وزير الثقافة الفلسطيني: على الإسرائيلي الطيب أن يختفي من الكتابات العربية!

د. عاطف أبو سيف وإسراء النمر
د. عاطف أبو سيف وإسراء النمر

حين زار الدكتور عاطف أبو سيف وزير الثقافة الفلسطينى مصر الأسبوع الماضى، كانت الحرب فى غزة قد بلغت يومها التسعين، كما بلغت عددًا هائلًا من الشهداء والجرحى والنازحين والأسرى المجردين من ملابسهم، كانت الزيارة مفاجئة وغير متوقعة، خاصة أن الوزير لم يترك غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وبدأت الأسئلة تحلق فى الأفق: هل هى زيارة رسمية؟ هل ثمة رسالة يحملها لنا؟

الوزير يبدأ فى نشر تدويناته على "الفيس بوك»، هو برفقة ابنه، ذاهبًا فى البداية إلى بورسعيد ليزور أقاربه المرضى فى المستشفيات. لكن لا كاميرات تليفزيونية توثق ذلك. ثم يصل إلى القاهرة، ويعقد لقاءين، إحدهما فى اتحاد الكُتّاب، والآخر فى نقابة الصحفيين، وقد تم بالفعل تغطية ذلك إخباريًا، لكن اللقاءين لم يكونا كافيين لنعرف منه كل شىء، لهذا لم يكن ممكنًا أن أضيع فرصة محاورته، وهو الروائى قبل أن يكون وزيرًا منذ 13 أبريل 2019.

اقرأ أيضاً| رسائل من حنين إلى سمير رافع

التقيته فى مكتبة ديوان فرع سينما راديو بوسط البلد، وكان المكان من اختياره، وهو اختيار يكشف عن الأرضية التى سيقف عليها أثناء الحوار، فقد كان متحررًا من كل الرسميات، كان ابن المخيم فى المقام الأول، ثم الروائى فى المقام الثانى، وبعد ذلك أتى كل شىء. لهذا لم أقل له مرة واحدة: «معالى الوزير»، كنتُ أخاطبه ب «الدكتور»، إذ حصل على بكالوريوس من جامعة بيرزيت وماجستير من جامعة برادفورد فى بريطانيا ودكتوراة فى العلوم السياسية والاجتماعية من جامعة فلورنسا فى إيطاليا.

كما كانت علاقته التاريخية ب «أخبار الأدب» عاملًا محفزًا على إجراء هذا الحوار، فقد نشر لأول مرة فيها حين كان شابًا، وكان ذلك فى العام 1997، حيث كتب عن تجربته فى زيارة أخيه نعيم الذى استشهد فى سجن نفحة الصحراوى، فالجريدة كما قال كانت نافذة أدبية مهمة للفلسطينيين، وكانت تصل بشكل دائم إلى غزة عبر مكتبة الهاشمية فى شارع الوحدة، التى أُغلقت بعد وفاة صاحبها. ثم توالى بعد ذلك نشره للقصص القصيرة والمقالات النقدية عن الشعراء بالتحديد، فهو قارىء نهم للشعر. وبعد ثورة 25 يناير 2011 جاء إلى مصر وحرص على زيارة مقر الجريدة برفقة مجموعة من المثقفين الفلسطينيين ليتعرفوا على الواقع الثقافى المصرى الجديد.

لم أستطع وأنا أتحدث معه أن أنسى أنه نجا من الموت مرارًا، لهذا تخليت عن التعجب الأحمق الذى كان يطاردنى من رؤية وزير يتحرك دون حراسة!

فى البداية، أريد معرفة سبب زيارتك لمصر فى ظل هذه الظروف الحرجة التى تعيشها غزة؟

جئتُ لمصر بصحبة ابنى ياسر عرفات، كى أستطيع الذهاب إلى الأردن ومنه إلى رام الله، لمباشرة عملى فى وزارة الثقافة الفلسطينية، فأنا موجود فى غزة منذ اندلاع العدوان عليها، العدوان وليس الحرب، لأن ما عشناه بموجب القوانين الدولية والتعريفات السياسية هو إبادة جماعية، وكنتُ قد ذهبتُ من الأساس إلى غزة فى زيارة عائلية، وعمل فى الوقت نفسه، فأنا من سُكان غزة، بالتحديد من مخيم جباليا لأبوين من عائلة مهجرة من مدينة يافا، وبالمصادفة كان (7 أكتوبر) يوافق اليوم الوطنى للتراث، فكان علىّ أن أكون موجودًا لافتتاح الفعاليات فى غزة، وهو ما لم يحدث بالطبع.

