«العيادة» قصة قصيرة للكاتب حسن عبد الرحمن

حسن عبد الرحمن
حسن عبد الرحمن

عندما هممت أن أكتب رسالة.. وكانت ساعة الحاسوب الذي أجلس عليه تشير إلى الواحدة والربع بعد منتصف الليل..كانت الرسالة لصديق لطلب معين.. ولكني كلما كتبت كلمة أجدها تتحول إلى كلمة أخرى..

أمحو الجملة وأكتبها من جديد فتتحول إلى نفس الكلمة وهي.. ستجدني من خلفك.. أكتب الكلمة فتتشابك الحروف مكونة نفس الجملة أو جملة قريبة المعنى منها.. بدلت من مكاني وذهبت إلى الشرفة حيث يوجد هناك كرسي هزاز كنت قد ورثته عن جدي العزيز وهذا الكرسي له حكاية لسنا بصددها الآن.. من أنا ؟ ألم نتعرف منذ قليل؟ لم نتعرف؟! أنا الدكتور محمد المانع دكتور أمراض عصبية ونفسية وعندي عيادة في أطراف البلدة التي أسكن بها وقد ورثتها عن جدي العزيز..ولكني أذكر إننا تعرفنا يا سادة هنا منذ لحظات، عمومًا ها أنا عرفتكم على نفسي أرجو منكم عدم النسيان مرة أخرى..أين كنا ؟نعم، نعم.. آخر مرة ذهبت إلى الشرفة وجلست على كرسي جدي الهزاز وأغمضت عيني ولكني سمعت صوت الحاسوب برسالته المشهورة والجهاز مضاء مرة أخرى. ألم أغلقه منذ دقائق؟

انتفضت من مكاني من على الكرسي وتركته يصدر أزيزه في حيز الصمت. ودخلت مسرعًا إلى الحجرة فوجدت الكي بورد يتحرك ويكتب على الحاسوب خاصتي.. وكرسي الحاسوب يبعد نصف متر عنه..وضعت يدي في فراغ الكرسي لعل أحدهم يجلس عليه.. ولكني لم أجد أحداَ.. لكني شعرت بسخونه في ذراعي وتنميل بسيط وبعض من الكهرباء الخفيفة..ثم سقطت على الأرض مغشيًا عليّ.

أفقت على صوت كاد أن يحطم باب العيادة.. وجدت أمامي سامي.. مريض عندي يتسم بالهدوء الشديد دمث الخلق.. كثيف الشعر فوق عينيه نظارات طبية..ولكن سامي كان هائج عصبياَ رغم إنه مريض هادئ جداَ، وسبب هياجه قال لي إنه يقف على الباب منذ ثلاث ساعات وأنا لم أفتح له.

سألته: ولماذا لم تذهب أليس من الجائز أن أكون خارج العيادة برغم أني لم أفتح لك الباب؟ لكنه قال إنه كان متيقنًا إنني بالداخل.. ولما سألته كيف عرفت؟ قال شاهدتك تجلس على الكرسي الهزاز وتتحرك به، ورغم ذلك لم أفتح الباب فظن أنني أضع سماعات في أذني .. وأؤكد لكم يا سادة إنني كنت ملقى على الأرض.. ولكنني اكتشفت شيء جديد في شخصية سامي ألا وهي الصبر وشيئاَ آخر وهو العصبية لأن هذه الصفتان عكس شخصيته تمامًا..إذاَ أنا دكتور جيد لأنني عالجت سامي من هلاوسه النفسية. وأصبح شخصية لا تتسم بالبرود الشديد.. ولكن فجأة وبدون مقدمات دخل علينا الشيخ محروس بسمته الهادئ وصوته الجَهْوَري في نفس الوقت.. وقبل أن أسأله ما الذي أتى بك في ساعة غير ميعاد الكشف..

قال وهو دَهِش: ألف سلامة لك يا دكتور لماذا كنت تنام على الأرض منذ خمس دقائق ؟

نظرت إلى سامي ثم وجهت حديثي إلى الشيخ محروس: لكني يا محروس كنت أجلس فوق الكرسي الهزاز منذ ثلاث ساعات..

