خالد أبوالليل: أحمد شمس الدين الحجاجي صانع الأسطورة

أحمد شمس الدين الحجاجي
أحمد شمس الدين الحجاجي

الجزء الثانى من عنوان هذا المقال مستلهم من واحد من أهم كتب أستاذنا الجليل د. أحمد شمس الدين الحجاجى (1935- 2024)، هذا الكتاب الذى خصصه لدراسة واحد من أهم الروائيين العرب الطيب صالح مركزا على أهم عنصر ميز كتابات الطيب صالح، وهو التماس مع الأسطورة واستلهامها، وهو العنصر المشترك بينه وبين اهتمامات الحجاجى العلمية، المتمثلة فى دراسة الأسطورة، التى اعتبرها مرتكزا ثقافيا مهما فى تاريخنا العربي- بل الإنساني- الإبداعي.
 
انشغل الحجاجي- فى دراساته- بمشروع علمى أساسي، يتمثل فى إذابة الفجوة بين الشعبى والرسمي، والشفاهى والكتابي، والنخبوى والعامي. ورأى أن هذا الحاجز الوهمي، أو المصطنع بينهما، ليس حقيقيا، فانطلق من البحث عن جذور الإبداع العربي، فى شتى أنواعه الأدبية، فانتهى إلى أن أصول هذه الأنواع الأدبية، التى يُطلق عليها "رسمية"، تعود إلى أصول شعبية، وتحديدا إلى مصدرين رئيسيين، هما الأسطورة، والأدب الشعبي. فالمتأمل لكتابات الحجاجى النقدية والإبداعية على اختلافها، سيلحظ أن هذه الكتابات، التى اهتمت بالتأصيل للأنواع الأدبية العربية (المسرح والرواية والشعر والقصة القصيرة) تعود إلى أصول شعبية لها. فالمسرح- من وجهة نظر أستاذنا- يعود فى جذوره إلى الأسطورة، والطقوس والشعائر الدينية، فلقد ولد المسرح فى رحم المعابد، والممارسات الطقوسية والشعائرية، وكذلك معتمدا على الفنون الأدبية الشعبية، مثل: خيال الظل والأراجوز وصندوق الدنيا.

اقرأ أيضاً  |تاريخ العميد فى مجمع الخالدين

وكذلك ولَّدت أسطورة الجن الملهم شعرنا العربى القديم، فلكل شاعر جنى يلهمه إبداعه. ومن رحم السيرة الشعبية، عرف الأدب العربى فن الرواية.

 




فى حين تعود القصة القصيرة- فى جذورها- إلى فنون الحكايات الشعبية، والمقامات وقصص ألف ليلة وليلة. لذلك ركزت دراسات الحجاجى على دراسة هذه الأصول الشعبية، وتتبعها.

يؤكد ذلك تتبعنا لدراسات الحجاجي، التى ترتكز جميعا على هذا الأصل الشعبي، من خلال اتخاذ الأساطير أو السير أو الحكايات الشعبية مادة للدراسة تارة، أو من خلال عناوين دراساته تارة أخرى؛ على نحو ما تمثلها العناوين التالية:
الأسطورة فى المسرح المصرى المعاصر
انسلاخ الشعر من الأسطورة
الأسطورة والشعر العربي
الأسطورة فى الأدب العربي
الطيب صالح: صانع الأسطورة
قنديل أم هاشم بين العلم والأسطورة
مولد البطل فى السيرة الشعبية
النبوءة أو قدر البطل فى السيرة الشعبية
مولد البطل بين الرواية والسيرة الشعبية
رواية "سيرة الشيخ نور الدين"

-1-
فى كتابه القيم "العرب وفن المسرح/ 1975"، ينشغل أحمد شمس الدين الحجاجى بقضية البحث عن الأصول، بمحاولة الإجابة عن سؤال: لماذا لم يعرف العرب فن المسرح؟ فقد طالت العرب اتهامات عنصرية وعقلية جرَّاء عدم معرفتهم ببعض الفنون مثل: المسرح والملحمة والأسطورة؛ حيث استغل بعض المستشرقين هذا الأمر، من أمثال الفرنسى إرنست رينان، ومن تبعه؛ ليقدحوا فى العقلية العربية، ووصفها بأنها عقلية عاجزة عن التفكير فى الكليات، ولا تنظر إلا إلى الجزئيات، ليخلصوا إلى القول بقصور العقلية العربية.

