا بالنسبة لى ! وقد لامست بنفسى وتأكدت أن أساتذتى كان معهم كل الحق .. ! فالمقهى هو خير ملاذ للإبداع والتأليف .. وهو المكان المثالى للكتّاب والمبدعين الذين يبحثون عن أجواء تحفز على التفكير والتأمل.. فهناك سحر خاص أستشعره دائما فى الجلوس وسط ثرثرة الأصوات الهادئة والتنوع البصرى مع إرتشاف فنجان قهوة تركى سادة هكذا أحب مذاق البن فقط بدون أى إضافات فرائحته ومذاقه المر الخاص يسهم بشكل كبير فى تحول هذا المناخ الاستثنائى إلى مصدر إلهام خصب.. وميلاد لإلهام يتولد من محادثة عابرة مع صديق أو من متابعة أحد المارة بالشارع أو حتى من مراقبة للزبائن الآخرين أو الجرسونات .. هذه اللقاءات العفوية قد تفتح آفاقا ورؤى جديدة .. فهنا فى المقهى .. أى مقهى قريب من الحدث .. وفى بداياتى .. كنت أكتب الموضوعات الصحفية والتحقيقات والتغطيات التى كنت أتابعها يوميا وأرسلها سريعا إلى الجرنال قبل موعد التسليم أو «الديد لاين»-كما نقول نحن الصحفيين-.. فالمقهى هو الشاهد على الانفرادات والخبطات الصحفية العديدة التى حققتها .. هنا أجلس بمفردى بالساعات أفكر وأتأمل أدقق النظر وأتفاعل مع كل شئ .. وعندما تأتى لحظة البوح والكتابة أتجاهل تماما هذا العالم من حولى .. كما أننى هنا أيضا أكتب مقالاتى وخواطرى ويومياتى ومذكراتى .. بعد أن بات هذا المكان بهمهمته وأجوائه وثرثرته ملهما تتدفق فيه أفكارى ويسيل قلمى !.. ظل المقهى بالنسبة لى دائما مساحة نابضة بالحياة يمتزج فيها الفكر والخيال والإبداع واللقاءات الإنسانية العابرة !..
وبذات الدرجة .. مثلما هو مكان العمل بقدسيته وطقوسه .. هو أيضا محطة الترفيه والتسلية .. هنا أتابع مباريات كرة القدم العالمية .. أصفق بحرارة وأسعد عندما يحرز لاعبنا الفذ محمد صلاح فخر مصر والعرب هدفا لناديه ليفربول وأشعر بالفخر والاعتزاز .. وهنا على المقهى ألتقى الأصدقاء والأحباب ونقضى معا أوقاتا رائعة فى السمر والحكى والدردشة ونلعب بالنرد ( الطاولة المحبوسة ) وفى بعض الأحيان نتابع أحدهم يلعب الشطرنج .. ونفتح المجال للحوارات والندوات والنقاشات ونتبادل أطراف الحديث حول مختلف القضايا العامة والخاصة !..
مساحة إنسانية !
نعم .. المقهى يعكس نموذجا مصغرا للمجتمع كله .. مساحة ديمقراطية يجتمع فيها ناس من مختلف الخلفيات والأعمار دون قيود أو حواجز اجتماعية.. فضاء حى يمثل تنوع الحياة وألوانها.. ورمزا للانفتاح والحوار بحرية وتلقائية بعيدا عن القيود .. فهنا تجلس على طبيعتك وتتحدث على سجيتك مع نفسك ومع الأصدقاء على السواء .. بعيدا عن سياج الحياة اليومية .. لذا .. أدعو دائما إلى ضرورة الحفاظ ودعم « ثقافة المقهى « فهى تعكس فهما عميقا لقيمة التواصل الإنسانى والإبداعى فى حياتنا! ..
ميكيافيلي
هذه بعض الحقائق المظلمة عن النفس البشرية من منظور ميكيافيلى ..ستجعلك تعيد النظر فى طبيعة الواقع من حولك..:
قول الحقيقة لا يمنحك الرضا نفسه الذى تحصل عليه عندما تخبر الناس بما يرغبون فى سماعه..
الرجل العادي يقع فى فخ المجاملة الزائدة بسبب تدنى احترامه لذاته..
الإفراط فى التعلق يُنفر الآخرين منك. كلما ركضت خلف العلاقة ..كلما تراجعت احتمالات استمرارها..
معظم الناس لا يحبونك لذاتك..بل يحبون المشاعر التى يعيشونها عندما يكونون معك.. و شتان بين الأمرين..
التذمر أمام الآخرين يكشف عن ضعفك ويزيد من استيائهم منك ..ولا يُثمر عادة عن أى حلول فعالة..
الشكوى علنا لا تعكس سوى عدم قدرتك على التعامل مع الأمور وتسبب الإزعاج. إضافة إلى أنها نادرا ما تؤدى إلى حلول مجدية..
لا يمكن لأى نظام تغيير طبيعة تنظيم البشر لأنفسهم. الأقوياء دائما يستغلون الضعفاء وهذا أمر لا مفر منه..
السمعة الطيبة لا تعنى أن الشخص جيد. بل تعنى أنه بارع فى إخفاء عيوبه. الغالبية العظمى تخفى أسرارا بشعة لا مفر منها..