أفهم من ذلك أنكَ لم تستطع ممارسة مهامك كوزير للثقافة خلال الأشهر الثلاثة الماضية؟

فى بداية العدوان شكلت الحكومة الفلسطينية لجنة وزارية للإشراف على إدخال المساعدات ومتابعتها، وكنتُ أنا ووزيران فى غزة نقوم بهذه المهام ونستمع بشكل دائم للناس. كما حرصتُ بشكل خاص على عقد لقاءاتٍ مع مجموعة كبيرة من الكُتّاب والفنانين النازحين لدعمهم ومد يد العون لهم، إلى جانب إشرافى على إصدار التقارير الرسمية، فكنتُ من داخل الخيمة أكتب وأرصد كل الانتهاكات بحق القطاع الثقافى، وأرسلها إلى زملائى فى رام الله ليراجعوها، كما كنتُ أتحدث بشكل يومى للإعلام الدولى، وكنتُ أكتب يومياتى باللغتين العربية والإنجليزية، وتم نشرها فى 10 صحف كبرى فى العالم، من بينها: «واشنطن بوست» و «الجارديان» و«نيويورك تايمز» و«لو موند»، ولكى أكتب هذه اليوميات، كان علىّ -فى أحايين كثيرة- أن أمشى ساعتين متواصلتين كى أجد مكانًا أستطيع فيه شحن «اللاب توب». الكتابة فى ال 85 يوماً التى قضيتها فى غزة كانت التزامًا بالنسبة لى، كانت شكلًا من الخلاص، لأننى يجب أن أتحدث عن أهلى الذين يموتون، ولحزنى الشديد كثيرون ممن كتبت عنهم أستشهدوا، ولا تزال أجسادهم تحت الركام.

رأيت بالفعل صورك مع الناس داخل الخيام ومراكز الإيواء ووسط الدمار، وكنت ترتدى أغلب الوقت ملابس غير رسمية، فمن لا يعرف ملامحك لن يستطيع أن يميز بسهولة أنك وزير أو مسئول!

لا أنسى طيلة الوقت أننى كاتب، وأن علىّ أن أنحاز إلى الناس. كما لا أنسى أبدًا أننى ابن المخيم، وأننى تعلمت فى مدارسه. المخيم بالنسبة لى هو العالم، والمعلم، والملهم، فجميع أحداث رواياتى تدور إما فى المخيم أو فى ذاكرة الناس الذين يعيشون فيه، بالتالى لم أكن يومًا وزيرًا يعيش فى المخيم، إنما ابن المخيم الذى يعيش فيه، وكان علىّ وكان لى، ما على الناس وما لهم، إلى أن بات البقاء فى المخيم يشكل خطرًا كبيرًا على حياة ابنى ياسر عرفات بعد أن مرض، فكان واجبى كأبٍ أن أعطيه فرصة للنجاة، فنزحت كما يفعل الناس إلى الجنوب، وعبرت إلى وادى غزة، وأمضيت فترة فى مخيم خان يونس، ثم توجهت إلى مخيم رفح، حيث عشت فى خيمة لمدة 40 يومًا. خلال هذه الفترة تم تدمير بيتنا فى مخيم جباليا بشكل كامل، ولا يزال أبى موجودًا فى المخيم.

