بادىء ذي بدء ، أود أن أسوق لكم معنى الفن في معجم المعاني : “ الفَن : بفتح الفاء؛ جمع أفنان وفنون وأفانين؛ وهو مهارة يحكمها الذوق كالرسم والموسيقا والغناء؛ وهي التي تثير العواطف كالحُب والإعجاب “ . إذن فإن تعريف “الفن “ ينطوي على جملة الوسائل التي يستعملها الإنسان لإثارة المشاعر والعواطف؛ وبخاصة عاطفة الجمال كالتصوير والموسيقا والشعر والرسم والنحت .. والغناء؛ ولابد أن يحكمها الذوق والموهبة؛ ويجب أن تُقدم في إطار جميل ليكون بهجة للناظرين والسامعين والمتلهفين لتحريك الشجن الجميل داخل النفس البشرية .
وعليه فإن لغتنا لعربية العصماء لم تختر كلمة ( الفن ) اعتباطًا؛ للتعبيرعن مفهوم ومفاهيم الجمال في أبهى صوره؛ لأن الفن هو الجمال والإبهار والانبهار والدهشة؛ ولم يهبْ الله العلي القدير سمات الجمال للمرأة فقط باعتبارها ـ بقدرته ـ تصنع أغلى سلعة في الوجود وهي الإنسان؛ بل منحه للرجال أيضًا ـ ولنا أعظم المثال في “سورة يوسف” عليه السلام ـ وهذا سياقٌ آخر من سياقات الجمال ليست في صُلب موضوعنا ـ ومنحه للطير والشجر والكائنات في أعماق البحور والأنهار!
ومن الفن يكون الفنان الذي يحمل سمات تؤهله لأن يحوز على لقب (فنان) وهو مسمى لو تعلمون عظيم ..فهل سمعتم بمقولة :إن الله أعظم فنان؟! ففي صنعه للكون تتجسد تلاوين من الفنون تغطي صنوف الفنون كافة، التي حاكاها الإنسان واتخذت مسمياتها لتصبح الموسيقى تحاكي صوت الطبيعة والغناء بأنغام يضعها الملحن مستوحاة من موسيقا الحياة ،والفن التشكيلي يحاكي التابلوهات الربانية في إبداع الخالق سبحانه في ألوان الشجر والزهوروالطيور بل في الشعب المرجانية في أعماق البحور ..إلخ،والمتتبع لكل فن ظهر في كل ركن من أركان البسيطة لوجد رابطا قويا بينها وبين جميل خلق الله أرضا وسماء، زرعا ونماء ،وسائر مخلوقاته .
مااردت قوله والتأكيد عليه،إن الفنان كائن مميز من بين الناس كافة،لما يخصه الله به من موهبة ربانية تجعله في منزلة تفوق غيره من أصحاب المهن الأخرى،وبناء عليه يجب على كل فنان أن يعي تماما تبعات هذه الهبة الالاهية الخاصة،فيصونها بغلاف من الأخلاق الرفيعة،ولايهدرها بصغائر التصرفات التي تسيء إليه وإلى غيره بطبيعة الحال،_ولا اقصد بكلامي فنانا بعينه ولا واقعة معينة_، فما أعرفه مذ نعومة أضفاري أن الفنان يمثل قدوة ومثلا أعلى يقتدي به جيل بأكمله،في سلوكه في المقام الأول ،وملبسه،ومنطوقه،وكل مايصدر عنه يكون تحت دائرة الضوء،لايغفر له أي هنة من الهنات ،بل يكون حسابه عسيرا من قبل جمهوره الذي سرعان ما يخيب ظنه فيه،ويصدم لكونه محاطا لديهم بهالة من الانبهار لايستطيع معها تقبل سقوطه في أي خطأ مهما كان..وإلا كيف يكون هو القدوة؟!!