كان البحث عن إجابة السؤال المتعلق بأسباب عدم معرفة العرب لفن المسرح، هو الشغل الشاغل لهذا الكتاب، مما انتهى بالدكتور الحجاجى إلى طرح نظريته المهمة، التى يخلص فيها إلى "أن الفن حاجة اجتماعية". فالدافع وراء ظهور فنون إبداعية، أو ازدهارها، أو اختفائها، يكمن فى مدى حاجة المجتمع إليها، بما تهيؤه ظروفه الاجتماعية والثقافية، إلى هذا الفن، أو عدم حاجته إليه. تدافع هذه النظرية عن عقليات الأمم، وتجعلنا نعيد النظر فى الأسباب التى جعلت الشعر- مثلا- ديوانا للعرب، دون أن يكون للفنون النثرية المكانة نفسها.

كما تستطيع أن تجيب هذه النظرية عن أسباب عدم معرفة العرب بفنون مثل المسرح والملحمة، وكذا الأسطورة، فى حين عرف العرب فنونا أخرى مثل المقامات والسير الشعبية. وكذلك عدم معرفة الغرب بفن السيرة، فى حين عرف الغرب فن الملحمة.

إلى غير ذلك من تلك الفنون، التى تعد ظروف المجتمع المختلفة بمثابة الدافع الرئيس لمعرفة هذا الفن أو ذاك. من خلال هذه النظرية يتتبع الحجاجى العصور العربية التاريخية المختلفة، ليحاول التعرف على الظروف التى عاقت ظهور فن المسرح، بدءا من العصر الجاهلي، ومرورا بالعصور الإسلامية، والإسلامية الوسيطة، حتى وصولنا إلى العصر الحديث، الذى يعرف فيه العرب فن المسرح، دون إن ينفى هذا وجود ظواهر أدائية شعبية خلال تلك العصور كانت بمثابة إرهاصات ساهمت فى ظهور فن المسرح لاحقا.  

-2-
 بقدر ما ينتمى أحمد شمس الدين الحجاجى إلى أبناء جيله، بمعاصرته – عمريا – لهم، فإنه يمثل نموذجا مختلفا عن الكثيرين منهم فى الطريق الذى اختاره لنفسه. وذلك على النحو الذى يجعلنا نصنفه فى دائرة العلماء الموسوعيين، الذين لم يتوقفوا عند حدود تخصصهم الدقيق "المُقدَّر" لهم.

هذه الدائرة التى تضم أسماء مثل: عباس محمود العقاد (1889- 1964)، طه حسين (1889- 1973)، توفيق الحكيم (1898- 1987)، شوقى ضيف (1911- 2005)، حسين نصار، وغيرهم الكثير.

فالحجاجى بدأ حياته العلمية دارسا مسرحيا خالصا، فكتب رسالته المهمة التى نال بها درجة الماجستير  عام (  1965  )، بعنوان "النقد المسرحى فى مصر فى الفترة (1876-1923)"، ثم تقدم برسالته المعنونة ب "الأسطورة فى المسرح المصرى المعاصر"، التى نال بها درجة الدكتوراه عام (1973). ولا نعرف أهى الميول الشخصية التى دفعت الحجاجى إلى خوض الكتابة فى مجالات معرفية أخرى؟ أم هو التخصص (أعنى المسرح، ذلك العلم البينى الذى يتشابك مع مجالات معرفية أخرى) هو الذى دفعه للكتابة فى هذه المجالات الأخرى؟ ففى الماجستير تشابك المسرح مع النقد مع الدراسة التاريخية، فى حين تشابك المسرح – فى الدكتوراه – مع علم الأساطير Mythology.

