«مائة ليلة وليلة» 7 قصص قصيرة للكاتبة نجوى عبدالجواد

 نجوى عبدالجواد
نجوى عبدالجواد

بدا بروفيسور محمود أكثر أناقة في هذه الليلة عن الليالي السابقة واستجاب لمداعبة أحد الحضور الذى أثنى على أناقته بأنه أراد أن يتشبه بمظهر بطل الليلة الذى يقدمه منتصر تحت عنوان "المقاتل الأنيق".

 يقول منتصر: علقت ندى على قصة حذاء السندريلا التى شاركتها من صفحة الصبي الفلسطيني أحمد بتأثرها الشديد بالقصة وقررت أن تنهج نهج "أحمد" وتحكي لنا قصة أسرتها كما حكي هو قصة "حذاء السندريلا" وهذا كان منشورها الذى عنونته "بالمقاتل الأنيق ".

"زخات المطر تضرب بقوة، أراها من خلف الزجاج المكسور تغسل وجه الأرض الأحمر، تنزاح المياه لتصنع بركا صغيرة في الأماكن المنخفضة التى تحيط ببيت جارنا المدمر. جادت السماء بالماء بعد أن منعه البشر، لم يرد الله أن نموت عطشي، لكم أتمنى أن يظل الماء بعيدا عن اللون الأحمر. أتعارك مع النوم عساه يزورني بعد أن جافانا جميعا، هلم أيها النوم أريد الهروب قليلا. أسمع جلبة في خارج الحجرة، طرقات على باب حجرتي وحجرة أخي، أيقظيهم، لاوقت لدينا، أوشك الفجر ولابد من التحرك.

الآن! الجو صعب في الخارج والليلة شديدة البرودة. يرد أبي على كلام أمي :ليس أصعب من الموت الذى يطاردنا فى كل لحظة، ستغادرون إلى مصر ومنها إلى هولندا. صوت لاهث يوقظني :هيا ياندي، هيا، أسرعي بارتداء ملابسك. نعم، نعم، لقد سمعت حديث أبي.

إذن انهضي بسرعة.

 لقد خذلتني أيها النوم ربما تعود إلىَّ في مصر. قفزت من السرير لأدخل في ملابسي، أمسح وجهي بحفنة من الماء المتبقي لدينا وشرعت في مساعدة أمي في إعداد الحقائب. يجب أن نكون في المعبر مبكرا لِمَ حمزة لم يستيقظ بعد؟ انهض يا حمزة، ليس الوقت وقت النوم.

اهدأ، اهدأ حمزة لم ينم إلا متأخرا وقد أعطيته منوما حتى يتخلص من الصداع الذى ألمَّ به منذ ُقُصف بيت أخيك ومنذ استشهد جيراننا وحُرم من محمود صديقه.

أيقظيه بأي شكل، صُبِّي عليه بعض الماء واصنعي له قهوة، أسرعي.

إلى حجرته دلف أبي يحضر أوراقنا وجوازات سفرنا وقمت وأمي بمهمة إيقاظ حمزة، بعض قطرات الماء على عينيه تحرك على إثرها من نومه و أقبلت أمي لتضع بين يديه كوبا من القهوة. أخرجي معطف أخيك والكوفية.

أحاول تلطيف الأجواء: آه معطفه الأنيق هدية الدكتور له من لندن. حمزة على السرير يسأل ماذا يحدث، لِمَ نحن مجتمعون حوله في هذا الوقت؟ هل ضُربَ البيت وهو نائم؟ يرد أبي :لن ننتظر حتى يُضرب مرة أخرى سنتوجه الآن إلى معبر رفح ومن مصر ستعودون إلى هولندا.

أضع المعطف على كتفيه وتحضر له أمي الكوفية، يزيحهما حمزة من عليه ويقول متجهما :هل سنهرب؟! بدا الغضب على وجه أبي، نهرب؟! تقولها لي أنا يا حمزة؟! أنا من ترك كل شىء من أجل وطنه؟! ألا تراني أمامك بالأزرق! جئت من المستشفى لأوصلكم وسأعود إليها

أنا يا حمزة أهرب!؟.