والمتابع لكثير من فنانينا الكبار ،يجد وقائع خرج فيها البعض عن المألوف في ردود أفعاله بحسب المواقف،قد يلتمس للبعض العذر بسبب التقدم في العمر وفقدان القدرة على التحكم في ردود الأفعال وقد تكون بدافع من الغرور والعجرفة التي تصيب كثير من نجوم الصف الأول الذين يرون أنهم فوق النقد ولايطيقون ذرعا في اقتراب أحد منهم، ليحتفظوا بمسافة تفصل بيهم وبين جمهورهم ،والبعض الآخر تميز بالثبات الانفعالي المطلوب في مواجهة أحداث فجائية غير متوقعة ،فكان مثالا يحتذى ومضرب للأمثال في حسن التصرف ،وسمو الأخلاق،وهؤلاء نحتفظ لهم برصيد قوي من الاحترام والتبجيل والمحبة الدائمة مهما مر الزمان .
وإذا أردت أن أضرب مثلا على السلوكين،فذاكرتي مازالت تحتفظ بموقف تعرض فيه عندليبنا الأسمر المحبوب عبد الحليم حافظ ،رحمه الله ،عندما أصر أحد معجبيه ويعمل ترزيا قام بتصميم جاكيت يعبر عن أغنية حليم التي كان سيشدو بها(قارئة الفنجان) أن يخلع عن حليم جاكتته ويلبسه ماطرزه له ،تضايق حليم من إلحاح الرجل ،وازداد ضيقه بالهرج والمرج الذي ملأ صالة المسرح وصفير الجمهور المتعالي الأصوات،وقد كان حليم في مرضه الأخير لايقوى على كل هذا العبء النفسي من جمهور ضحى من أجله بآخر مايملك من طاقة ليسعده بصوته وإحساسه المرهف،واستن النقاد سكاكينهم لحليم انتقادا لاذعا واتهموه بالغرور ،وأتذكر تسابق البرامج على استضافة هذا الترزي صانع الجاكت برسم فنجان على ظهره والذي أحب حليم حب (الدببة) وتسبب في هذا المشهد العجيب آنذاك،وكانت آخر حفلات حليم حيث وافته المنية بعده بفترة وجيزة تاركا في نفوس من هاجموه وخز الضمير.
وهناك حادثة أخرى لا أنساها وقد يتذكرها معي الكثير من القراء وهي سقوط سيدة الغناء العربي أم كلثوم علي خشبة مسرح الأولمبيا بباريس نوفمبر ١٩٦٧ من جراء محاولة أحد معجبيها تقبيل قدميها
و هي تغني “ الأطلال “ فما كان منه إلا أن أمسك بقدميها و كاد أن يتسبب في ارتطام رأسها بأرضية المسرح، وسارع القائمون على حفظ النظام بقاعة المسرح بإبعاده عن خشبة المسرح حتى تستعيد أم كلثوم توازنها وتستكمل وصلتها الغنائية بأمان في هذا العمر حيث كانت في ال٧٠ من عمرها وقتذاك،ومر الأمر بسلام دون توجيه أي كلام جارح لهذا المعجب الجامح!
وبطبيعة الحال فلا ينبغي أن نلقي باللائمة على طرف واحد فقط دون الآخر في أي حادثة أو موقف،وكما نطالب الفنان بالتحلي بسلوكيات معينة تحافظ عليه كقدوة مجتمعية وأيقونة أخلاقية تبث قيما رفيعة،على صعيد آخر نطالب الجمهور بالانضباط السلوكي في التعامل مع المشاهير من الفنانين،والتحلي بقدر من الاتزان في التعبير عن الإعجاب دون ضغط والحفاظ على مسافة تكفل حرية الفنان في الحركة وسط المعجبين في أمان تام، فالفنانون معرضون لكثير من المخاطر أهمها الازدحام والتكالب الذي يعوق خطواتهم لتلبية مطالب الجمهور لالتقاط الصور او توقيع الأتوجرافات وغير ذلك من مظاهر التجاوب الإيجابي بين الطرفين ،فكل شيء يزيد عن الحد..ينقلب إلى الضد حتما..كما تعلمون!