هل يمكن إذن أن تصف لنا المشهد فى غزة، فرغم ما يصلنا من صور وفيديوهات وأخبار إلا أن أصدقاءنا الغزاويين يخبروننا أن هذا نقطة فى بحر ما يحدث؟

قدر الشعب الفلسطينى أن يعيش هذه الحياة، فهو لم يختر أن يكون تحت الاحتلال، وما تعيشه غزة اليوم هو نتيجة الجريمة الكبرى التى تُسمى بالنكبة، فحين جاء الغزاة من الخارج ليسرقوا بلادنا، سرقوا ما استطاعوا، لكنهم لم يستطيعوا أن ينزعوا من البلاد اسمها أو هويتها، لهذا أؤكد أن ما يحدث فى غزة منذ 7 أكتوبر 2023 هو حرب إبادة كاملة، فالفلسطينى هناك لا يقاتل من أجل النجاة فقط، بل من أجل أبسط تفاصيل الحياة، وهى ليست حياة كماليات، ففى الحصار ننسى شيئاً اسمه الاستحمام، ننسى التلفزيون، ننسى الأخبار، ونخشى الدخول على «الفيس بوك» كى لا نقرأ أسماء من رحلوا من عائلتنا وأصدقائنا، كما كانت تمر علينا أيام لا نجد فيها ما نأكله، وكنا نصطف فى طوابير من أجل الحصول على كأس ماء، وأيضًا طوابير من أجل الخبز حال وُجد، وأحيانًا كانت تضطر الأمهات إلى السير لمدة خمس ساعات كى تجد أى شىء تُطعمه لأطفالهن.

الحياة فى غزة تحولت إلى سلسلة من الطوابير، والانتظار، إما انتظار النجاة أو الموت، فهناك أسابيع كاملة لم نستطع النوم فيها من شدة القصف، وكنا نظل سهارى حتى تشرق الشمس، حتى نتيقن أننا ما زلنا أحياء، كما كانت الأيام تشبه بعضها، فلا نعرف التاريخ أو فى أى يوم نحن من الأسبوع، فقط نعرف رقم اليوم فى الحرب، ونقول: اليوم العشرين.. اليوم الحادى والعشرين، كأن أجندة حياتنا بدأت منذ اندلاع العدوان، وإلى هذه اللحظة أنا لا أعرف التاريخ، أعرف فقط أننا فى اليوم التسعين للحرب.

الحياة فى الحصار حياة مؤقتة، حياة مُعلقة على الانتظار وعدم اليقين والخوف من المجهول والخوف من السير فى الطرقات، لأنك تظل تفكر أنك إذا خرجت إلى الشارع الآن ربما تُقصف البناية التى تسير إلى جوارها، فتسقط عليك، وتموت. المشكلة ليست فى أنك ستموت، المشكلة أن جسدك قد يتشوه، وقد تتحول إلى أشلاء، ونحن نريد أن نذهب للموت بأبهى هيئة، ونريد لعائلتنا أن تعرف أجسادنا وتعرف قبورنا. الأطفال فى غزة ابتدعوا أفكارًا جميلة إذا صاروا يكتبون أسماءهم على كل أعضائهم وأطراف أجسادهم، حتى تستطيع عائلتهم التعرف عليهم بعد الموت. محظوظ من يموت فى غزة بجسدٍ كاملٍ، محظوظ من يذهب لقبره بسلام.

فى الحصار أيضًا حزننا مؤجل، فحين يموت لك عزيز لا تستطيع أن تحزن، لأنه ليس هناك وقت للحزن، أنت فقط مشغول بالنجاة. أتذكر عندما استشهدت ابنة عمى وأولادها، ركضتُ مع أهلى كى ننقذهم من تحت الركام، فأُصيبت ساقى اليسرى وظللتُ أنزف ولم أنتبه إلا بعدما شعرت بالتعب، فى هذه اللحظة انتابنى خجلٌ من الذهاب إلى المستشفى، وأنا مُحاط بأناس ذى أعضاء مبتورة، خجلتُ من أن أطلب من الطبيب أن يُخيط لى جرحى، وهناك من هو أولى منى بالرعاية، فضمدت الجرح بالقهوة وربطته بقطعة من ملابسى.

