من الشاشة إلى البيت الأبيض.. كيف غيرت المناظرات الرئاسية وجه السياسة الأمريكية؟

منبر المناظرات الرئاسية الأمريكية
منبر المناظرات الرئاسية الأمريكية

في قلب الأنتخابات الأمريكية، تقف المناظرات الرئاسية شامخة كأحد أهم مظاهر الحياة السياسية في الولايات المتحدة، وهذه اللحظات المتلفزة، التي تجمع بين الطموح والتوتر والدراما، ليست مجرد مواجهات بين مرشحين، بل هي لحظات تاريخية تشكل سياسيات تؤثر في مصير العالم، ومع اقتراب موعد المناظرة المرتقبة بين الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب يوم الخميس القادم، نسترجع أبرز اللحظات التي شكلت تاريخ هذه المواجهات الكلامية الساخنة، وكيف أن كلمة واحدة أو نظرة عابرة يمكن أن تغير مجرى التاريخ.

 

الولادة التلفزيونية

في عام 1960، شهد العالم ولادة عصر جديد في السياسة الأمريكية، فللمرة الأولى، دخلت الكاميرات التلفزيونية حلبة المنافسة الرئاسية لتنقل مناظرة تاريخية بين المرشح الديمقراطي الشاب جون كينيدي ونائب الرئيس الجمهوري المخضرم ريتشارد نيكسون.

شاهد هذه المناظرة 70 مليون أمريكي، ليكتشفوا أن السياسة في العصر التلفزيوني لها قواعد جديدة، فبينما ظهر كينيدي وسيمًا ومفعمًا بالحيوية، بدا نيكسون متعبًا ومريضًا، رافضًا وضع مساحيق التجميل.

هذه المناظرة لم تكن مجرد نقاش سياسي، بل كانت درسًا في قوة الصورة، فقد ركز المشاهدون على ما رأوه أكثر مما سمعوه، مما منح كينيدي أفضلية حاسمة قادته في النهاية إلى البيت الأبيض. هكذا، ولدت حقبة جديدة حيث أصبح المظهر والكاريزما جزءًا لا يتجزأ من المعادلة السياسية.

 

زلات اللسان القاتلة

بعد 16 عامًا من الغياب، عادت المناظرات التلفزيونية في عام 1976 لتشهد واحدة من أشهر الزلات السياسية في التاريخ، إذ وقف الرئيس جيرالد فورد أمام منافسه الديمقراطي جيمي كارتر ليقول جملة هزت عرشه: "لا توجد هيمنة سوفيتية على أوروبا الشرقية، ولن تكون هناك أبدًا في ظل إدارة فورد."

هذا التصريح، الذي وصف بأنه "خطأ فادح"، أظهر فورد وكأنه منفصل عن الواقع الجيوسياسي في ذروة الحرب الباردة، إذ لم تكن مجرد زلة لسان عابرة، بل كانت لحظة حاسمة غيرت مسار الانتخابات الأمريكية، فقد استغل كارتر هذا الخطأ بمهارة، مصورًا نفسه كالبديل الأكثر دراية بالشؤون الدولية، مما ساهم في نهاية المطاف في فوزه بالرئاسة.

هذه الحادثة أصبحت درسًا لكل سياسي في أهمية الدقة والحذر في كل كلمة يتفوه بها أمام الكاميرات، حيث يمكن لجملة واحدة أن تقوض حملة انتخابية بأكملها.

أقرا أيضا إستراتيجيات خفية لفريقي ترامب وبايدن قبل المناظرة

سحر الفكاهة

في عالم السياسة المشحون، أثبتت الفكاهة أنها سلاح فعال في ترسانة المرشحين الرئاسيين، وقد برز رونالد ريجان كسيد هذا الفن في المناظرات.

في عام 1980، واجه ريجان الرئيس جيمي كارتر في مناظرة حاسمة، وعندما بدأ كارتر في توجيه اتهامات لريجان حول موقفه من الرعاية الصحية، رد ريجان  بعبارته الشهيرة: "ها أنت تفعلها مرة أخرى" مصحوبة بضحكة خفيفة.

هذه العبارة البسيطة، أثارت ضحك الجمهور وخففت من حدة الهجوم، مظهرة ريجان  كشخصية كاريزمية قادرة على التعامل مع الضغط بخفة ظل.

وفي عام 1984، واجه ريجان تحديًا آخر عندما أثيرت مخاوف حول عمره، الذي كان أنداك 73 عامًا، وبدلاً من الدفاع عن نفسه بجدية، قلب ريجان الطاولة بنكتة ذكية قائلاً إنه لن يجعل العمر قضية في هذه الحملة، ولن يستغل "شباب وقلة خبرة" منافسه، هذه اللحظة الفكاهية نزعت فتيل قضية كانت يمكن أن تضر بحملته بشدة.

هذه الأمثلة تظهر كيف يمكن للفكاهة الذكية أن تكون أداة قوية في المناظرات، تساعد المرشحين على تجاوز المواقف الصعبة وكسب تعاطف الناخبين.

 

عصر الاستقطاب

مع تزايد حدة الاستقطاب السياسي في أمريكا، شهدت المناظرات الأخيرة مواجهات أكثر حدة وشراسة، وقد بلغت هذه المواجهات ذروتها في انتخابات 2016 بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون.

تشير البيانات التاريخية أن المناظرة الأولى بينهما جذبت 84 مليون مشاهد أمريكي، وهو رقم قياسي يعكس حجم الاهتمام والتوتر المحيط بالانتخابات الأمريكية.

وفي المناظرة الثانية، تبادل المرشحان الإهانات بشكل غير مسبوق، إذ وصفت كلينتون لاحقًا في كتابها كيف شعرت بالاشمئزاز من تصرفات ترامب، قائلة إنه جعل جلدها يقشعر بتعقبه لها حول المسرح.

هذه المواجهات الحادة لم تكن مجرد تبادل للآراء السياسية، بل عكست انقسامًا عميقًا في المجتمع الأمريكي. وقد أثارت تساؤلات حول مستقبل المناظرات ودورها في العملية الديمقراطية في عصر الاستقطاب الشديد.

 

التحديات المعاصرة: كوفيد والفوضى

وصلت المناظرات إلى منعطف جديد في عام 2020، في خضم جائحة كوفيد-19، إذ شهدت المناظرة الأولى بين دونالد ترامب وجو بايدن فوضى غير مسبوقة، حيث قاطع ترامب منافسه والمحاور بشكل متكرر.

وأدى سلوك ترامب العدواني إلى نفور الناخبين المترددين، ووصل الأمر إلى حد دفع بايدن للقول: "هل ستصمت يا رجل؟ هذا أمر غير رئاسي للغاية."،هذه اللحظة عكست تحديات جديدة تواجه المناظرات في عصر يشهد تآكلًا للأعراف السياسية التقليدية.

كما شهد عام 2020 تحديًا آخر عندما تم تحويل المناظرة الثانية إلى صيغة افتراضية بسبب إصابة ترامب بكوفيد-19، مما دفعه للانسحاب، وهذا الحدث سلط الضوء على كيفية تأثير الأزمات الصحية العالمية على أساسيات العملية الديمقراطية.