لا أظن أن وزير التعليم العالى يرضى بأن يلبس مجمع اللغة قميص الكتاف، أو أن يبقى رهين محبس الإهمال الشائه، دون أن يأمر بتفعيل قانونه القائم على الانتخاب
وكأنه قد تكسرت نصاله على النصال، وأصبح انكساره المهين فى وجهه النضير ألمًا يعرفه الجميع وينتظرون كلمة النهاية فيه.. أتذكر حين كانت جامعة القاهرة تُرسلنا فى أفواج أسبوعية لتنسم هواء تاريخه العلمي، واستشعار مكانة علمائه «الخالدين»، وإجراء لقاءات مع رئيسه د. شوقى ضيف لمجلة الكلية الذى أهدانا حمل بعير من إصداراته ومجلاته، والتقطنا معه الصور التذكارية.
وقتها كان له بريق، وكانت له مهابة مقدسة فى نفوسنا، وكأنه حرم للعبادة والصلاة: مبنى وأساتذة، وواقعًا مؤثرًا فى حياتنا اللغوية والعلمية؛ حتى كان انحداره السريع بأيدى أبنائه تارة، وبأيدى المتربصين به تارات أخرى كثيرة، فأضحى رهين محبسيه: جمود أعضائه وتجميد أعدائه؛ ورغم هذه المآسى الفادحة لا يزال يواجه الرياح العاتية لاقتلاع جذوره الناشبة فى أفئدة الدارسين، ويرتكن إلى أمجاده السالفة وقوة النيل العظيم الذى يُساكنه؛ ولكن نظرته إلى المستقبل لا تزال وانية ضعيفة تحتاج إلى ثورة لاهبة.
منذ أيام توفى د. عبد الوهاب عبد الحافظ، رئيس جامعة عين شمس الأسبق، ورئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة؛ أو بالأدق القائم بأعمال رئيس المجمع العتيق؛ وهو الرئيس التاسع، والقائم الثانى بالأعمال، بعد د. صلاح فضل؛ بعدما توقفت انتخابات المجمع منذ أربعة أعوام، لمناصب: الرئيس، والنائب، والأمين العام، أو حتى لانتخاب أعضاء جدد؛ رغم المطالبات المكرورة لأعضائه بضرورة إجراء الانتخابات؛ حتى لا يؤثر ذلك على حركة المجمع، وسلامة قراراته، وصورته أمام المجامع اللغوية العربية؛ وهو رائدها وحاديها وقِبلتها منذ إنشائه.. وكل هذا يقول إن ما يحدث ليس «سهوًا» من الجهة المشرفة عليه.
عدد أعضاء المجمع الآن وصل إلى ثلاثة وعشرين عضوًا من أصل أربعين عضوًا هو العدد القانونى له؛ وهو ما يضعه فى فراغ إدارى كبير، بغياب الرئيس والنائب والأمين العام؛ إضافة إلى أن الانفصال بين رئيسى المجمع واتحاد المجامع العربية يُعرض هذا المنصب للخطر..
والسؤال الآن: لماذا ترفض الجهة المشرفة على المجمع إجراء الانتخابات طوال السنوات الماضية رغم أن قانونه رقم 14 لسنة 1982، ينص فى المادة السابعة على: «ينتخب أعضاء المجمع المصريون بطريق التصويت السرى من بين المرشحين للعضوية؛ ويتم الترشيح بتزكية اثنين من أعضاء المجلس، ولا تكون الجلسة التى يجرى فيها الانتخاب صحيحة إلا إذا حضرها الثلثان على الأقل من أعضاء المجلس، ويكون انتخاب المرشح صحيحا إذا حصل على الأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس»؛ وكلمة «الثلثان» هنا تخص الأعضاء الموجودين على قيد الحياة، وليس بالضرورة أصل الأعضاء الأربعين؛ وهو ما يجعل موقف المجمع صحيحًا قانونيًا إن جرت الانتخابات فى هذا الوضع؛ وليس كما يُحاول البعض تصويره بأنه لا يصح قانونا.
أبرز مشاكل المجمع تأتى أيضًا من قلة عدد الأعضاء اللغويين بعدما تقلصوا فى السنوات الماضية، ولم تكف أعدادهم لإكمال اللجان التى تصل إلى أكثر من 30 لجنة؛ ولذا بدأ المجمع بالاستعانة بالخبراء اللغويين لكى تتم تغطية هذا العجز؛ إضافة إلى اختفاء الواجهة العلمية للمجمع بعدم عقد مؤتمره السنوي، الذى يحضره الأعضاء العرب والمستشرقون، وهو ما كان يُمثل دعمًا لقوتنا اللغوية الناعمة عربيا وعالميا.
لماذا تتأخر الجهة المشرفة عن «تحنيط الخالدين» كل هذا الوقت، إن أرادت له الموت السريع؛ رغم أن بداية الأمر ونهايته فى يدها وحدها دون سواها؛ هذا ما يقوله الواقع، وإن خالف مُراد المجمع وقوانين تأسيسه؛ ولهذا تملك تلك الجهة وحدها ضخ الدماء فى أوصال الخالدين بتفعيل قانونه العتيق؛ أما أن تختار إبقاء المجمع فى «الأعراف»، فتلك خطة «للتحنيط» المتعمد؛ ولا أظن أن وزير التعليم العالى يرضى بأن يلبس مجمع اللغة الأقدم عربيا قميص الكتاف، أو أن يبقى رهين محبس الإهمال الشائه، دون أن يأمر بتفعيل قانونه القائم على الانتخاب؛ فينطلق المجمع إلى آفاق أرحب، ويُعيد إلى مصر وجهها اللغوى النضير، رائدةً وفاعلةً، وناطقةً باللسان العربى المبين؛ فالوزارة قادرة على ذلك.. إن أرادت.