وأغلب الظن أنْ قد توافر العاملان، عامل الرغبة لدى الحجاجي، وعامل مساعدة التخصص له، فى تحقيق طموحاته العلمية وتنوعه الإنتاجي، الذى يتسع لمجالات متنوعة. لذلك نجد الحجاجى فى عام 1976 يتجه لدراسة الأدب الشعبي، بمحاولته جمع "حكايات الأشباح والأرواح" من مدينة الأقصر، ثم اتجاهه فى عام 1978 إلى جمع الروايات الشفاهية للسيرة الهلالية من محافظتى قنا وأسوان.

وهو ما يعد مدخلا مهما له – فيما بعد – لخوض الكتابة فى الأدب الشعبي، ثم تخصصه فيه. إلى جانب الكتابة فى الأدب الشعبي، فإنه كتب أيضا  فى مجال الرواية العربية، فكتب عن الطيب صالح، ويحيى حقي، وغيرهما. وقد كانت القضية المحورية الأساسية له التى احتلت جزءا كبيرا من أبحاثه، هى محاولة التأصيل للأنواع الأدبية العربية، على نحو ما سبقت الإشارة.

من هنا كان انشغاله فى عدد من أبحاثه، ومشاركاته فى المؤتمرات؛ لإثبات وجهة نظره هذه وتدعيمها، فكتب عن العلاقة بين الرواية العربية والسيرة الشعبية، مركزا – بشكل أكبر – على صورة البطل فيهما. لقد مثَّل ذلك اتجاها عربيا أو قوميا فى التأصيل لأنواعنا الأدبية العربية؛ ليقف مدافعا عن ذلك فى وجه الاتجاه التغريبى الذى يُرجع نشأة كل فنوننا الأدبية الحديثة، التى لم تُعرف قديما مثل المسرح والرواية والقصة القصيرة، إلى التأثر بالغرب. ولم يُغالِ الحجاجى – فى وجهة نظره – إذ مع قوله بوجود تلك العلاقة بين القديم والحديث، والشعبى والرسمي، فإنه لم ينفِ وجود علاقات تأثير وتأثر بين العربى والغربي، على نحو ساهم فى الارتقاء ببضاعتنا الأدبية لتكون على مستوى عالمي.

كذلك، فقد اتجه الحجاجى إلى الكتابة فى الشعر العربي، قديمه وحديثه، من خلال دراسة العلاقة بين هذا الشعر والأساطير، وذلك وفق منهج علمى رصين.

فراح يدرس الأسطورة فى الشعر العربى القديم، فكتب عن "الأسطورة والشعر العربي: المكونات الأولى/ 1984"، و"انسلاخ الشعر من الأسطورة/ 1991". هذا فى الوقت الذى كتب فيه عن أعلام الشعر العربى الحديث، وتحليل شعرهم، فكتب عن صلاح عبدالصبور "الفيض والنضوب والإبحار فى ذاكرة الشعر/ 1995"، كما درس أيضا "تراث الصعيد فى شعر أمل دنقل".

لقد انعكس هذا الاهتمام المعرفى المتنوع، وتعدد المجالات المعرفية التى كتب فيها، فيما قام الحجاجى بتدريسه. حيث قام بتدريس مواد المسرح والأدب الشعبى والشعر العربى والرواية والنقد فى قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة والجامعات المصرية والعربية، سواء فى مرحلتى الليسانس أو الدراسات العليا، أو فيما تعكسه عناوين رسائل الماجستير والدكتوراه التى قام بالإشراف عليها.

وهو ما يعد تجسيدا للتنوع المعرفى الذى يتميز به، الأمر الذى يجعله أستاذا بكل تخصص قام بتدريسه من هذه التخصصات السابقة، الأمر الذى يصعب معه تصنيفه تخصصيا. فلقد كتب وأبدع فى كل مجال إبداع كل متخصص فى مجاله، إن لم يكن قد تفوق  على عدد كبير منهم.


