د. هشام بشير يكتب:هل يمكن تغليب البعد الإنساني في العلاقات الدولية في مواجهة سياسة فرض الأمر الواقع؟

 د. هشام بشير
د. هشام بشير


كشفت دراسات فلسفية وأنثروبولوجية أن الإنسان يتصف بالعدوانية، وذلك بسبب حبه للامتلاك، لهذا نجد العنف ظاهرة ملازمة للإنسان منذ وجوده، وذلك في كافة ميادينالحياة السياسية والاقتصادية والثقافية. 
وهكذا، لم يكن من المستغرب أن تسود النزاعات وتنتشرالحروب بين بني البشر، على مدى أكثر  من سبعة آلاف عام، فخلال تلك القرون الطويلة لم يعرف العالم الهدوء والسلام، إلا في بضعة قرون فقط، ثم تتجدد الحروب والنزاعات مرة أخرى.


تلك الحقيقة المؤلمة تتجسد منذ السابع من أكتوبر 2023مفي حرب الإبادة الجماعية والتجويع المتواصلة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة، حيث وصل عدد الشهداء في القطاع قرابة 45 ألفًا منتصف نوفمبر 2024م، معظمهم من الأطفالوالنساء، بالإضافة إلى فقدان حوالى 11 ألفًا آخرين، فيمالا يزال آلاف الضحايا تحت الركام ولا تستطيع طواقمالإسعاف والإنقاذ الوصول إليهم، في انتهاك صارخ لأبسط حقوق الإنسان، وتغليب لسياسة فرض الأمر الواقع بالقوة، حيث تحرق قوات الاحتلال قطاع غزة بمن فيه من البشر  وحتى الحجر من مستشفيات ومدارس ومساجد. 


ولم تقتصر حرب الإبادة على أهالي قطاع غزة، بل امتدت إلى الضفة الغربية، حيث وصل عدد الشهداء بها إلى قرابة 800 شهيد، وبلغ عدد المصابين حوالي 6 آلاف مصاب، واعتقال ما يصل إلى 13 ألف شخص، وذلك في ظل الاعتداءات المستمرة على أهالي الضفة، حيث اعتدىمستوطنون إسرائيليون خلال عام منذ بداية الحرب علىغزة، على الفلسطينيين في الضفة الغربية حوالي 2500مرة، فيما تم استخدام قرابة 13 ألف حاجز، وإغلاق المناطقوالطرق أكثر من 1300 مرة، واقتحمت قوات الاحتلالالإسرائيلي الضفة حوالي 14 ألف مرة، وتم مداهمة المنازلقرابة 5 آلاف مرة، فيما تم تدمير المنازل والممتلكات حوالي 3500 مرة.


وقد شهد الإنسان في القرن العشرين الكثير من مظاهر العنف والدمار، في مختلف المستويات الفردية والجماعية والبيئية، فقد عرف الإنسان في هذا القرن أكثر أشكال العنف تنوعًا، وأكثر الحروب شراسة، وأكبر عدد من الثورات، بالإضافة إلى التطورات التكنولوجية والعلمية،والتي تم استخدامها- على نحو سيئ- في الدمار والحروب.


ففي القرن العشرين اندلعت الحرب العالمية الأولى في الفترة من عام 1914م حتى عام 1918م، والتي تمخض عنها ملايين القتلى ما بين سكان مدنيين أبرياء وعسكريين مقاتلين، لتشهد الإنسانية العديد من النكبات والمآسي والجرائم التي تُرتكب ضد السكان المدنيين الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه الحرب، في ظل غياب قوانين دولية واضحة تمنع التعرض للمدنيين.


ولم تمر إلا سنوات معدودات من السلام والهدوء، حتى نشبث الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م)، فأضافت الملايين من البشر، خاصة من الأطفال والنساء والشيوخ، إلى عداد القتلى، والذين ليس مشاركة في قرار تلك الحرب.


وقد ظهرت القضية الفلسطينية منذ أكثر من 75 عامًا، حيث يتعرض الإنسان الفلسطيني لمختلف أنواع الانتهاكات والجرائم والمجازر على أيدى المحتل الإسرائيلي؛ ذلك المحتلالذي قام ومازال يقوم بارتكاب كل أنواع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني من قتل للبشر، وهدم للحجر، وحرق للثمر، واقتلاع للشجر، وسرقة للأرض، في جرائم وحشية لم يعد يتعرض لها أحد في العالم سوى الشعب الفلسطيني الأعزل، ولعل آخرها تلك الذي يحدث لأهالي قطاع غزة والضفة الغربية منذ 7 أكتوبر من العام الماضي 2023م.


وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تحاول الإنسانية العمل على مواجهة ظاهرة العنف والدمار والتي تقضي على الأخضر واليابس في العالم، وذلك من خلال سَنِّ قوانين لوضع حد لهذه المآسي والكوارث التي تخلفها الحروب والصراعات.


وبعد جهود حثيثة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تم اعتماد اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م، التي تقضيبحماية المدنيين خلال الحرب، وتعتبر اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاها الإضافيان، أهم مبادئ القانون الدولي الإنساني التي يتم تطبيقها وقت الحرب، فتلك الاتفاقيات هي أول منظومة قانونية أعدها البشر لإنقاذ البشرية مما تعانيه من أهوال. 