قاطعني محروس بشدة وقال: لا والله أنت كنت راقدًا على الأرض وأنا تخيلت إنك تلعب يوجا أو تجرب نوعاَ جديدًا من العلاج...

أفقت من دهشتي نوعاَ جديدًا ويوجا؟ لكنه قاطعني مرة أخرى وقال لكن الكرسي الهزاز كان يتحرك فعلاَ وكأن أحداَ يجلس عليه.. فقلت لهم لا عليكم سأرى موضوع اليوجا هذا.. أقصد الكرسي وهيا نبدأ جلستنا الأسبوعية..

فباغتني محروس: هل نبدأ قبل أن تأتي نيرة؟

فقلت له: ومن تكون نيرة؟

رجع الشيخ محروس إلى الخلف وجلس على كرسيه بسرعة وأعد كرسي بجانبه ورحب بمخلوق بجانبه وعلى ما أظن أنها نيرة جاءت لتجلس معنا في الجِلسة النفسية الأسبوعية.. فهي جِلسة يتبادل فيها كل المرضى الأحاديث والمشكلات الخاصة والعامة وإن كان الشيخ محروس استدعى من وحي خياله زوجته التي قتلها بالخطأ منذ ثلاث أعوام فلا بأس من ذلك.. ولم تمر إلا خمس دقائق وقد امتلأت الكراسي المرصوصة على شكل مربع ناقص إحدى أضلاعه من المرضى ولمدة ساعة كاملة تبادلنا الأحاديث الكثيرة وكانت الجِلسة مثمرة بعد الجِلسة توجهت إلى الترعة الموجودة أمام العيادة وأسندت ظهري إلى شجرة الصفصاف التي زرعها جدي منذ زمن بجوار الترعة.

كانت الليلة حالكة الظلام ولا تخلو إلا من أصوات الضفادع والصراصير وبعض الحشرات.. ولكني وجدت على صفحة الماء حركة غير عادية فوق الماء ثم خرجت نار، ومن بعدها كلمة أنظر خلفك.. الكلمة مكتوبة بخط ركيك فوق صفحة ماء الترعة. وبدل من أن أنظر خلفي وجدتني أهرول مسرعًا إلى عيادتي ولأنني أحصي عدد درجات السلم فصعدت الدرج بخفة حتى وصلت إلى حجرتى وأغلقت الباب جيداَ، وأسندت ظهري إليه وأنفاسي تكاد تقطع من خوفي الشديد.. ثم أحسست بيد تتلمس كتفي وشممت رائحة نار ملتهبة أو رائحة لحم شواء.. وأنا ما زلت مستند بظهري إلى باب الحجرة لا أقوى على الحراك أكاد أدخل في حلق الباب إن استطعت.. ولكن وجدت يدًا بيضاء تخلو من الدماء تمامًا تخترق الباب من خلفي وتجذبني مرة أخرى خارج الحجرة وتلقى بي على درجات السلم، فتكورت وتدحرجت إلى الأسفل وانتهى بي المطاف إلى حائط واصطدمت به لأجدني فوق السرير بحجرتي.. فحمدت الله إنه كان حلماَ. لكني لم أقو على تحريك رقبتي وكانت رأسي تؤلمني بشدة، تحسست رأسي لأجد بها دماء حديثة لكني شممت أيضا رائحة الشواء.. كانت الرائحة تأتي من اتجاه الشُرفة.. تحاملت على نفسي وقمت من مكاني لأكتشف أن قدمي وظهري بهما التواء أيضا ولكني نجحت أن أصل إلى الشُرفة بمنتهى الصعوبة ونظرت إلى الترعة وجدت سيدة تقف أمام شجرة الصفصاف وتشوي لحم.. حاولت أن أرى وجهها لم أستطع لأنها كانت تعطيني ظهرها، ففضلت أن أنزل إليها لأعرف ما قصتها.