ولم يتوقف الحجاجى عند حدود كتاباته النقدية فى المجالات السابقة، وإنما وجدناه يقتحم مجال الكتابة الأدبية، فكتب فى المسرح "الخماسين/ 1987"، كما كتب شعرا غير منشور. غير أن العمل الأدبى الذى لقى شيوعا وشهرة كبيرة، والذى يعتز به الحجاجى نفسه، فيتمثل فى روايته "سيرة الشيخ نورالدين/ 1986"، والتى يعتبرها مولوده الأدبى الأهم فى حياته، الذى كُتِب فى لحظة خلق إبداعية خاصة جدا لم ولن تتكرر، بل إنها أجهضت أى محاولات إبداعية تالية. ولقد توجت هذه الرواية بأن قدمت فى مسلسل تليفزيونى فى رمضان 2006، تحت عنوان "درب الطيب".

-3-
فى أبريل عام 1991، يُصدر أحمد شمس الدين الحجاجى أول كتبه عن السير الشعبية العربية، وهو كتاب "مولد البطل فى السيرة الشعبية"، الصادر عن دار الهلال.

توقف الحجاجى – فى هذا الكتاب – أول ما توقف عند مصطلح "ميلاد البطل". فالمصطلح لا يشير - على نحو ما يرى الحجاجى - إلى المعنى الظاهرى الضيق، أى لحظة ولادة البطل، وإنما يطلقه الحجاجى على نحو أوسع؛ ليشمل إحدى الحلقات وأهمها، التى يمر بها بطل السيرة. فهو يعنى بها "لحظة أكبر من هذه اللحظة؛ إذ هو يستغرق زمنا أطول منها بكثير، فهو تناولٌ لعالم البطل قبل ولادته ثم تناوله وليدا وطفلا حتى تنتهى مرحلة العبور، وهى مرحلة التعرف والاعتراف/ ص 11".

ويعد استخدام مصطلح "المواليد" فى ثنايا دراسة علمية ترسيخا للمبدأ الذى اختطه المؤلف لنفسه، وهو ضرورة احترام المصطلحات المحلية التى يستخدمها الرواة الشعبيون، ويطلقونها على أنواعهم الأدبية الشعبية. فالمواليد – كما يقول الحجاجى نفسه – "مصطلح متعارف عليه بين الراوى  الشعبى وبين جمهوره. وقد أخذت هذا المصطلح من أفواه رواة السيرة وجمهورها فى محافظتى "قنا" و"أسوان" فى مصر العليا/ ص 10، 11".

وهنا يمكن أن نسجل اختلافا شكليا حول استخدام المصطلح الرسمى "مولد البطل" فى العنوان بدلا من استخدام المصطلح الشعبى "ميلاد أو مواليد البطل"؛ إذ كنت أفضل استخدام المصطلح الثاني؛ لأنه أكثر اتفاقا مع هدف الكتاب ومضمونه من الثاني، الذى قد يفهمه البعض على أساس ظاهر معناه، فيقصرونه على لحظة ولادة البطل.

أما عن المنهج الذى حدده المؤلف لنفسه – فى هذا الكتاب، وفى غيره من مؤلفاته فى الأدب الشعبى – فهو لم يعتمد على أحد المناهج النقدية المعروفة (النفسى – الاجتماعى – الشفاهى والكتابي) مما سبق له استخدام بعضها وغيرها فى مؤلفاته عن الأدب الفردي، فى مجالات الرواية والشعر والمسرح. فلقد آثر المؤلف فى دراساته عن الأدب الشعبى أن ينطلق من النص نفسه.

فالنص كما يقول: "هو الأساس الذى يكشف الضوء عن عالم المواليد، فالعمل كله (أى الكتاب) محاولة لإعادة قراءة نصوص السيرة فى بابها الأول، مواليد البطل، للوصول إلى العناصر المكونة لهذه النصوص/ ص 11".

والمقصود بالنص هنا هو هذا النص فى إطار سياقه الاجتماعى الثقافى الذى يؤدى فيه، أو ما يمكن أن نطلق علية "ما وراء النص Meta text".

تقع الدراسة فى سبعة فصول، يتوقف فى أولها عند "المصادر: الراوى والرواية". وفيه يقسم الرواة إلى قسمين. الأول: رواة لم يلتق بهم، وهم نساخ نصوص السير الشعبية العربية المدونة.

