«تمسح يابيه؟» قصة قصيرة للكاتب علاء عبدالعظيم

علاء عبدالعظيم
علاء عبدالعظيم

 عويس صبي في السابعة من عمره، جاء من إحدى قرى الصعيد مع أبيه الذي فقده في شجار حدث في سوق السمك، بعدما انتهى بإصابته بسكين في بطنه مات على إثرها في مستشفى قصر العيني.

 

أمسك عويس بصندوق لمسح الأحذية أعطاه له المعلم حنفي، مقابل أن يحصل منه على عدد من الجنيهات يدفعها يوميا له عويس آخر كل نهار.

 

سأل عويس المعلم حنفي عن أنسب مكان يذهب إليه، فهز المعلم حنفي رأسه وقال له: لا شأن لي بهذا، كل ما أريده منك هو المبلغ الذي اتفقا عليه آخر كل نهار سواء نظفت ٥٠ حذاء أو لم تنظف أحذية على الإطلاق.

 

حمل عويس صندوقه الخشبي وسار في طريقه باحثا عن مقهى مزدحم يمسح أحذية زبائنه، ورأى عشرات من الناس يدخنون الشيشة والسجائر، والبعض الآخر يتفرجون على النساء في الطريق.

 

عبر عويس الشارع إليهم، واقترب من أحد الجالسين وطرق صندوقه الخشبي بالفرشاة يقول: تمسح يابيه.

 

وقبل أن يجيبه الزبون، شعر بيد غليظة تقبض عنقه وترفعه عن الأرض، ثم تطوح به على بلاط الرصيف، ونظر وهو ممدد على الأرض ليجد عملاقا ذو شوارب كثة، ينظر إليه نظرات نارية ثم يركله بقدمه، صائحا فيه إنه وحده صاحب الحق في تنظيف أحذية زبائن هذا المقهى، وأشار العملاق إلى قميصه الأزرق وقد كتب عليه اسم المقهى، وقال لعويس مزهوا إنه لا يرتدي هذا القميص عبثا.

 

احتاط عويس في المرة الثانية، وأخذ ينظر بعين أحورارية بحثا عن ماسح أحذية في مقهى آخر قبل أن يطرقه، فوجد بعض ماسحي الأحذية لكنهم لا يرتدون القمصان الزرقاء المكتوب عليها اسم المقهى، وما إن اقترب من أحد الزبائن وفي هذه المرة هجم عليه ثلاثة من ماسحي الاحذية، وطردوه خارج المقهى بالقوة وأخبروه أنهم شركاء في هذا المقهى، وأنهم لا يسمحون لأحد أن يتطفل عليهم ويزاحمهم في رزقهم.

 

وقال له واحد منهم وكان شيخا كبيرا أن له زوجة وأولاد في مثل سنه وأن القرش الذي يكسبه يعود إليهم ومن الظلم أن يزاحمه أحد فيه.

 

وجاء العصر، وعويس لا يجد مكانا واحدا يستطيع أن ينظف فيه أحذية الزبائن، وبدأ يفقد ثقته وتفاؤله اللذين كانا يصاحبانه في الصباح، ويجول بخاطره المعلم حنفي الذي سيتقاضى عدد من الجنيهات آخر النهار.

 

رفض عويس أن يفكر فيما سيحدث له لم يدفع للمعلم حنفي، فهو قادر أن يضربه أو يصيبه بعاهة دائمة.

 

جلس عويس في ركن من الشارع يفكر مهموما، ويغالبه التعب والنعاس والإجهاد، وقد وضع صندوقه الخشبي أمامه.

 

وفجأة انتبه عويس إلى قدم توضع فوق الصندوق، ورفع عينيه في ذهول فوجد رجلا أجنبيا ينظر إليه، ويحدثه بلغة لا يفهمها، وفي سرعة محمومة أمسك عويس بقدم الرجل وبدأ ينظف حذاءه في همة ونشاط، والرجل يحدثه وهو لا يفهم منه شيئا، ويتبادل معه الإشارات.

 

علت الابتسامة شفتي عويس، وعاد إليه مرحه، وشيئ من طفولته المفقودة، ولما فرغ من تنظيف الحذاء أعطاه الرجل الأجنبي ٥٠ جنيها وانصرف.

 

أدرك عويس بعد أيام أن ذلك المكان من الطريق مناسبا لأنه يقع جانب محطة أتوبيس، وموقف سيارات الأجرة، وبالقرب منه فندق كبير للسياح.

 

وبدأ عويس يتعلم كلمات إنجليزية بسيطة، وربح ٨٠ جنيها، و ١٠٠ جنيها في يوم آخر، وقد أعجب به السياح الأجانب لطفولته وسذاجته الواضحة، والتقطوا معه بعض الصور الفوتوغرافية.

 

وأصبح عويس، ماسح أحذيتهم الذي يترددون عليه كل يوم.

 

وفي أحد الأيام فوجئ عويس بصبي صغير يحمل صندوقه الخشبي يأتي ويجلس إلى جانبه في الطريق، ويطالب بمسح أحذية الزبائن، وقبل أن يفكر عويس وجد نفسه ينقض على الصبي ويطرحه ارضا ويكيل له الضربات قائلا: إن هذا هو مكانه المختار، ولا يريد أن يشاركه فيه أحد، وكان الصبي الجديد ضعيفا لا يستطيع المقاومة، فبكى وأمسك صندوقه ومشي متخاذلا.. ولكنه لم يبتعد خطوات حتى رأى لدهشته عويس مقبلا عليه يطلب منه أن يسامحه، ويطلب منه أيضا يشاركه في مكانه من الطريق، ووضع ذراعه فوق كتفه يحتضنه، ويردد رزقي ورزقك على الله.