خواطر الإمام الشعراوي.. المستحق للذكر هو الله

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يواصل الشيخ الشعراوي خواطره حول الآية 200 من سورة البقرة : «فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ ..» قائلا : أراد الحق سبحانه وتعالى أن يردهم فى كل شيء إلى ذاته، فقال لهم: أنتم تذكرون آباءكم؛ لأنهم كانوا يفعلون كذا وكذا، وآباؤكم يفتخرون بآبائهم، انقلوها وسلسلوها إلى خالق كل الآباء وكل البشر، فكل ما يجرى من خير على يد الآباء مرده إلى الله، فإن ذكرتم آباءكم لما قدموه من خير، فاذكروا من أمدهم بذلك الخير.

وهو يريد منهم أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم؛ أو أشد ذكرا؛ لأن كل كائن إنما يستحق من الذكر على مقدار ما قدم من الخير، ولن تجد كل الخير إلا لله، إذن لابد أن نذكر الله.

وأيضاً فإن الإسلام أراد أن ينهى التفاخر بالآباء ليجعل الفخر ذاتيا فى نفس المؤمن، أى فخراً من عمل جليل نابع وحاصل من الشخص نفسه؛ ولذلك يقولون فى أمثال هؤلاء الذين يفخرون بأسلافهم إنهم: (عظاميون) أى منسوبون إلى مجد صنعه من صاروا عظاما تضمها القبور، والله يريدنا أن نكون ذاتيين فى مفاخرنا، أى أن نفخر بما نفعل نحن، لا بما فعل آباؤنا، فالآباء أفضوا إلى ما قدموا، ويريد الله أن يأخذ الإنسان ذاتية إيمانية تكليفية. ومن يريد أن يفتخر فليفتخر بنفسه وما دام القوم يفتخرون بحى منهم، فهم يلتحمون بمن يعطيهم المدد ليكونوا شيئا باقياً ومؤثراً فى الوجود، وليس بذلك الشيء المحدود المتمثل فى أنه يطعم الطعام، ويحمل الحمالات ويؤدى الديات، وإنما يكون بحمل رسالة الإنسانية العالمية.

◄ اقرأ أيضًا | خواطر الإمام الشعراوي.. «الحج والعمرة»

«فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آباءكم أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» لأن ذكركم الله سيصلكم بالمدد منه، ويعطيكم المعونة لتكونوا أهلا لقيادة حركة الحياة فى الأرض، فتوطدوا فيها الأمن والسلام والرحمة والعدل، وهذا هو ما يجب أن يكون مجالا للفخر.

وبعد ذلك يلفتنا الحق فيما يأتى إلى أن الإنسان إذا ما قضى المناسك كان أهلا لأن يضرع إلى الله، ويسأل الله بما يحب أن يسأله، والسؤال لله يختلف باختلاف همة السائلين، وكانوا لا يسألون الله إلا قائلين: يا رب أعطنى إبلاً، يا رب أعطنى غنماً، يا رب أعطنى بقراً، ويا رب أعطنى حائطاً أى بستاناً، يا رب كما أعطيت أبى أعطني.

ولم يكن فى بالهم إلا الأمور المادية، وأراد الله أن يجعلهم يرتفعون بالمسألة لله، وأن يُصَعِّدُوها إلى شيء أخلد وأبقى وأنفع، ومن هنا تأتى المزية الإيمانية، فإذا كنتم ستسألون الله متاعا من متاع الدنيا فما الفارق بينكم وبين أهل الجاهلية؟

ذلك ما نفهمه من قول الله عز وجل فى ختام هذه الآية: « فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِى الدنيا وَمَا لَهُ فِى الآخرة مِنْ خَلاَقٍ». فالعبد حين يؤدى مناسكه لله يجد نفسه أهلا لأن يسأل الله، وما دمت قد وجدت نفسك أهلا لأن تسأل الله فاسأل الله بخير باق؛ لأن الإنسان إنما يُصَعدُ حاجته إلى المسئول على مقدار مكانة المسئول ومنزلته؛ فقد تذهب لشخص تطلب منه عشرة قروش، وقد تذهب لآخر أغنى من الأول فتقول له: أعطنى جنيها، ولثالث: تطلب منه عشرة جنيهات، إنك تطلب على قدر همة كل منهم فى الإجابة على سؤالك.

إذن ما دام العباد بعد أداء المناسك فى موقف سؤال لله فليُصَعِّدُوا مسألتهم لله وليطلبوا منه النافع أبداً، ولا ينحطوا بالسؤال إلى الأمور الدنيوية الفانية البحتة. «فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ربنا آتِنَا فِى الدنيا وَمَا لَهُ فِى الآخرة مِنْ خَلاَقٍ» إن العبد قد لا يريد من دعائه لله إلا الدنيا، ولا حظ ولا نصيب له فى الآخرة، ومثل هذا الإنسان يكون ساقط الهمة؛ لأنه طلب شيئاً فى الدنيا الفانية، ويريد الله أن نُصَعِّد همتنا الإيمانية.