والثاني: الرواة الشفاهيون، سواء هؤلاء الذين التقاهم مباشرة وسجل معهم، مثل النادى عثمان وعوض الله عبدالجليل وعبدالسلام حامد والحاج عبدالظاهر، أو هؤلاء الرواة الذين لم يلتق بهم مباشرة، بل أخذ عمن قام بالتسجيل معهم، بعد أن اطمأن لعملية الرواية. ويسرد المؤلف فى هذا الفصل – أيضا – ظروف تجربته الميدانية وملابساته، والتقائه بالرواة الشعبيين، هواة ومحترفين.

يتعرض المؤلف فى هذا الفصل إلى قضيتين مهمتين، هما: 1- ما المصطلح الذى يمكن أن نطلقه على ذلك النوع الأدبي؟ هل هو مصطلح "سيرة" أم "ملحمة"؟ فهناك عدد من دارسينا العرب الذين أطلقوا مصطلح "ملحمة" على ذلك النوع الأدبي؛ لدافع قومى متمثل فى الدفاع عن العقلية العربية، التى اتهمها المستشرقون بالقصور والعجز والجزئية.

وهى نظرة بدأت مع الفرنسى أرنست رينان ثم دى بور، ودعمها جورج جيكوب وجرنباوم ونيكلسون. وقد وافقهم عليها عدد من الدارسين العرب، مثل: العقاد وأحمد أمين ومحمد غنيمى هلال. وقد أكدوا تلك النظرة من خلال عدم معرفة العرب لعدد من الفنون الأدبية التى عرفتها الأمم الأخرى، مثل الأسطورة والملحمة والمسرح. من هنا وجدنا عبدالحميد يونس - ثم تابعه بعض من تلامذته مثل محمد رجب النجار- يدافع عن العقلية العربية؛ بتأكيده على معرفة العرب بفن الملحمة، مطلقا المصطلح الغربى "ملحمة" على ذلك النوع الأدبى المعروف عندنا ب"السيرة".

وكان الهدف من ذلك هو تفنيد مزاعم تلك النظرة العنصرية. ولما كان مصطلح "سيرة" مصطلحا عربيا يختلف عن المصطلح الغربى "ملحمة"، فإننا وجدنا الحجاجى وأحمد مرسى يتصديان للدفاع عن المصطلحات المحلية، التى من بينها "سيرة". وقد تعرض الحجاجى لتلك القضية بشيء من التفصيل فى كتابه "العرب وفن المسرح"، على نحو ما سبق أن أشرت إليه.

2- تتمثل القضية الثانية فى التفرقة بين مصطلحى "ملحمة" و"سيرة". فلقد ذهب كثير من الدارسين إلى أن الفارق الوحيد بينهما هو الشعر. وذلك على أن السيرة فن شعري، أما الملحمة فهى فن نثري.

أما الحجاجى فيلمس التفرقة من زوايا أخرى أهم. ف"السيرة عالم متسع أكبر بكثير من الملحمة وهى الشكل الأول الذى نبتت منه الملحمة، فالسيرة حين تبدأ فى التكسر تتحول إلى ملحمة، فهى جزء من السيرة، السيرة هى الكل والملحمة هى الجزء/ ص 25، 26". فالملحمة لا تتعدى كونها  إحدى حلقات السيرة.

أما بالنسبة إلى دور الشعر فى كل منهما، فيرى أن السيرة فن شعري، غير أن السيرة قد تتكسر فيتحول الشعر إلى نثر، فالشعر إذًا لا يمثل "الفرق الوحيد بين الملاحم الغربية والسيرة. فالسيرة العربية شعر... بعض الشعراء يروون نصوصها شعرا، وقد يتكسر الشعر بفعل إضافات الراوى المستمرة وجمله الاعتراضية التى تقتحم النص/ ص 26". لقد كانت هذه التفرقة المهمة خير رد على من رادفوا بين السيرة والملحمة، وهى – أيضا – تأكيد على فكرة أن "الفن حاجة اجتماعية". فالعرب لم يعرفوا فن الملحمة؛ لأن ظروفنا الاجتماعية والثقافية لم تتطلبه، ولكنها تطلبت فن السيرة فى فترة تاريخية معينة - ذلك الفن الأكثر اتساعا وتعقيدا، والذى لم يعرفه الغرب – دون أن يعنى هذا تفوقا لأمة على أمة؛ لأنها عرفت فنا ولم تعرف آخر. ورغم أن الدراسة تتخذ من السير الشعبية العربية مادة للدراسة، فإن هذا الفصل يركز بشكل كبير على المصادر الشفاهية والمدونة للسيرة الهلالية. وهو ما يتجلى بوضوح فى تفرقة المؤلف بين السيرة والملحمة، ثم فى حديثه عن الدور التاريخى للسيرة، أو دور الراوى بوصفه مؤلفا للسيرة. فلقد انحصر حديثه هنا على السيرة الهلالية دون سواها من السير الأخرى.