ويتضمن القانون الدولي الإنساني العديد من القيم والمبادئ، من بينها: حماية المدنيين من آثار الأعمال العدائية والعقوبات الجماعية، والمعاملة الإنسانية والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين، ومنع الهجمات الموجهة ضدهم، وحماية اللاجئين، وحظر التهجير القسري.


ويتميز القانون الدولي الإنساني بأنه واجب التطبيق في العلاقات الدولية زمن الحرب، وملزم لكل أطراف النزاعات المسلحة، كما أنه ملزم كذلك للقوات التي تشارك في عمليات حفظ السلام. 
وتأتي تلك القيم والمبادئ من الدفاع عن الحقوق الطبيعية والأساسية المتعلقة بالبشر، بغرض احترام الحق في الحياة والكرامة الإنسانية وهي صفات متأصلة في كل إنسان، من يأتي الطابع الكوني الشمولي للقانون الإنساني.


فالهدف الرئيسي من القانون الدولي الإنساني يتمثل فيحماية الأفراد والمجموعات من الاعتداءات أثناء النزاعاتوالحروب المسلحة، أي من الهجمات الجنونية غير المسؤولة،كما يفعل جيش الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه المتواصل على قطاع غزة والضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر 2023م. 


وقد امتد العدوان الإسرائيلي إلى لبنان ويتواصل منذ أكتوبر 2024م، حيث أشار رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى أن العدوان الإسرائيلي المتمادي على لبنانتسبب في خسائر إنسانية فادحة، إذ يتجاوز عدد الضحاياحتى الآن أكثر من 3 آلاف و200 شهيد، من بينهم أكثر من775 طفلاً وسيدة، والجرحى أكثر من 4 آلاف شخص منبينهم  أطفال ونساء، وذلك خلال كلمته بالقمة العربيةالإسلامية التي استضافتها العاصمة السعودية الرياض في 11 نوفمبر الجاري.


وأضاف ميقاتي إن التصعيد الإسرائيلي أجبر حواليمليون و200 ألف لبناني على النزوح في غضون ساعاتمعدودة، ما أضاف عبئًا جديدًا على كاهل الدولة اللبنانية،وعلى الوضع الداخلي المثقل بالأزمات المتتالية.
وقد عبر المفكر الفرنسي رايموند أرون (Raymond Aron) عن هذا الوضع قائلًا: "الجنون على التاريخ"، وتؤكدالأدبيات القانونية الفلسفية الحديثة أن الترجمة العملية لحماية الأفراد يمكن التعبير عنها بـ"تجنب الألم غير المشروع"، أي تجنب الوضعيات والممارسات التي تتسبب في المعاناة.

 
وقد نجح المشرع الدولي في التوقيع على العديد من الاتفاقيات، التي تنص على الجرائم الدولية، خاصة الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وهكذاأصبحت هناك معالم واضحة لقانون دولي جنائي، يحدد الأفعال الإجرامية، وأيضًا المسؤولية الجنائية لمرتكبي تلك الأفعال، وأضحى المجتمع الدولي يمتلك معاهدات تاريخية تسعى لـ "أنسنة" الحروب، وتعمل لتقليل بشاعة النزاعات.


ورغم ذلك فإن القانوني الدولي يواجه العديد من التحديات، ومنها المعايير المزدوجة تجاه المجازر التي تجري على أرض فلسطين التي يتعرض شعبها، خاصة في غزة، لإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، حيث يرتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي أبشع الجرائم ضد المدنيين والبنية التحتية من خلال القصف بالقذائف المدفعية الثقيلة والصواريخوالقنابل، حيث تسببت تلك الهجمات المروعة في أسوأ دماريشهده القطاع منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك بحسببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. 


هذا الواقع المؤلم يؤكد ضرورة اتفاق دول العالم على إنقاذ البشرية من خلال تغليب الأبعاد الأخلاقية والإنسانية في مواجهة سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة، وينبغي تغليب مصلحة الضعفاء حول العالم بما فيهم شعب فلسطين، وأن يتم توفير مظلة حماية حقيقية تواجه من يحاول النيل من الإنسانية ويفرض سياساته بالاستقواء على الضعفاء من المدنيين.


ولعل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الصادر في العاشر من مايو 2024م، والخاص بأحقية دولة فلسطين في العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، يكون بداية لحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، وإقامة دولته المستقلة، وذلك بعد أن صوّتت 143 دولة لصالح القرار.


وينص هذا القرار على أن: "دولة فلسطين مؤهلة لعضويةالأمم المتحدة وفقًا للمادة 4 من الميثاق، لذا يجب قبولهاعضوًا بالمنظمة، وبناءً على ذلك، يوصى القرار مجلس الأمنبإعادة النظر في هذه المسألة بشكل إيجابي".


وتؤكد الأوضاع العالمية الحالية أن مصالح الشعوب بالعالمفي انتشار السلام كحتمية إنسانية وضرورة عملية لتطبيققواعد القانون الدولي الإنساني.


وأخيرًا يمكن القول إن الواقع الأليم يؤكد صعوبة تغليبالبعد الإنساني في العلاقات الدولية، والحالة الفلسطينيةخير دليل على ذلك، بسبب استمرار ازدواجية المعاييروالهيمنة والدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، والصمتالدولي على هذه الجرائم المستمرة.
 
كاتب المقال.. أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي– جامعة بني سويف