آسف يا أبي. وطنيتك ليست محل نقاش، لكننى ورثتها عنك ولن أغادر مثلك.

حمزة، الموت والدمار يحيطان بنا، حملتَ على يديك أبناء عمك وجيرانك وصديقك وأخاف أن أحملك وأختك يا بني.

الجهاد قدرنا يا أبي وأنت مؤمن بالله.

لستَ مؤهلا للقتال، أنت طالب علم، تسلَّح بعلمك وهلُمَّ لخدمة وطنك. أخشى بعد أن أحمل سلاح العلم ألا أجد وطنا أدافع عنه! هذه أقسى لحظات يمر بها وهو بحاجة لنا جميعا.

بصوت مخنوق :أنا بشر ياولدي أخاف عليكم.

ولو خاف الجميع فمن يصد العدو ويرد العدوان يا أبي ؟!

لاوقت للجدال، قلت هيا فليسمع الجميع.

أنا باقٍ يا أبي.سامحني

تتدخل الأم في الحوار: من أجلي وأختك يا حمزة، إننا سنعيق عمل أبيك، والدك سيكون مشغولا بنا عن جهاده بين المرضى والمصابين. هيا يا حبيبي، هيا.

أمام دموع أمي والضعف البادي في صوت أبي يتحرك حمزة معنا إلى السيارة. أراضٍ مقصوفة ، أشلاء يتجنبها أبي وأحيانا يحاول أخي النزول لجمعها لكن أبي يثنيه عن فعله خوفا من ضربات العدو، أمطار تحجب الرؤية فى أحيان كثيرة، في كل متر ننتظر أن تنقلب السيارة، أو تصاب بصاروخ، أو نموت حزنا وكمدا من فظائع ما نرى.

الصمت لغتنا داخل السيارة، تقطعه همهمات أمي أظنها دعاء لنا بالنجاة وكلمات يلقيها أخي من قبيل :هذا العالم لم يعد للأبرباء، كنت أقول ياربي الرحيم كيف تخلق النار لتعذب بشرا ضعيفا وأنت الرحيم! والآن عرفت أن هذا عدله، وأن هؤلاء القتلة ليس لهم إلا النار. يصمت ثم يعود ليحدِّث نفسه :لن نترك لهم العالم، نحن أحق منهم به. يحاول أبي بث الطمأنينة في قلوبنا:هانحن على مشارف المعبر، ستكونون بأمان، ينظر لحمزة ويقول :أنت رجلهم يا حبيبي.

يسخر حمزة :وهل يفر الرجل من المعركة؟!

 قلت لك ليس فرارا، يبحث عن كلمات يقولها :أنت يا حمزة طائر مهاجر وسيعود حتما.

أشرقت الشمس وتوقف أبي، لا مكان لتعبر خلاله السيارة، حشود سبقتنا ربما منذ أيام أو أسابيع! مرضى، مصابون ، أجانب، مزدوجو الجنسية... دخلنا صالة المعبر فى حوالي السابعة صباحا، انتظرنا من ينادي على أسماء المغادرين، سمحوا لأبي بمرافقتنا حتى العبور، أبي طبيب مشهور، شفعت له شهرته في التحرك معنا، دخلنا الحافلة الذاهبة لصالة المغادرة داخل المعبر، اجلسوا، اجلسوا هكذا أمرنا أبي بعد النزول إلى صالة المغادرة، نحن الآن في انتظار توجيهات رجال الأمن داخل المعبر، سينادون علينا لاستلام جوازات السفر. هيا، هيا سوف نصعد إلى الحافلة للتوجه للبوابة المصرية،   أشفقت على أبي المنهك أصلا من كثرة الحركة والتنقل و أشفقت علينا جميعا من مشاهد الجرحى والمصابين وآلام المرافقين وبكاء المودعين، صرنا نتحرك خلف أبي حركة آلية، أما أخي فهو في عالم آخر، جسده حاضر وروحه شاردة . لِمَ تسافر يا حمزة؟

وقف صامتا أمام الضابط المصري الذي يمسك بجواز سفره،  ويوجه إليه سؤالا روتينيا. يتدخل أبي بسرعة، هو طالب طب في هولندا سيعود لدراسته مع أمه وأخته وأنت ترى ما يجري يا بني. استلمنا الجوازات وأمرنا بالتوجه إلى ساحة الصالة المصرية لنستقل الحافلات المتجهة إلى القاهرة، سمعنا ضربات العدو وكأنها فوقنا تماما دخلنا الحافلة

والتفت أبي يبحث عن حمزة الذى استأذن لدخول دورة المياه، طال انتظارنا وأوشكت الحافلة على التحرك، لن أغادر يا أبي آسف جدا سامحوني. هكذا جاء صوته عبر الهاتف.