يتعرض الحجاجى – بعد ذلك – لموتيف مهم هو "النبوءة أو قدر البطل". وهى مسألة عايشها كل أبطال سيرنا الشعبية. وعن دورها بالنسبة للبطل، يقول: "تحدد له المصير المعد له والدور الذى سيلعبه فى حياته، وهو دور عليه أن يلعبه، وليس فى مقدوره أو مقدور أى إنسان أن يعوق هذه النبوءة عن التحقيق/ ص 48".  ثم يتعرض لدور النبوءة فى حياة أبطال السير العربية. ثم يؤكد على أنها تيمة معروفة فى الآداب العالمية الشعبية، دون أن تكون قاصرة على أدبنا الشعبى فحسب. ويعود الحجاجى فى كتابه "النبوءة أو قدر البطل فى السيرة الشعبية/ 2001"؛ ليفصل الحديث عن هذه التيمة.

وفى الفصل الثالث، يتوقف الحجاجى عند دراسة عنصر مهم آخر هو "البطل المصاحب" الذى يقصد به تلك الشخصية التى تقف إلى جوار البطل، تساعده وتدافع عنه وقت الأزمات، ولا تتخلى عنه. ولقد توفر ذلك العنصر فى معظم سيرنا الشعبية، باستثناء سيرة الزير سالم. كما أن كل أبطال السير ارتبطوا ببطل مصاحب لهم، باستثناء الزناتى خليفة والزير سالم.

ومن الأبطال المصاحبين شيبوب بالنسبة إلى عنترة، ومرزوق للأميرة ذات الهمة، ومحمد البطال للأمير عبدالوهاب، وقمصان مع أبى زيد الهلالي.

وقد يختلف الوضع الاجتماعى للبطل المصاحب، سواء كان عبدا أو حرا، دون أن يؤثر ذلك الوضع على الدور الذى تؤديه هذه الشخصية. أما العنصر التالى الذى يتوقف عنده الحجاجى فهو "نسب البطل".

وهو العنصر الذى تخصص له كل سيرنا الشعبية فصلها الأول – يتراوح بين الإيجاز والإسهاب – للتعريف بالبطل ونسبه وحسبه. يتوقف المؤلف – بعد ذلك – عند عنصر الميلاد. ويصف الحجاجى لحظة ميلاد البطل فى السيرة الشعبية بأنها "لحظة هامة فى حياته وحياة الجماعة التى ينتمى إليها، فلحظة الميلاد تفصل ما بين مرحلتين من مراحل حياة البطل؛ مرحلة ما قبل ميلاده، ومرحلة ما بعد ميلاده.

ومرحلة ما قبل الميلاد تتجمع كلها للتمركز فى لحظة الميلاد لتصبح جميع أحداث السيرة قبل الميلاد (الإنارة) التى تتحرك لترسم صورة عالم البطل قبل مولده. وبعد الميلاد تأتى مرحلة جديدة يصبح فيها البطل مركز الأحداث... وفى لحظة ميلاد البطل يتأكد تفرده فى عالمه وغالبا ما يكون هذا الميلاد غريبا على المحيطين به مصاحبا بمظاهر عجيبة/ ص 88".

ولما كان البطل الشعبى فى أدب أمة من الأمم – كما يقول الحجاجى – هو نتاج واقعها الاجتماعى والثقافى والسياسى والديني، فإن درجة تصوير هذه المرحلة يختلف من أمة إلى أمة، ومن حضارة إلى حضارة.