ما هو أسوأ شعورٍ فى الحرب؟

أسوأ شعور فى الحرب هو العجز؛ أنك لا تستطيع فعل شىء لمن هم تحت الركام. لقد بكيت كثيرًا فى اليوم الذى أستشهدت فيه شقيقة زوجتى مع أولادها، إذ انهارت البناية عليهم، وعندما ذهبنا لإنقاذهم أنا وابنى، ظللنا ننادى عليهم، ونحاول النزول بين الركام. فى اليوم الأول أخرجنا 17 جثة، لم تكن من بينها جثامينهم. فى اليوم الثانى نادينا عليهم مرارًا، لم يجب أحدٌ سوى الابنة وسام، التى بترت قدماها ويداها اليسرى، وهى فنانة بالمناسبة وتتعالج الآن فى أحد مستشفيات التل الكبير بالإسماعيلة. بعدها أدركنا أن البقية قد ماتوا، لكننا لم نتمكن من إخراج جثامينهم. إحساسى بالعجز جعلنى أذهب إلى المكان لمدة خمسة أيام ربما تأتى معجزة ويرفع الركام لكى نوارى جثامينهم الثرى.

وما أخطر مكان فى غزة الآن؟

فعليًا لا يوجد مكان آمن فى غزة. كل الأماكن مهددة، وقد تتعرض للقصف الشديد، لأن هذا العدو لا يرحم، وليس لديه خطوط حمراء، فهو مستعد لأن يقصف ويقتل الجميع. وبعض الناس كانت تقديراتها خاطئة، كانت تخرج من بيوتها باتجاه مناطق تعتقد أنها أكثر أمنًا، ويكون قدرهم أنهم ذهبوا إلى حتفهم. فالجميع هناك يبحث عن النجاة، يبحث عن خيمة.. سعداء من يجدون خيمة ليقيموا فيها، سعداء من لديهم أقرباء فى مناطق أكثر أمنًا. لكن إذا أردنا تحديد المكان الأخطر على الإطلاق، فسيكون سقف البيت، لأنه الذى يسقط علينا بعد القصف، فبعد أن كنا ننام ونتأمل السقف، بعدما كنا نراه بوابة العبور إلى السماء.. إلى الأحلام.. إلى الخيال، صرنا نخشاه، فكثيرًا ما نمت وأنا أتخيل سقف البيت وهو يسقط علىّ، وكثيرًا ما طلبت من صديقى الذى كنتُ أبات معه فى المخيم أن ننام فى الطابق الأخير، حتى إذا قصفوا البيت يسقط علينا سقف واحد فقط، بالتالى هناك احتمالية لأن ننجو، لأن يعثروا على جثثنا على الأقل.

فى ظل ما تحكيه وما نراه من مآسٍ إنسانية، إلى أى مدى يمكننا أن نراهن على صمود الفلسطينيين فى غزة؟

الحديث عن البطولة أمر من اختصاص المؤرخين والكُتّاب، لأننا بشر ولسنا حجرًا أو أصحاب قوى خارقة، فأجمل ما فى الإنسان ضعفه، لهذا هو يحب ويتألم، وأنا أقول دائمًا إذا كان ثمن ما يحدث هو أن تبقى فلسطين فهذا يكفينا، لأننا كشعبٍ كان من المفترض أن ننتهى بعد النكبة، أن نُكنس كما يُكنس الغبار على عتبات البيوت.. وهو ما لم يحدث. كل هذا يجعلنى متيقنًا من أن الفلسطينيين فى غزة يستطيعون الصمود، حال توافر عناصر الصمود، وذلك عبر دخول المساعدات إليهم من طعام وماء وملبس ودواء وستراتٍ للدفء، فقد كان البرد شديدًا فى «المربعينية» وهو مصطلح فلسطينى جديد يشير إلى الأربعين يوماً من الحرب، ففى أسوأ كوابيسى لم أتخيل أنه سيأتى يوم يكون فيه همى الأساسى عندما أصحو من النوم أن أبحث عن الحطب أو جذع شجرة لأوقد النار، ففى الحرب يتخلى المرء عن كل جشعه، يتجرد من كل المفاهيم المثالية والمادية، يصير همه أن يعيش الحياة، وينظر للأشياء بعين أخرى، يصير هناك مثلًا معنى مذهل لمقلاة البندورة، فعندما تجمع الحطب ثم تشعله ثم تقطع البصل والبندورة، وبعد ساعتين كاملتين من هذه العملية تأكلها، تشعر حينها أنها أجمل وجبة فى العالم.