اقتربت من السيدة بخطوات رتيبة أقدم قدم وأؤخر الأخرى. ولكن في الحقيقة ما جذبني إليها ليس معرفة من تكون.. لكن كانت رائحة الشواء هي التي تجذبني وكأن يدًا خفية تدفعني وتسير بي إليها دون أية مقاومة مني.. قاربت منها كثيرًا ولم تعطيني الفرصة التفتت فجأة بوجهها الشاحب الضارب إلى الأزرق وتجويف عينها فارغ تمامًا من محجريهما وشعرها الأبيض ينسدل على وجهها في منظر ينخلع له قلبك.. ثم أمسكت بكتفي وشعرت أن أظافرها تغوص في عظامي وتكاد تخلع ذراعي.

ولم أفق إلا على يد سامي وهو يمسك بكتفي وأنا ملقى على سريري في عيادتي وهو يحاول أن يهدئ من حالي.. انتفضت من فوق السرير وقلت له ماذا حدث وما الذي أتى بي إلى هنا؟

فقال: منذ خمس دقائق وأنا أحاول أن أخرجك من حالة التشنجات وأنت نائم ولم أفلح إلا عندما أمسكتك من كتفيك.. لابد أنك كنت في كابوس فظيع..

فقلت له: كابوس نعم نعم وما رائحة الشواء هذه؟

قال: إنها آتية من الخارج فهناك سيدة تشوي خروف أمام الترعة..

فقلت له: عند شجرة الصفصاف؟

 قال: نعم وكيف عرفت؟

قلت له: لا عليك يا سامي لا عليك. لكن الحمد لله يا سامي لقد شفيت تمامًا من المرض الذي كان يعتريك..

فقال سامي في حبور ونبرة سعيدة: الحمد لله يا دكتور ولكن ما هو المرض بالضبط الذي كان يعتريني؟

قمت من فوق السرير وفي حركة مسرحية كأني ممثل على خشبة المسرح أجوب الحجرة ذهابًا وإيابًا، وشرحت له طبيعة المرض.. فقد كان سامي مريضًا بالفصام الذهني أو شيزوفرينيا.. فهو مرض اضطرابات سلوكية إلى جانب أعراض مرض الذهان الذي يفقد فيه المريض اتصاله بالواقع ويبدو العالم له وكأنه خليط من الأفكار والصور والأصوات المربكة؛ ينتج هذا تغيرًا مفاجئًا ومروعًا في السلوك يسمى "نوبة ذهانية"..عندما انتهيت من الشرح المبسط، وقلت لسامي نَبْذَة عن مرضه.. رفع سامي يده وصفق لي بقوة شديدة وحياني من كل قلبه..فقد أعجب بي وبطريقة شرحي للمرض الذي يعتريني أنا..

وقال لي: أنا أعالجك منذ حوالي السنة تقريبًا يا محمد ولم أتخيل إنك ستفهم حالتك جيداَ بهذه الدرجة برافو عليك يا مانع.. ولكن فهم حالتك ستعجل حتماَ بشفائك شفاءَ كاملًا.. في تلك اللحظة دخل من باب الحجرة عم شحاته فراش العيادة وكان يحمل بين يديه لافتة قد أتى بها من عند الخطاط.. وطلب من الدكتور سامي مراجعتها واستلامها حتى يعلقها على باب العيادة.. راجع الدكتور سامي اللافتة جيداَ وراجع اسمه الذي كان مكتوبًا قبل ذلك بالخطأ.. وقرأ الاسم بصوت واضح.. الدكتور سامي شرابي أستاذ الأمراض النفسية والعصبية.. ثم طلب من شحاته تعليقها فوق باب العيادة.. فقد كان الدكتور سامي هو الدكتور المعالج لحالة محمد المانع الذي يظن إنه هو الدكتور النفسي المعالج.. ولأن عنده مرض الفصام فقد كان يتخيل كل يوم إنه هو الدكتور المعالج وكان يتخيل إنه يرى امرأة بهيئة جنية أو بعض الهواجس.. ولكنه حتماَ في طريقه إلى العلاج.. فكل من عرف علته ومكمن عذابه، فقد وضع أول قدماَ له في طريق العلاج.