من هنا كانت خصوصية تصوير مرحلة الميلاد فى سيرنا الشعبية العربية، على نحو ما يتناسب وظروفها الاجتماعية والثقافية. وينوه الحجاجى إلى أن هناك عددا من الأبطال فى سيرنا الشعبية، ممن لم تتوقف سيرهم عند ميلادهم، وهم الزناتى خليفة والزير سالم والظاهر بيبرس. 

يعرض المؤلف – بعد ذلك – لعنصر "الغربة والاغتراب". والمقصود بالغربة هو البعد الجسدى للبطل عن عالمه ومجتمعه. وفى الغربة – كما يقول الحجاجى – "يفقد البطل تناغمه مع العالم ومع نفسه، فهو يعيش وجودا زائفا يبحث من خلاله عن وجوده الحقيقي؛ أى عن إيقاف الغربة والعودة للأهل والوطن أى للتناغم مع الجماعة/ ص 96". فى حين يقصد بالاغتراب، تلك الغربة الروحية والنفسية عن الجماعة. وقد مر كل أبطال سيرنا الشعبية بهذه المرحلة. وقد قام المؤلف باستعراض مراحل الغربة والاغتراب  فى حياتهم. 

أما العنصر الأخير الذى تمر به حياة البطل السيري، فيتمثل فى "التعرف والاعتراف". والتعرف يعد "تتويجا للصراع الذى يعيشه الطفل البطل. ويمثل بداية الطريق لوضع اسمه فى عالم البطولة ولا يتم التعرف به بطلا إلا بعد عبوره من اغترابه وغربته فهو اعتراف بعبوره/ ص 132". وتعد مرحلة التعرف على البطل والاعتراف ببطولته مرحلة تالية لمرحلة غربة البطل عن قومه واغترابه. وهى مراحل مر بها كل أبطال سيرنا الشعبية. لقد تمكن الحجاجي- من خلال كتاب "مولد البطل"- أن يصوغ القوانين البنائية للسير الشعبية العربية، مما زاد من قيمة هذا الكتاب، الذى صار مصدرا مهما لكل دارسى الأدب الشعبي.

ما نريد أن نخلص إليه- فى هذا السياق- أن هذا الكتاب خاصة، وفى مجمل دراسات الحجاجى فى مجال "السيرة الشعبية" عامة، يتسم الحجاجي- فى دراساته- بجمعه بين المستويين، مستوى النصوص السيرية المدونة، ومستوى النصوص السيرية الشفاهية. وهى سمة يندر تكرارها فى غيرها من دراسات السير الشعبية العربية الأخرى، خاصة السابقة على دراسات الحجاجي.

 
لم يختلف أحمد شمس الدين الحجاجى الإنسان كثيرا عن الحجاجى العالم والناقد والمبدع. فعلى نحو ما عاش الحجاجى الأسطورة فى أبحاثه، فإنه عاشها فى حياته، فهى التى كانت تقوده فى الحياة؛ إذ كان يؤمن أن الأسطورة لم تمت، بل لكل عصر أساطيره. وطالما أن هناك الجديد فى الحياة، فدوما ستكون الأسئلة الكونية الغامضة مجهولة، مما يستدعى وجود الأساطير التى تجيب عن مثل هذه التساؤلات الكونية والوجودية. وكذلك، على نحو ما انشغل الحجاجى فى دراساته النقدية وأعماله الإبداعية بالبحث فى جذور موروثاتنا الشعبية، فإنه عاش هذه الموروثات، تمثلا قيمها النبيلة والأصيلة. فعندما يُذكر الحجاجي، يُذكر أحمد شمس الدين الحجاجي، الصعيدى الأقصرى ابن البلد، المحب للخير والعطاء. ابن البلد الأصيل، الذى تكون أسعد لحظات أيامه عندما ينجح فى خدمة أحد، حتى لو كان لا يعرفه. كان الحجاجى محبا للحياة والجمال والحق والعدل. كان الحجاجى "صديقا للحياة"، مات الحجاجى و"عيناه حياة"، إذ جاز لنا أن نستعير تعبير الشاعر صلاح عبد الصبور.