كثير من المحللين السياسيين أرجعوا أسباب هذا العدوان المجنون على غزة إلى خوف الإسرائيليين من الاعتقاد السائد فى التاريخ اليهودى الذى يفيد بأنه لم تعمّر لليهود دولة لأكثر من 80 عامًا، فتجربة الدولة الصهيونية الحالية هى الثالثة، وهى الآن فى عقدها الثامن.. ما رأيك؟

صحيح وقد تحدث عن هذا التخوف إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، فإسرائيل لديها يقين تام بأنها دولة لن تدوم، لذلك هى مهووسة بالبقاء، ودائمًا ما أقول إن الحرب الحقيقية التى يشنها الاحتلال هى حرب على الهوية الوطنية الفلسطينية، وعلى الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطينى، وعلى كل شىء له علاقة بتاريخنا، فكل شىء فى فلسطين يذكرهم بأن هذه البلاد ليست بلادهم، وأنهم غرباء فيها، لهذا هم يشنون حربًا شرسة على كل المكونات المادية وغير المادية للتراث الفلسطينى، فقد سرقوا الثوب الفلسطينى لأن ليس لديهم ثوب وطنى خاص بهم، كما سرقوا أطعمتنا مثل: الفلافل والحمص والفول، رغم أن العالم كله يعرف أن هذه الأطعمة عربية بالأساس. إننا حين نتحدث عن أهمية توثيق تراثنا الثقافى غير المادى لا نفعل ذلك من باب الرفاهية، ولكن لأننا ندرك جيدًا أن هناك سرقة ممنهجة لتراثنا، وقد نجحنا فى 5 ديسمبر 2023 فى تسجيل الدبكة الشعبية الفلسطينية على القائمة التمثيلية للتراث الثقافى غير المادى للبشرية، كما تقدمنا لليونسكو بملف الصابون التقليدى (النابلسي) لتسجيله أيضًا.

لكن فى هذا العدوان تخطت إسرائيل كل الحدود..

هذا ليس جديدًا على إسرائيل، إنها دولة بلا أخلاق، وليس لها حدود، فالوعى الصهيونى مؤسس على الدموية وعلى نفى الفلسطينى وإبادته، وما ارتكبه العدو فى مذبحة دير ياسين فى أبريل 1948 يؤكد على أنها دولة مجرمة منذ البداية، إذ تم بقر بطون الحوامل وقطع رءوس الأطفال وتعليقها، وإبادة نحو 528 قرية فلسطينية، كل ما فى الأمر أنه لم يكن هناك إنترنت وتوثيق حى ومباشر للجرائم التى تحدث، والتى لا تقل بشاعة عما يُرتكب اليوم فى غزة، فإذا تخيلنا أن هناك شيطانًا للجريمة، فلن يستطيع أن يقدم للبشرية وصفاتٍ فى بشاعة الجرائم التى ترتكبها إسرائيل، فالطريقة التى يتم بها هدم المبانى على سكانها، والتى يتم بها التنكيل بالجثث وسرقة أعضائها، لم يأت بها مجرم فى العالم، لا هتلر ولا موسولينى، ولا التتار ولا المغول، فمقبرة مخيم جباليا تم تدميرها بشكل مقصود وقامت الدبابات بسحق عظام الموتى الذين يرقدون فى ثباتهم الأبدى لأكثر من 70 عامًا.