سامحوني. هكذا جاء صوته عبر الهاتف.

بعد هذه المعاناة ياحمزة من أجل إخراجكم! .

آسف يا حبيبي، حاولت وحاولت حتى اللحظة الأخيرة، لكن لم أستطع؛ شعرت أننى أخون دماء آلاف الشهداء والجرحي، والأرض التى ارتوت بدمهم.

حمزة، حمزة.

أغلق حمزة الهاتف ولم يرد على اتصالاتي وأمي، نشيج أمي يسمعه الجميع، إذن نعود، لن نترككم.

لا، لا. يرفض أبي بشدة. ابقوا في مصر بجوارنا وسأجد أنا حمزة وسأحاول معه مرة ثانية، سيلحق بكم قريبا إن شاء الله. يلوِّح أبي لنا بيديه، اهتمي بنفسك وأمك يا ندى. كلماته الأخيرة من خارج الحافلة. تمزق قلبك ياأبي بين غربتنا وبين حمزة الذى اختفى وبين الموت الذى يحاصرك. مشاعر غريبة، الأمان الذي كنت أبحث عنه لاطعم له بدون أبي وحمزة، وبرغم احتضان جيراننا المصريين لنا و مشاعرهم الصادقة التى أحاطونا بها فإن جسدينا بمصر وقلبينا هناك في الوطن المحاصر، معهم، ومع أبي وحمزة نقضي يومنا . على فترات بعيدة يتصل أبي عبر الهاتف أو يرسل لنا مع القادمين من غزة من يبلغنا أنه مازال حيا! . كما عهدناه لن يلقى سلاحه مهما حاصروه. يحاول أن يكذب ويطمئننا على حمزة، لكن الكذب المجال الوحيد الذي لايتقنه، يفضحه صوته المخنوق الملتاع، أو روايته غير المتقنة.

في صلواتها تدعو، على مائدة الطعام الذي هدناه تدعو، في نومها تدعو، في أحلامها تدعو. أيقظتها صرخاتي :حمزة،!، حمزة!.

هبت مذعورة لتجدني محدقة في الهاتف بجوارها. انتصرت على عينيها المغمضتين وخطفت الهاتف من يدي. هو يا أمي، هو، شعره، وقفته، معطفه، الحذاء الذى أهديته له فى عيد ميلاده. مرات ومرات تشاهد ندى وأمها الفيديو الذي يظهر فيه شاب أنيق ثابت الخطوة رابط الجأش، يحمل سلاحه و يصوبه بكل هدوء وثقة نحو دبابة العدو لتدمر تدميرا . من الخلف تم التصوير، لكن كيف لاتعرف قلوبهم حمزة، كيف تغيب عن أعينهم صورته. كم تمنيت أن أكون رسامة لأسجل ملامح أمي وهي تنبض بالحياة، ابتسامة ودموع، سجود لله وقلق لم يختف، لهاث خلف أي معلومة تخص الفيديو. هذا البطل ابني حمزة، هكذا تعلق على الفيديو مع الجميع. رسالة أبي وصلتنا بعد انتشار الفيديو :اطمئنوا حمزة بخير. لم نستطع تتبع كل التعليقات على الفيديو لكن ما ما أهداه لنا الناس هو الاسم الجديد الذي قرر الجميع أن يهديه لحمزة، إنه المقاتل الأنيق.

سرت البهجة والأمل والتكبير في القاعة وكأن الحدث واقع الآن. شاركهم بروفسور محمود التصفيق الحار وشكر لهم حسن التفاعل وودعهم على وعد بلقاء جديد وقصة "ثورة الأواني الفارغة".