ما خسائر القطاع الثقافى فى غزة حتى الآن؟ وهل يمكن تعويض شىء منها؟

كيف يمكن مثلًا تعويض متحف رفح الذى قصفته طائرات الاحتلال، إذ خسرنا نحو 320 قطعة تطريز نادرة جدًا وغير موجودة فى العالم، هذا المتحف كان يضم مئات الأدوات المتعلقة بالتراث الفلسطينى القديم من أزياء وأدوات قديمة تعكس ثقافة البدو والفلاحين وسكان المدينة، وأهم الأزياء التراثية الفلسطينية التى جمعتها السيدة سهيلة شاهين. كيف يمكن تعويض ثالث أقدم كنيسة فى العالم وهى كنيسة القديس برفيريوس التى يعود تاريخ بنائها إلى سنة 407 ميلادية. كيف يمكن تعويض مقام السيد هاشم جد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. لم يبقِ شىء فى القطاع الثقافى فى غزة، جميع المرافق الثقافية تم تدميرها، مثل: المكتبة العامة لبلدية غزة، والمركز الثقافى الاجتماعى الأرثوذوكسى العربى، ومركز ومسرح رشاد الشوا الثقافى، وقرية الفنون والحرف، ناهيك عن المتاحف والمبانى التاريخية التى تم قصفها، مثل: متحف القرارة الثقافى ومتحف خان يونس، والمسجد العمرى الكبير الذى يعد الجامع الأقدم والأكبر فى القطاع، وقلعة برقوق التى أنشأها أحد سلاطين المماليك قبل أكثر من 600 عام، وتل رفح الأثرى الذى يعود للعهد اليونانى. الخسارة كبيرة ومفجعة، فالعدو عندما لا يجد شيئًا ليسرقه وينسبه لنفسه، يقوم بتدميره.

وماذا عن الشهداء من الفنانين والكُتّاب؟

خسرنا بالطبع عددًا كبيرًا من الفنانين والكُتّاب، لا أريد أن أنسى أحدًا منهم، لكن أبرزهم الشاعر الصديق سليم النفار، الذى استشهد هو وعائلته خلال اجتياح حى النصر الذى يقيمون فيه، وآخر ما نعرفه أنه لا يزال تحت الركام.

ما الدور الذى تنتظره فلسطين من الأدباء والمثقفين العرب فى هذه اللحظة الجريحة؟

تقع على الكُتّاب العرب مسئولية أخلاقية كبيرة، وهى ضرورة أن تظل فلسطين حاضرة فى الثقافة العربية، سواء فى الشعر أو الرواية أو المسرح أو التاريخ، فالالتزام تجاه القضية الفلسطينية، هو التزام تجاه كل إنسان عربى، كما أن الانتصار لفلسطين لا يعد انتصارًا للشعب الفلسطينى فقط، وإنما انتصار للإنسانية كلها، فالكاتب لا يملك إلا الانحياز إلى العدل والنور، فى وجه الظلم والظلام، فهناك أوقات يكون فيها الوقوف على الحياد خيانة، ويكون الوقوف على الضفة الخطأ من نهر التاريخ غرقًا وليس نجاة، وهذا بالطبع بعيدًا عن «الأدب الشعاراتى».

متى نستطيع إذن أن نقول على الأدب الذى يتناول القضية الفلسطينية إنه أدب مقاومة؟

تعريف أدب المقاومة مرتبط بالزمان الذى ظهر فيه، وذلك مع الثورة الفلسطينية فى الستينيات التى أطلقتها حركة فتح وانضمت لها باقى التنظيمات والفصائل الفلسطينية، لأن الثورة وقتها كانت بحاجة لأدب يعبر عنها. أنا لا أستطيع أن أقول على أدب ما إنه أدب مقاومة، هذا متروك للنقاد، لكن ما أعرفه وأؤمن به كروائى أن الأدب مقاوم بطبعه، وأن الأدب يجب أن يكون فيه التزام بالقضايا الكبرى، عندما وقعت مثلًا الحرب الأهلية الإسبانية ذهب همنجواى إلى إسبانيا كى يستطيع أن يكتب عن عصابات الحرب الشيوعية، فكتب روايته الخالدة «لمن تقرع الأجراس». كل كُتّاب العالم الحقيقيين ينتصرون للقضايا الكبرى، لا يمكن للكاتب أن يكون مع الظلم أو القتل أو الاحتلال أو الهمجية أو البربرية أو قمع الحريات، وما رأيناه كان نماذج استثنائية وقليلة، عزرا باوند مثلًا كان منحازًا لهتلر. لهذا أود الإشارة لشىء مهم أن الحديث عن الحاجة الماسة لإعادة بعث أدب المقاومة، يفترض أن هناك غيابًا لأدب المقاومة، هذا الغياب يفترض أن هناك تعريفًا محددًا لأدب المقاومة، وهو ما أشك فيه. لهذا يجب أن يكون الحديث حول تعزيز حضور القضية الفلسطينية فى الكتابات الأدبية العربية، والتحذير من أن تنزلق هذه الكتابات فى سياقات التطبيع التى تُدجن وجود الإسرائيلى كشخصية عربية فى الروايات، أو تتحدث عنه شعرًا، لأننا رأينا فى السنوات الماضية أعمالًا تتحدث عن الإسرائيلى الطيب والجار الطيب، أنا أنتظر من هذا الطيب أن يخرج من بيت جدى فى يافا، أو على الأقل أن يختفى من الكتابات العربية، فكل يهودى يُقيم فى إسرائيل يعلم جيدًا أنه يقطن فى بيت مسروق، سيقول لى أحدهم إن هذا مضى عليه أكثر من 70 عامًا، وسأجيب دائمًا: حتى وإن مضى 200 عام سيظل بيت جدى فى يافا هو بيتى.

ألا تتفق معى أننا فى هذا العدوان رأينا انحيازًا غير مسبوقٍ من قبل الشعوب الأجنبية، وهو ما يعكس وجود يقظة نسبية فى الرأى العام العالمى، الذى صار واعيًا بالقضية الفلسطينية وبالحقيقة الإجرامية لإسرائيل؟

نشطاء «السوشيال ميديا» فى فلسطين والبلاد العربية، وأنصار الشعب الفلسطينى فى أوروبا وأمريكا اللاتينية، قاموا بدور كبير فى ذلك، فقد تأسست إسرائيل على كذبة ثقافية كبيرة، واستطاعوا فى السابق أن يقنعوا العالم بها، اليوم لم يعد هذا ممكنًا، فمن الصعب أن تقول إنك تقتل الأطفال وتقتلع الأشجار وتسحق عظام الموتى من أجل أن تحمى نفسك، صار مستحيلًا أن يستوعب العالم هذه «الخزعبلات»، هناك بالفعل يقظة فى الرأى العام العالمى، وهى يقظة يجب أن تحفزنا إلى المزيد من العمل فى فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلى، وإلى تعميم الرواية الفلسطينية والعربية، لهذا تستهدف إسرائيل الصحفيين الفلسطينيين، ففى الحرب العالمية الثانية كلها مات 64 صحفياً، أما فى هذا العدوان الأخير على غزة تم استهداف أكثر من 110 صحفى. لهذا أحرص على التأكيد دائمًا أن هناك صراعًا شرسًا أو حربًا ثانية على الرواية، على نقل ما يجرى على الأرض، فهناك رواية إسرائيلية مضللة ومزيفة يتم ضح المليارات والملايين من أجل تعميمها، وتقف وراءها قوى عظمى وقنوات ضخمة فى العالم، وهناك رواية فلسطينية عربية يقف خلفها مجموعة من النشطاء فى السوشيال ميديا والكُتّاب والصحفيين العرب.

وأخيرًا، لا أستطيع أن أتجاهل أنك أستاذ للعلوم السياسية.. هل ثمة حل سياسى يمكن اللجوء إليه لوقف العدوان على غزة؟

هناك شيئان مهمان يجب أن يكونا الهدف من أى تحرك سياسى، أولًا: إيقاف العدوان بشكل كامل، ثانيًا: منع تهجير الناس خارج غزة، فهدف إسرائيل من هذا العدوان من البداية هو إفراغ قطاع غزة من سكانه، عبر نزوحهم إلى مصر ودفعهم نحو سيناء، وقد قوبل هذا بالرفض سواء من الجانب الفلسطينى أو المصرى، وهو رفض مُقدر وفى محله، ويجب ألا نغفل أن طبيعة الصراع مع دولة الاحتلال غير قائم على الحل، أرى أنه من الممكن إدارة الصراع مع الاحتلال، وليس إنهاءه، وذلك على قاعدة بقاء الشعب الفلسطينى فى أرضه، وكما نقول بالأمثال: «اللى عند أهله على مهله».